فنزويلا .. لماذ يعاني اقتصاد الدولة صاحبة أكبر احتياطي نفطي في العالم؟

المنصور- سيارات
aiBANK

توقفت حكومة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو عن نشر المؤشرات الاقتصادية منذ ما يقرب من 3 سنوات، لكن صندوق النقد الدولي قدر في الشهر الماضي أن التضخم في فنزويلا سيرتفع بنسبة مليون في المئة خلال 2018، فيما نقلت رويترز عن  البرلماني المعارض انخيل ألفارادو، أن التضخم في يوليو الماضي انخفض قليلا إلى 125% من 128.4% في يونيو، وفي هذه الأثناء يستعد مادورو لإزالة 3 أصفار من عملة البلاد في محاولة لمواكبة التضخم .. لماذا كل هذه الأرقام المفزعة في بلد يضم تحت أراضيه أكبر احتياطي نفطي مؤكد على هذا الكوكب؟

تعاني فنزويلا أزمة استمرت 5 سنوات تركت العديد من أفرادها غير قادرين على تحمل تكاليف الطعام والدواء، مع رفوف خالية في محلات السوبر ماركت، ومعدلات الجريمة مستمرة في تسجيل أرقام قياسية، لكن وبحسب تقرير لكريستيان ساينس مونيتور،  تأثرت فنزويلا بالتضخم لأكثر من عقد من الزمن، حتى قبل وصول مادورو إلى السلطة بوقت طويل.

E-Bank

جربت البلاد ارتفاع تكلفة المواد الغذائية والسلع الأخرى بسرعة أكبر من نمو الأجور، لكن ارتفاع أسعار النفط في العقد الأول من القرن الحالي، لم يشجع حكومة الرئيس الراحل السابق هوجو شافيز على إنتاج الغذاء محليا، إذ انتهج سياسات رعاية اجتماعية أبقت الأسعار منخفضة للمستهلكين.

سياسات تشافيز ركزت على رفع مستوى الفقراء، لكنه بالغ في الإنفاق على تلك السياسات دون التركيز على الاستثمار في المستقبل، وعندما بدأت أسعار النفط في الانخفاض، دفعت فنزويلا ثمن نقص مدخراتها وعادت الأزمات تلاحقها، وآنذاك ركزت الحكومة أكثر على سداد الديون الأجنبية وتجنب التخلف عن السداد، بدلا من توفير التمويل اللازم لمستوردي الأدوية والأغذية.

طبع عملة جديدة مع حذف عدة أصفار، كانت ضمن حلول كثيرة مبهمة اقترحتها الحكومة لمواجهة الأزمة، وتضمنت إصلاح قوانين صرف العملات، كما توقع خبراء أن تتجه كاركاس إلى تحديد حصص البنزين خلال الفترة القادمة.

بذور التضخم

كان اقتصاد فنزويلا يوما ما موضع حسد أمريكا الجنوبية كلها، في ظل نفطها تمتعت البلاد بتدفق مستمر من العائدات بالدولار ونصيب هائل للفرد من الثروة، ثم جاء هوجو تشافيز إلى السلطة في عام 1998، فحسن الإنفاق الحكومي وسمح نظامه الاشتراكي بزيادة الإنفاق والاقتراض، وبعد إضراب شركة النفط الوطنية العملاقة PDVSA بدعم من المعارضة،  وضع تشافيز سلسلة من الإجراءات لوقف هبوط البوليفار، تضمنت تثبيت سعر صرف العملة، ووضع ضوابط للاستيراد، وتأميم الصناعات الأخرى، وإنشاء نظام الإعانات الغذائية والسلع الاستهلاكية، وقد مثلت هذه الإجراءات بذور أزمة التضخم في المستقبل.

