بقلم: شريف سامى – خبير استثمار رئيس الهيئة العامة للرقابة المالية سابقًا
على الرغم من مرور عدة سنوات على تناول النهوض بإدارة أصول الدولة من مساهمات في شركات وأراضٍ مملوكة للمال العام وتعظيم العائد منها، بوتيرة تعلوتارة وتخفت تارة أخرى، إلا أن كافة الدلائل تشير إلى قرب حسم عدد من الملفات الهامة المرتبطة بهذا الموضوع عظيم الشأن.
ولعل ما استجد يمكن تناوله على عدة محاور، أولها ما وافقت عليه الحكومة مؤخرًا من إنشاء صندوق سيادي، وبعيدًا عن مناقشة هل يجوز وصف هذا الصندوق “بالسيادي” أم لا، إلا أن الرسالة الأهم هي توقع قرب إنشاء “كيان” يتولى مسؤولية إدارة شركات مملوكة كليًّا أو جزئيًّا للمال العام وفقًا لرؤية محددة وتوجه واضح، ولا يزال المتابعون في انتظار التعرف على ملامح هذا الصندوق ونطاق عمله وسلطات إدارته وما هي الشركات التي ستدخل تحت ولايته، فالشيطان في التفاصيل كما يقال.
هذا الكيان بغض النظر عن مسماه (صندوق أوجهاز أووكالة أومؤسسة) يستهدف إيجاد إطار مؤسسي لإدارة تلك الاستثمارات وتطويرها وتعزيز حوكمتها وتعظيم العائد منها إضافة إلى تخطيط ومتابعة وتنفيذ تنمية أعمالها وهندستها المالية وتحقيق المشاركات في أنشطتها بصورة محترفة، مع زيادة الشفافية المتوقعة في أدائها. واعتقادي أن القائمين على إعداد التشريعات المنشئة لهذا الصندوق مدركون لحتمية أن يكون لمجلس إدارته سلطات حقيقية لتفعيل دوره أو عن أن ينص على اختيار أغلبية أعضاء المجلس من غير العاملين بالحكومة ممن يتمتعون بخبرات في مجالات الاستثمار والإدارة والتمويل وقيادة المنشآت الكبرى.
ويرتبط بذلك أن تتضح الرؤية بشأن الشركات التابعة لوزارة قطاع الأعمال العام المنظمة بالقانون 203 لسنة 1991 وهي نحو 125 شركة ويضاف إليها الشركة القابضة للصناعات الغذائية التي أصبحت تابعة لوزارة التموين والتجارة الداخلية، كما أن هناك العديد من شركات القطاع العام في قطاعات البترول والنقل والكهرباء وغيرها التي تعمل تحت مظلة القانون 97 لسنة 1983. ولا يفوتنا أن نذكر الشركات التي للمال العام حصص مؤثرة فيها وفقًا لقانون الشركات 159 لسنة 1981 (مثل المصرية للاتصالات) أو قانون الاستثمار (مثل سيدي كرير للبتروكيماويات) إضافة إلى المساهمات في مصارف ومنها ما تتملكه وزارة التجارة والصناعة في بنك تنمية الصادرات ومساهمة وزارة الإسكان في بنك الإسكان والتعمير والحصة الباقية للمال العام في بنك الاسكندرية إلخ، ونرى أن التفرقة القائمة حاليًا بين قطاع أعمال عام وقطاع عام وغيرها بها شيء من التعسف حيث يفترض في التوجه بشأنها –والذي لا أشك أن الحكومة عاكفة على دراسته– الارتقاء بإدارة الدولة لمساهماتها في الشركات التي تعمل على أسس تجارية.
أما المحور الثاني فيتمثل في التعديلات التشريعية التي وافق عليها مجلس النواب خلال الأسابيع الماضية والتي أراها تمثل نقلة نوعية فيما يتعلق بمرافق عامة عتيدة في مصر، تستهدف تنشيط الاستثمار في مجالات السكك الحديدية ومترو الأنفاق، بما يحقق قيمة مضافة لأصولها ويجذب المزيد من رؤوس الأموال المحلية والأجنبية؛ إذ تم تعديل القانون 152 لسنة 80 بإنشاء الهيئة القومية لسكك حديد مصر بما يجيز لها في سبيل تحقيق أغراضها إنشاء شركات مساهمة بمفردها أو مع شركاء آخرين، ويجوز تداول أسهم هذه الشركات بمجرد تأسيسها، كما يسمح للهيئة ولأول مرة منح التزامات المرافق العامة للمستثمرين لإنشاء وإدارة وتشغيل وصيانة مرافق السكك الحديدية دون التقيد بأحكام القانون رقم 129 لسنة 1947 بالتزامات المرافق العامة، والقانون رقم 61 لسنة 1958 في شأن منح الامتيازات المتعلقة باستثمار موارد الثروة الطبيعية والمرافق العامة وتعديل شروط الامتياز، كما وافق مجلس النواب منذ أيام على تعديلات مشابهة في قانون إنشاء الهيئة القومية للأنفاق فيما يتعلق بخطوط مترو الأنفاق والنقل السككي بالجر الكهربائي.
والمحور الثالث في معرض تناولنا لإدارة الأصول المملوكة للدولة يتمثل فيما أعلنته الحكومة المصرية تنفيذًا لما سبق للسيد رئيس الجمهورية التوجيه به منذ أكثر من عام، من البدء في برنامج لطرح أسهم وتوسيع قاعدة ملكية أكثر من عشرين من شركات المال العام، سواء بنوك أو شركات تعمل في قطاعات البترول واللوجيستيات والعقارات أو الخدمات المالية، جاء ذلك بعد مرور فترة طويلة أعيد خلالها تشكيل اللجنة الوزارية المشرفة على هذا المسار، وتغيرت رئاسة تلك اللجنة حتى استقرت مؤخرًا لوزير المالية.
