بقلم: أحمد شمس الدين – رئيس قسم البحوث بالمجموعة المالية هيرميس
في الإصدار الأول لجريدة “حابي”، والتي أتمنى لها وللشباب الرائع القائم عليها كل التوفيق في المساهمة في زيادة الوعي المجتمعي بالقضايا الاقتصادية والمالية، رأيت أن يكون موضوع مقالي هو قراءة موجزة لمؤشرات الاقتصاد المصري الأخيرة بعد حوالي عام ونصف من برنامج الإصلاح الاقتصادي والذي شمل جانبه النقدي تعويم سعر صرف الجنيه ورفع أسعار الفائدة بينما اشتمل جانبه المالي على خطة تقشفية للسيطرة على عجز الموازنة المتنامي عن طريق حزمة من الإجراءات أهمها فرض ضريبة القيمة المُضافة وخفض تدريجي لدعم الوقود والمحروقات، وقد كان تنفيذ هذه الإجراءات مجتمعة وفي مدى زمني قصير تكلفة اجتماعية باهظة حيث ارتفع مستوى التضخم في ٢٠١٧ لمستويات قياسية وتآكل مستوى الدخل الحقيقي للأسرة المصرية بشكل كبير وهو ما ضغط على الاستهلاك المحلي والذي كان يمثل قبل التعويم ٨٢٪ من الناتج المحلي (مقارنة بـ ٧٠٪ في ٢٠١٠).
وبالطبع فإن مثل هذه النسبة الكبيرة للاستهلاك المحلي قد أتت على حساب معدل الاستثمار ونسبة التراكم الرأسمالي الضروري لعملية التشغيل والتوظيف داخل الاقتصاد، فانخفض النمو الاقتصادي وازدادت نسبة البطالة منذ ٢٠١١، وقد ساهم في هذا قيمة الجنيه المصري المرتفعة قبل التعويم والتي مثلت حافزًا “وهميًّا” للاستهلاك وعائقًا أساسيًّا لعوائد الاستثمار في مصر.
ومن هنا فقد كان الأمل أن تكون تكلفة الإصلاح المالي الباهظة ثمنًا لإعادة التوازن للاقتصاد المصري لصالح معدل أعلى للادخار (والاستثمار بطبيعة المال) وعلى حساب معدل الاستهلاك، ويمكن قراءة هذا مباشرة عن طريق بيانات الدخل القومي والتضخم، وبصورة غير مباشرة عن طريق مراجعة بيانات المستهلكين للسلع على كافة الطبقات الاقتصادية، فمثلًا تشير بعض البيانات إلى أن عدد مستهلكي الخبز المدعم والسلع التموينية قد ارتفع بشكل كبير بعد قرارات الإصلاح الاقتصادي… أيضًا بمراجعة أرقام مبيعات شركات الأغذية المدرجة في السوق المصرية، تجد أن حجم مبيعات سلع أساسية مثل اللبن والجبن والزبادي قد انخفض بنِسَب ١٥:٢٠٪ تقريبًا بعد تعويم الجنيه، حيث اضطر عدد كبير من الأسر المصرية إلى خفض استهلاكهم بسبب ضيق الحال وعاد البعض إلى المنتجات التي تخلو من العلامة التجارية (unbranded products) والتي يبيعها منتجو الجملة والبقالات الصغيرة غير المنظمة نظرًا لفرق السعر، وإذا انتقلنا إلى طبقة أخرى، نجد أن مبيعات السيارات الملاكي قد انخفضت ب ٤٠٪ تقريبًا عام ٢٠١٧.
ويمكن القول إن الاقتصاد المصري قد امتص إلى حد كبير صدمة تلك الإجراءات وهو الأمر الذي كان محل شك لدى البعض في الداخل والخارج… فبرغم صعوبة التجربة، تشير آخر الإحصائيات الخاصة بمبيعات شركات الأغذية إلى ارتفاع نسبي في المبيعات بعد الانخفاض الكبير في ٢٠١٧.. وتشير بيانات شهر فبراير الماضي إلى ارتفاع مبيعات السيارات بحوالي ٦٠٪ سنويًّا (وبالطبع فهذه النسبة لا يمكن البناء عليها كمؤشر لنسبة النمو خلال العام، ولكنها تظل مؤشرًا على بدايات التعافي بعد أن عانت السوق لقترة طويلة من قلة السيولة الدولارية وانخفاض قيمة الجنيه بعد التعويم).