يمثل النفط 96٪ من صادرات فنزويلا ، لذلك عندما انهار سعر النفط الخام في عام 2014 ، مني الاقتصاد بضربة قوية، إذ انخفضت عائدات الحكومة وتراجع عدد الدولارات التي تنفق على الواردات، في وقت يزيد فيه اعتمادها على تلك الواردات نتيجة انخفضا الإنتاج المحلي في السنوات السابقة نتيجة تأثير قرارات مثل ضوابط الأسعار على النشاط الصناعي والزراعي، فضلا عن انحدار كفاءة الشركات المؤممة .. فنزويلا اليوم أكثر اعتمادا على الحكومة في مهمة توزيع السلع والخدمات لكن رفوف المتاجر خالية.

انكماش اقتصادي ثم عجز مالي ثم تبدد الاحتياطيات الأجنبية .. وطباعة!

وفقًا لصندوق النقد الدولي، تقلص الاقتصاد الفنزويلي بنسبة 30٪ خلال الفترة من عام 2013 حتى عام 2017، وتوقع الصندوق انخفاضًا في إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 18٪ في عام 2018 وحده.

الاقتصاد المنكمش يتسبب في حدوث عجز مالي كبير، وقدر البنك الدولي العجز في فنزويلا بأنه تجاوز 20% خلال عام 2015، ومنذ ذلك الحين أصبح الوضع أسوأ.

انخفضت احتياطيات فنزويلا الأجنبية من 30 مليار دولار في عام 2013 إلى أقل من 10 مليار دولار حاليا، ومع انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر من الولايات المتحدة بشكل مطرد من 600 مليار دولار في عام 2011 إلى ما دون الصفر اليوم، فإن الخيار الوحيد أمام الحكومة لجمع الأموال هو إصدار الديون بالعملة المحلية.

وفاقمت العقوبات التي أعلنتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مايو الماضي، من صعوبة وصول فنزويلا إلى العملة الأجنبية بعد تقييد قدرتها على بيع الديون في الولايات المتحدة، ودخلت البلاد في الداومة .. كلما زادت النقود التي تطبعها لتمويل الواردات كلما انخفضت قيمة البوليفار.

أليخاندرو فيرنر، رئيس قسم نصف الكرة الغربي في صندوق النقد الدولي، أوضح سبب التكهن القاتم للصندوق بشأن وصول التضخم إلى مليون في المئة بفنزويلا، وهو توقع يمثل قفزة حادة مقارنة بتوقعاته في أبريل الماضي بأن يصل التضخم إلى 13000٪ فقط.

“نتوقع أن تستمر الحكومة في مواجهة عجزا ماليا كبيرا يموَّل بالكامل من خلال التوسع في الأموال الأساسية (إجمالي النقد الذي يتداوله الجمهور وفي ودائع البنوك واحتياطيات المركزي) .. سيواصل هذا تأجيج تسارع التضخم مع استمرار انخفاض الطلب على العملة”، قال فيرنر، وفقا لما نقله تقرير لصحيفة الجارديان .

عودة المقايضة !

قبل عامين ، كان المتسوقون في فنزويلا يدفعون ثمن مشتراوتهم إلى بائعي الفاكهة بأكوام من البنكنوت ذات الفئة الأعلى في البلاد آنذاك “100 بوليفار”، والآن، وفي ظل تفشي التضخم الجامح، لم تعد حتى تلك الأكوام مجدية للوفاء بثمن احتياجاتهم.

“أصبح من الجنون قبول أوراق من فئة 100 أو 500 أو حتى ألف بوليفار”، قال خوسية باتشيكو أحد البائعين، مشيرا إلى أنه لم يعد يقبل الآن سوى بفئة 100 ألف بوليفار، والتي يصعب الحصول عليها بسبب زيادة الطلب،”وإلا فإنني سأستلم ثمن بضائعي صناديق محشوة بالبنكنوت وسأتكبد عناء نقلها إلى البنك”.

سعر فنجان القهوة، تم قياسه باستخدام مؤشر بلومبرج كافيه كون ليشي، أصبح الآن بأكثر من 2 مليون بوليفار هذا الأسبوع مقارنة بمليون و400 الف بوليفار الاسبوع الماضي، وبـ 190 الف بوليفار في أبريل الماضي.

