بقلم د. ماهر عشم ــ رئيس شركة مصر لنشر المعلومات
تعتبر ثورة التكنولوجيا التي ولدت من رحم شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) في مطلع القرن الحالي من أهم الإضافات إن لم تكن الأهم للبشرية في التاريخ الحديث.
إذ قدمت أرضًا خصبة للتواصل الفوري عبر الحدود الجغرافية فولدت مثلًا وسائل وشبكات التواصل الاجتماعي التي بدأت بغرض ربط الأصدقاء والمعارف بغض النظر عن موقعهم ومحل إقامتهم ثم تطورت لتشمل العديد من التطبيقات التجارية والاجتماعية والمالية.
وتعاظم دور هذه النهضة بابتكار الهواتف الذكية حيث تحررت تلك التطبيقات من الحاسبات الآلية وصارت في يد الجميع أينما كانوا وحيثما ذهبوا.
ثم جاءت الأزمة المالية العالمية في عام ٢٠٠٨ والتي تسببت في فقدان الكثيرين لوظائفهم خاصة من كان يعمل في أسواق المال والبنوك التي أفلست في الغرب ومعظمهم كان من المتعلمين وصغار السن نسبيًّا ولهم باع في استخدام التكنولوجيا.
أفرزت هذه الأزمة جيلًا لا يعمل ولديه خبرة في أسواق المال والبنوك وفي الوقت نفسه معرفة جيدة بالتكنولوجيا مما دفع هؤلاء الشباب إلى التفكير في كيفية استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في إيجاد أعمال ومصادر بديلة للرزق.
نتيجةٌ لذلك ازدهرت التجارة الإلكترونية والتطبيقات المالية وأبرز علم التكنولوجيا المالية الذي يجمع بين معرفة أسواق المال والتكنولوجيا لابتكار تطبيقات وحلول مالية تخدم الجمهور فبدأت شبكات التواصل الاجتماعي بتقديم خدمات تنافس وتزاحم فيها البنوك كمنصات جمع التبرعات على الفيس بوك أو التسليف على الواتس آب في مناطق جغرافية معينة.
قدمت التكنولوجيا المالية تطبيقات عديدة في مجالات التمويل والمقاصة والتجارة والمدفوعات وتحليل البيانات وغيرها حتى أن السمسار «الشاطر» في البورصات العالمية صار مبرمجًا يبتكر برامج تحلل بيانات الأسواق والشركات لحظيًّا بحثًا عن إيجاد أفضل فرصة للاستثمار وإرسال أوامر بيع أو شراء دون تدخل بشري .
مستغلًا وجود شبكات تربط الأسواق العالمية ببعضها وتقارن بينها وتشتري السهم في سوق نيويورك وتبيعه في سوق لندن -على سبيل المثال- عندما تسنح فرصة الربح متجاهلة بُعد المسافات والحدود الجغرافية.
رحبت أسواق المال بهذه الشبكات وعظمت من دورها ودور تحليل البيانات التي تؤدي إلى صنع قرار حتى صارت الأوامر أو القرارات الصادرة من حاسبات تفوق تلك التي يصدرها البشر في بعض الأسواق.
كما أحدث استخدام التكنولوجيا تقدمًا كبيرًا في الشمول المالي وتحويل الأموال عبر الدول والاستغناء عن النقود والبنكنوت واستبداله بوسائل الدفع الحديثة.
توجت هذه الابتكارات باستحداث العملات الرقمية المثيرة للجدل كالبيتكوين المجهولة المصدر والفاقدة لسيطرة أي من البنوك المركزية والتي باركها البعض مضطرًا ليظهر في صورة المساند والمواكب للتطور وحاربها البعض الآخر لحد فتاوي التحريم.
واجتمع الفريقان على عدم قدرتهم على منع التعامل بهذه العملات وإصدار الجديد منها بغض النظر عن جدواها أو فوائدها للبشرية.
أخيرًا وليس آخرًا انتشرت شبكات تداول السلع والخدمات وانتشرت ثقافة التسوق عبر الإنترنت والمدفوعات والتحويلات العابرة للدول والقارات ولم يعد في مقدور أي حكومة السيطرة على التجارة الإلكترونية والبيانات الخاصة بمواطنيها الذين يستخدمون تلك الشبكات.
كما أصبحت بيانات المستخدمين في حد ذاتها سلعة قيمة تتهافت كبرى الشركات على تحقيقها.
بات من الواضح أنه لن تستطيع أي جهة رقابية إحكام السيطرة على تعاملات المؤسسات أو الأفراد ومعاملاتهم التابعة لنطاقها الجغرافي مما دفع هذه الأجهزة الرقابية إلى محاولة اللحاق بهذا السباق ومن هنا ابتكرت ما يسمي بالتكنولوجيا الرقابية.
والتكنولوجيا الرقابية عبارة عن تطبيقات وأنظمة تحاول حماية الأسواق وفرض النظام بها بواسطة تحليل سريع لبيانات عبر الشبكات ومحاولة التعامل اللحظي مع المخالفات وردع المتسبب فيها.
لا يوجد بديل عن تطوير القوانين وتنظيم البيانات وتحليلها المستمر وابتكار التطبيقات الخاصة بذلك للأجهزة الرقابية المالية المتمثلة في هيئة الرقابة المالية والبنك المركزي للتعامل مع هذه المعطيات الجديدة قبل أن تهرب رؤوس الأموال وتؤسس شركات التكنولوجيا المالية في دول ذات بيئة أكثر ترحيبًا بها وتهرب عوائد التجارة والخدمات إلى تلك الدول.