وبالانتقال إلى ميزان المدفوعات، فقد أدت القرارات النقدية الأخيرة إلى زيادة الصادرات المصرية بـ٢ مليار دولار تقريبًا إلى ٢١ مليار دولار، وهو ما ساهم في خفض العجز التجاري إلى ٣٦ مليار دولار تقريبًا (مقارنة بـ ٣٨ مليار دولار عام ٢٠١٦)، أما بالنسبة إلى ميزان الخدمات، فالمؤشرات القادمة من قطاع السياحة كلها إيجابية حيث ارتفعت عدد السائحين الأجانب بنسبة ٥٠٪ في ٢٠١٧ إلى ٨ مليون سائح بحصيلة إيرادات تقارب الـ ٨ مليار دولار وهو رقم كبير مقارنة بـ ٢ مليار دولار فقط حصيلة إيرادات السياحة في ٢٠١٦ بعد إسقاط الطائرة الروسية في شرم الشيخ وعلى خلفية العمليات الإرهابية التي شهدتها مصر، وإن كان لا يزال ٤٠٪ أقل من مستوى عائدات السياحة في مصر عام ٢٠١٠، ومن المتوقع أن يؤدي رفع الحظر الروسي والبريطاني للسفر إلى مصر إلى المزيد من الانتعاش، وخاصة السياحة الروسية والتي كانت تمثل ٣٥٪ تقريبًا من إجمالي عدد السائحين في مصر، ولندعوا جميعًا أن يقي الله البلاد شر العمليات الإرهابية في هذه المرحلة المفصلية… أما تحويلات العاملين بالخارج، فقد سجلت أرقامًا قياسية بعد تعويم الجنيه، وقد تعدت الـ ٢٥ مليار دولار (٦ مليار دولار في الربع الرابع من ٢٠١٧ وحوالي ٢٣ مليار دولار إجمالي التحويلات في عام ٢٠١٧)… ولهذا فإن الميزان التجاري في الربع الرابع من ٢٠١٧ قد سجل أقل عجز في الثلاث سنوات السابقة وقد تستمر نسبة العجز في التحسن إذا عادت السياحة الروسية كما هو متوقع ومع الزيادة التدريجية في إنتاج حقل ظهر للغاز…
أما من ناحية الاستثمار الأجنبي، فقد أتى معظمه في صورة استثمار في أدوات الدين الحكومي، وهو ما تعدى حاجز الـ ٢٠ مليار دولار حيث ساهمت أسعار الفائدة المرتفعة في إغراء الصناديق الدولية للاستثمار في أدوات العائد الثابت، هذا بالإضافة إلى أكثر من مليار دولار استثمارات إضافية في البورصة المصرية، وإذا كانت هذه الاستثمارات ضرورية لسد الفجوة التمويلية وتحسين سيولة النقد الأجنبي، تبقى الاستثمارات الأجنبية المباشرة في رأيي أساس الحكم على استمرارية وكفاءة برنامج الإصلاح الاقتصادي على المدى الطويل حيث إنها ترتبط مباشرة بالتشغيل ونقل التكنولوجيا والخبرات الإدارية والفنية، والأهم أنها طويلة الأجل بخلاف الأموال الساخنة التي قد تجف منابعها في حالات الأزمات المالية أو اضطراب الأسواق أو التغيير الكبير في أسعار الفائدة وصرف العملات… وحتي الآن لا أرى زيادة ملحوظة في الاستثمارات الأجنبية المباشرة خارج قطاع النفط والغاز، وإن كنت أتمنى وأتوقع أن تؤدي حزمة الإجراءات والتسهيلات الضريبية والإجرائية والتشريعية التي تضمنتها القوانين الجديدة مثل قانون الاستثمار والإفلاس وغيرهما إلى تشجيع المستثمرين على دخول السوق خاصة مع بدء انخفاض إسعار الفائدة محليًّا من جديد، فبالنظر إلى التحديات التي تواجه جميع الأسواق الناشئة الأخرى من تذبذبات أسعار الصرف أمام الدولار وارتفاع مستوى الدين الحكومي والخاص واعتماد معظم هذه الأسواق على أسعار السلع الأساسية، تبقى مصر من أفضل الأسواق جاذبية على الأقل نظريًّا بالنسبة إلى أقرانها من الأسواق الناشئة والمبتدئة… وأخيرًا، فمن أهم التحديات الرئيسة التي يجب الاستعداد لها على المدى المتوسط هي:
