الاستثمار المباشر العابر للحدود… بين الحرية والتقييد

بقلم شريف سامى – رئيس الهيئة العامة للرقابة المالية سابقاً

تتنافس الدول ولاسيما ذات الاقتصادات الناشئة – ومن ضمنها مصر – على اجتذاب الاستثمار الأجنبي المباشر، بهدف رفع معدلات النمو بها وزيادة فرص العمل لمواطنيها وتحديث قطاعاتها الإنتاجية والخدمية من خلال نقل التكنولوجيا المتقدمة.

E-Bank

إضافة لكونها مصدرا لا يستهان به للعملات الأجنبية بما يعود بالنفع على ميزان المدفوعات ودعم احتياطياتها من النقد الأجنبي.

ومع ما يشهده العالم من تسابق محموم لاستقطاب عشرات المليارات من الدولارات العابرة للحدود والساعية للاسثمار في مجالات الصناعة والخدمات المالية والموارد الطبيعية والبنية الأساسية والزراعة والعقارات بدول أخرى.

أصبحت الكيانات القائمة بتلك الاستثمارات أكثر تعقيداً في هياكلها وفى لجوئها للعمل من خلال شركات ذات عرض خاص ( SPV ) تؤسسها في مواطن مختارة بما يحقق لها مرونة تشريعية ورقابية ويعظم الكفاءة الضريبية.

كذلك يلجأ الكثير من الأفراد ذوى الملاءة المالية المرتفعة والعائلات الثرية إلى حماية ثرواتهم من خلال تحويلها إلى ما يعرف بصناديق الاستئمان (Trusts). وأسفرت تلك الظواهر عن صعوبة التعرف على المستفيد النهائي في الكثير من عمليات الاستثمار لا سيما العابرة للحدود.

فالشركات ذات الغرض الخاص تؤسس فى الكثير من الأحيان فى دول صغيرة تمنح مزايا ضريبية وتيسيرات تنظيمية لاستقطاب تلك النوعية من الشركات، ويطلق على تلك الدول فى الكثير من الأحيان الملاذات الضريبية.

ولأن تلك الشركات لا يكون لديها نشاط تشغيلى يقتصر وجودها على مجلس ادارة يمثل الملاك أو يعهد بذلك إلى مكاتب محاماة أو محاسبة لمتابعة الإجراءات والأنشطة القليلة التى يتطلبها وجود مثل تلك الشركات.

وقد يمتد تسلسل الملكية لأن تمتلك مثل تلك الشركات شركات مشابهة مما قد ينشأ عنه سلسلة تملك طويلة لشركات SPV تعوق تتبع المستفيد أو المالك النهائى. ومن ثم فإنه كما يمكن أن يستخدم هذا النهج فى أنشطة مشروعة فإنه يمكن استخدامه فى إخفاء هوية المستفيد الحقيقى.

ولا توجد معايير دولية جامعة مانعة بخصوص إدارة وحوكمة وإفصاحات تلك الشركات، حيث تتباين الجهات التى تؤسس بها فى درجة مصداقيتها وقوة أجهزة تنظيم الأسواق والرقابة المالية ومكافحة غسل الأموال لديها، فلوكسمبورج على سبيل المثال تتمتع بمصداقية أكبر من جزر العذراء البريطانية والأخيرة أفضل من هندوراس أو بنما.

أما صناديق الاستئمان ( Trust ) والتي لا يوجد لها تنظيم في القانون المصرى، فإنها تعرف بأنها «علاقة قانونية تنشأ من قبل موصٍ يعهد من خلالها إلى وصى بإدارة أموال مملوكة للموصى لمصلحة مستفيد أو أكثر ويمكن أن تتضمن هذه العلاقة القانونية تحديد رقيب مستقل على الصندوق وتحديد اختصاصاته».

وتتعدد الأسباب عالمياً الداعية لتأسيس صناديق الاستئمان ونقل أصول مالية وعقارية لها، وإن كان يمكن تلخيصها في الحفاظ على الثروة والاستمرارية، أو خدمة أجيال تالية من المستفيدين أو الاستمرار فى رعايتهم بعد وفاة الموصى، أو منع تفتت الملكية فى المستقبل بسبب الميراث.

إلا أنه تتبقى إشكالية التعرف على المستفيد الحقيقى من صندوق الاستئمان.

وارتبط بالظواهر السابق الإشارة إليها قلق متنامى لدى الكثير من البلدان والمنظمات الدولية من الزيادة المضطردة في ظاهرة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وربما يسبقها ما تبين للأجهزة والإدارات الضريبية من ضبابية هياكل الملكية وصعوبة معرفة المستفيد النهائي بما يعوق الكشف عن التهرب الضريبى ويحرمها من موارد كبيرة.

لذا نجد أن مجموعة العشرين (G20) تبنت توجهاً عالمياً طورته بعد ذلك منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية شأن تبنى معيار موحد للإبلاغ وتبادل المعلومات المالية بين الدول من خلال اتفاقية متعددة الأطراف، بما يحد من التهرب الضريبي.

وقد أعلنت عدة دول التزامها بهذا المعيار، وننتظر أن تعلن مصر موقفها منه.

يضاف إلى ما سبق أن العديد من الدول ترسخت لديها أهمية إعمال اعتبارات تتعلق بالأمن القومى والتأكيد على حرية المنافسة ومنع الاحتكار بأسواقها، لا سيما في عمليات الاستثمار المباشر وعلى الأخص في الاستحواذات أو عقود إدارة المرافق والبنية التحتية.

وقد تابعنا على سبيل المثال رفض السلطات بالولايات المتحدة الموافقة على استحواذ شركة على بابا الصينية العملاقة على شركة مونى جرام الأمريكية لتحويل الأموال.

كما منعت مجموعة صينية سنغافورية من الاستحواذ على شركة هيير الهولندية المتخصصة في الخرائط ونظم المعلومات الجغرافية بسبب اعتبارات أمنية.

ومن ثم صدرت تباعاً تشريعات أو قرارات تنظيمية وطنية في عدد غير قليل من الدول تضع ضوابط لإمكان الموافقة على مثل تلك الاستثمارات، وارتبط بها الإلزام بإفصاحات ضرورية للتعرف على الهوية الحقيقة للكيانات الراغبة في الاستثمار والكشف عن المستفيد النهائي.

وحتى في أكثر الدول ليبرالية نجد بريطانيا أنشأت سجلاً للأشخاص المسيطرين على الشركات وكذلك ألمانيا تشترط موافقة مسبقة من الحكومة على أي استحواذ تزيد نسبته عن 25% من رأس المال.

وبالمثل فإن أستراليا وكندا وفرنسا تتطلب صدور عدم ممانعة للاستثمار في قطاعات وصناعات محددة.

وربما سبقت مصر دولاً كثيرة في هذا المجال عام 2017 باستحداثها في اللائحة التنفيذية لقانون سوق رأس المال «الباب الثالث عشر – قواعد التعرف على المستفيد للمتعاملين في سوق الأوراق المالية» ينظم ما يتوجب الإفصاح للهيئة العامة للرقابة المالية.

ومن هنا يظهر التحدى بالأسواق الناشئة والمتقدمة على حد سواء بأهمية الموازنة بين عدد من الاعتبارات الوطنية وبين الحاجة لاجتذاب الاستثمار الأجنبي.

ومن جانب آخر فإنه يقع على عاتق كبار المستثمرين والمؤسسات المالية ومستشاريهم القانونيين اللجوء لممارسة النشاط من خلال هياكل ملكية أكثر شفافية ووضوحاً.

الرابط المختصر