بالنسبة للفنزويليين، أصبحت الحياة اليومية صراعاً من أجل البقاء، الحد الأدنى للأجور هو 5 مليون بوليفار شهريا، وهو مبلغ يساوي باسعار الصرف الرسمية نحو 41 دولارًا، لكن قلة قليلة من الناس يمكنهم الحصول على النقد الأجنبي بالسعر الرسمي، بينما اللجوء إلى السوق السوداء ينخفض يهذا المبلغ نفسه إلى أقل من دولار واحد.

“نحن مليونيرات ، لكننا فقراء .. الحد الأدنى للأجور يكاد لا يكفي لشراء كيلوجرام من اللحوم لإطعام الأطفال”، تقول ميكوالييدا أورونوز ، ممرضة تبلغ من العمر 43 عاماً وتابعت:”يمكننا توفير الطعام فقط ، لكن إذا حدثت حالة طوارئ صحية فسنموت بسبب ارتفاع أسعار الأدوية التي تزيد كل يوم”.

لا يحمل الأشخاص في فنزويلا اليوم عربات يد لتحميلها بالنقود من أجل شراء البقالة، وبدلا من ذلك ، فقد تحولوا إلى المعاملات الإلكترونية. لكن 40٪ من الفنزويليين ليس لديهم حسابات مصرفية، في حين أن آخرين لا يرغبون في استخدام بطاقات الائتمان أو البيتكوين لدفع ثمن الأشياء الأصغر، لذلك أصبحت المقايضة شائعة.

“المفارقة هي أن هذا البلد يمر بأزمة تضخم عميقة، ومع ذلك لا يستخدم أي شخص أي أموال نقدية .. بإمكانك أن ترى أشخاصًا أثرياء يدفعون مقابل وقوف سياراتهم في المواقف باستخدام أشرطة الحلوى”، قال جيف رامزي، من “مكتب واشنطن” البحثي في العاصمة الأمريكية.

يصعب الأمر بشكل خاص على المتقاعدين الذين يتلقون مستحقاتهم الشهرية نقدا، يشتري سايل أبونتي، وهو متقاعد يبلغ من العمر 73 عاماً ، نصف كرتونة بيض تحتوي مقابل 20 ورقة من فئة 100 ألف بوليفار، “في نهاية العام، وبهذا المعدل، إذا دفعوا المعاش نقداً سيكون علي أن أذهب بعربة يدوية لحمل النقود من أجل شراء نصف الكرتونة نفسها”.

ارتفاع سعر النفط قد لا يخرج البلاد من كبوتها

ونقلت الجارديان عن خبراء قولهم إن الثروة النفطية الهائلة في فنزويلا لن تعيد للاقتصاد انتعاشه، “صناعة النفط في البلاد تعاني من سوء الإدارة ، ونقص الاستثمار ، ومشاكل التدفق النقدي ، والبنية التحتية المنهارة”.

وتتوقع إدارة معلومات الطاقة الأمريكية (EIA) أن إنتاج النفط في فنزويلا يمكن أن ينخفض إلى مليون برميل يومياً هذا العام، قبل ان يعاود الانخفاض مرة أخرى إلى 700 الف برميل بحلول ديسمبر 2019.

ليجلا فيلار، المحللة في إدارة معلومات الطاقة، قالت إن مشكلات فنزويلا عميقة لدرجة أن الزيادة في أسعار النفط لا يمكن أن تحسن وضع صناعتها، “ليس لديهم موظفين مدربين .. ليس لديهم حفارات أو معدات”.

الحكومات التي تجلب التضخم ليست هي التي تخرجنا منها

ويأمل بعض المحللين أن معدلات التضخم المذهلة قد تعجل بإنهاء نظام مادورو، “التاريخ يقول أن الحكومات التي تجلب لنا التضخم ليست هي نفسها التي تخرجنا منها”، قال أوليفاروس المحل لدى ايكوناليتيكا.

وتابع :”من المؤسف أن فنزويلا تتجه إلى الكثير من عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي، لكن يمكن أن يكون هناك انتقال سياسي في هذه المرحلة” .. سيكون الأمر غير منظم بطبيعة الحال، ولكن في النهاية سيحدث الانتقال”.

الرابط المختصر