1 – ارتفاع أسعار البترول من جديد، بعد أن انخفضت المخزونات العالمية على خلفية الاتفاق السعودي الروسي لفرض سقف إنتاج لضبط السوق العالمية، وارتفاع الطلب بقوة من جديد وأزمات في إنتاج بعض الدول مثل فنزويلا وليبيا وفي حالة إعادة فرض العقوبات الاقتصادية على إيران وهو ما لمح بِه الرئيس الأمريكي موخرًا قبل المهلة التي قد حددها لاتخاذ قرار بشأن تمديد العقوبات يوم ١٢ مايو.. فـ١٠ دولار زيادة في سعر النفط الخام كفيلة بخلق عجز بحوالي مليار دولار على الأقل وهي أكثر من نصف ما قد يحققه إنتاج حقل ظهر من وفر في الميزان التجاري.
2 – ارتفاع أسعار الفائدة على الدولار والتي قد تؤدي إلى هجرة عكسية لبعض الأموال من الأسواق الناشئة إلى الأسواق المتقدمة وفي مقدمتها السوق الأمريكية، وهنا يحب حساب عائد الاستثمار في الأدوات المصرية بدقة شديدة وبأخذ عاملي السعر والمخاطرة في الاعتبار… وإن كنت أعتقد أن أسعار الفائدة حاليًا وبعد الخفض الأخير ما زالت جاذبة للمستثمرين أدوات الدين عالميًّا.
3 – تحويلات العاملين بالخارج لن تستمر في الارتفاع بنفس ذات المعدل، فالأرقام الأخيرة كانت مدعومة بمكاسب إضافية للتحويلات التي كانت تتم بصورة غير شرعية خارج القطاع المصرفي والتي انعدم الحافز الاقتصادي لها بعد التعويم… ويجب الأخذ في الاعتبار النموذج الاقتصادي الجديد والسياسات التقشفية واتجاه بعض دول الخليج (و التي تساهم بحوالي ٦٥٪ من إجمالي تحويلات العاملين) وفي مقدمتهم السعودية إلى برامج استبدال العمالة الخارجية بالمحلية لدعم التوظيف بعد أن انخفضت إيرادات النفط كثيرًا عن السابق.
باختصار، نجحت مصر في الشق المالي من برنامج الإصلاح وبدأ السوق المحلي في امتصاص الصدمة التضخمية وتدريجيًّا بدأ الاستهلاك المحلي في الاستقرار النسبي… والأهم الآن أن تنجح في الشق الاقتصادي والذي يجب أن يأتي في صورة استثمارات مباشرة تنقل التكنولوجيا وتخلق وظائف حقيقة جديدة وتساهم في بناء كوادر فنية وإدارية على أعلى المستويات… بالإضافة إلى طرح أوعية ادخارية جديدة تساهم في رفع معدل الادخار الوطني إلى حدود الـ٢٠٪ على الأقل (مقارنة بـ١٣٪ في ٢٠١٧)… فاعتمادنا على أدوات الدين يجب ألا يستمر طويلًا حيث إن مواردنا الخارجية تعتمد بالفعل على قطاعات متقلبة مثل السياحة وتحويلات العاملين بالخارج وهو ما يجعل اقتصادنا معرضًا لأي صدمات اقتصادية أو مالية دوليًّا وإقليميًّا على المدى القصير.