ونرى أنه من الأجدى في هذا السياق عدم التضييق في شأن نسب الملكية التي يتوجب الإبقاء عليها في يد المال العام، ولكن تكون نسبة الحصص المطروحة بقدر ما يستوعب السوق وما يحقق معدلات سيولة مرتفعة للسهم وبما يتوافق مع الظروف الاقتصادية السائدة عند الطرح، ويمكن تحقيق السيطرة المرتجاة للدولة على بعض الشركات من التي تصنف تحت بند “استراتيجية” بوسائل مختلفة، منها اللجوء لما يعرف بالأسهم الممتازة والتي تتيح قوة تصويتية أكبر لحاملها مقارنة بالأسهم العادية، وقد أتاحت التعديلات التي صدرت مؤخرًا بقانون الشركات 159 لسنة 81 من إصدار الأسهم الممتازة في أي مرحلة من مراحل حياة الشركة، كما استحدث تعديلات القانون المشار إليه تنظيم اتفاقيات المساهمين ومن ضمنها النص على اشتراط أغلبية خاصة عند التصويت على بعض القرارات بمجلس الادارة أو الجمعية العامة للشركة، وكلها كما يتضح أدوات تتيح للمال العام من خلال تملك ما بين 20% أو30% من أسهم رأس المال السيطرة على المقدرات الأساسية لشركة دون التدخل في تسيير أعمالها وأنشطتها، والهدف ألا تظل غلبة نسبة ملكية المال العام ضرورة حتمية في الكثير من الشركات التي يجرى توسيع قاعدة ملكيتها بُغية زيادة رؤوس أموالها وتحرير إدارتها والعمل على رفع تنافسيتها بعيدًا عن قيود وموروثات تثقل كاهلها.
ويمثل هذا المحور تأكيدًا لأهمية تعميق سوق المال والعمل على زيادة جاذبيته والسيولة به، ليس فقط للطروحات العامة وإنما لاستقطاب المزيد من شركات القطاع الخاص، ولاستكمال بنية السوق من خلال إتاحة التمويل بإصدار السندات وسندات التوريق إضافة إلى ما استحدث في قانون سوق رأس المال من تنظيم متكامل لإصدار وطرح وقيد الصكوك، والأخيرة تمثل قناة تمويل تجذب العديد من المؤسسات المالية والأفراد الباحثين على الاستثمار في أدوات يرونها متوافقة مع الشريعة الإسلامية.
وفي ضوء القيمة الحالية للجنيه المصرى أمام العملات الرئيسية، فإن أي طرح ناجح يستهدف استقطاب المؤسسات وصناديق الاستثمار العالمية يفضل أن يكون لشركات بقيم سوقية مرتفعة، في رأيى لا تقل عن سبعة مليارات جنيه، ويرتبط بذلك النظر في مدى إمكانية أن يكون طرح عدد من شركات المال العام -والتي ستتاح- جزءًا من رؤوس أموالها لأول مرة، بصورة غير مباشرة، من خلال شركة مالكة (شركة إم) تكون لها حصة سيطرة في عدد من الشركات ذات الصناعة الواحدة، على سبيل المثال شركات البتروكيماويات أو شركات تداول الحاويات والشحن، وفي ضوء هذا المقترح نكون حققنا طرح شركات بقيمة سوقية أكبر بدلًا من عدد من الشركات متوسطة الحجم، وييسر ذلك أيضًا في تشكيل مجالس إداراتها وضم أفضل العناصر لها.
كذلك على مختلف الجهات المعنية بسوق المال في مصر العمل على زيادة وزن مصر في مؤشر مورجان ستانلي للأسواق الناشئة، والذي يبلغ حاليًا 0.11%، وهو ما يتطلب وجود عدد أكبر من الشركات في البورصة المصرية بقيم سوقية وقيمة تداول حر أكبر، فعدد لا بأس به من الصناديق العالمية تفرض عليها سياساتها الاستثمارية اتباع هذا المؤشر، وكل زيادة في الوزن النسبي لدولة بالمؤشر ينتج عنها تدفقات بعشرات أو مئات الملايين من الدولارت من تلك الصناديق، والعكس صحيح أيضًا في حال انخفاض الوزن النسبي، وبالمثل هناك مؤشر فوتسي البريطاني للأسواق الناشئة، ومصر مصنفة به ضمن شريحة “الأسواق الناشئة الثانوية”، مع دول مثل الهند ودولة الإمارات العربية وروسيا، بوزن نسبي 0.16% من خلال ست شركات فقط (مقارنة مثلًا بـ 80 شركة لجنوب إفريقيا ووزن نسبي 8%)، ومن ثم أصبح فرضًا علينا السعي لزيادة هذا الوزن النسبي من خلال وجود شركات أكبر بالبورصة إضافة إلى العمل على الارتقاء لشريحة “الأسواق الناشئة المتقدمة” لننضم لأسواق مثل البرازيل وتركيا وماليزيا، وهي كلها جهود لو كللت بالنجاح سيترتب عليها تدفقات إضافية بمئات الملايين من الدولارت للسوق المصرية، علمًا بأن التحدي ليس فقط مع مختلف الدول بوضعها القائم ولكن ننافس دولًا جديدة على وشك الانضمام لتلك المؤشرات مثل السعودية والكويت، مما يمثل ضغطًا على الوزن النسبي لمصر.