نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط، تنشر جريدة حابي مقالا كتبه اليوم الدكتور محمود محيي الدين، النائب الأول لرئيس البنك الدولي، بعنوان الدروس المهملة من الأزمات المالية.. وإلي نص المقال:
منذ نحو عشر سنوات، وفي أوج الأزمة المالية العالمية الأخيرة، قامت الملكة إليزابيث الثانية بزيارة معدة سلفاً لمدرسة لندن للاقتصاد، لافتتاح بعض توسعاتها الجديدة.
سألت الملكة مستقبليها من أساتذة الاقتصاد في هذه المؤسسة العلمية والبحثية العتيدة، سؤالاً مباشراً وبسيطاً: «لماذا لم يتوقع أحدكم الأزمة المالية قبل وقوعها؟»، فحاول أحد الأساتذة، وهو الاقتصادي لويز جاريكانو، إجابة سؤال الملكة قائلاً بأنه عند كل مرحلة كان كل مسؤول في موقعه يعتمد على آخرين من المسؤولين، وكلهم يظنون أن كل واحد منهم يقوم بعمله على خير وجه. وهو ما تبين بعد ذلك أنه ظن في غير محله.
وبعد عدة شهور من هذا الحوار، أرسلت الأكاديمية البريطانية في شهر يوليو (تموز) عام 2009، خطاباً مفصلاً للملكة، تجيب فيه عن سؤالها الملح عن توقع الأزمات.
كان هذا الخطاب ملخصاً لنتائج مناقشات أعضاء هذه الأكاديمية المرموقة، التي أُسست في مطلع القرن الماضي وتضم أفضل الخبرات في مجالات البحوث الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية.
وخلاصة ما انتهوا إليه أنه كانت هناك مؤشرات متفرقة محذرة من مخاطر واختلالات في الأسواق المالية وفي الاقتصاد العالمي؛ لكن المعضلة تمثلت في صعوبة رؤية هذه المخاطر على النظام الاقتصادي برمته.
فقد جرى العرف على تقييم المخاطر على أجزاء منفصلة ومعاملات محددة وأنشطة بعينها، بمعزل عن التوازنات الكلية للاقتصاد وتشابكاته المعقدة. لقد غابت أبعاد الصورة الكاملة عن النماذج القياسية والتحليلات الرياضية للمخاطر، واحتمالاتها، وتفسيراتها من قبل أفضل العقول.
وبعد عشر سنوات من اندلاع الأزمة، نشرت الأكاديمية ذاتها تقييماً للأزمة المالية على موقعها، تؤكد فيه أهمية التعاون بين جهات الإشراف المالي والبنوك المركزية، لوضع وتطبيق الضوابط المانعة للبنوك من الانخراط في أنشطة مالية عالية المخاطرة، أو معاملات ائتمانية كتلك التي سببت الأزمة المالية الأخيرة.
حقاً صدرت بعد الأزمة قوانين وقواعد رقابية جديدة لرفع الملاءة الرأسمالية للبنوك وزيادة مخصصاتها ضد المخاطر ومتطلبات السيولة المالية؛ ولكن العبرة بتطبيقها بفاعلية من دون تراخ أو استثناء، وبتعاون مستمر بين جهات الرقابة في الدولة المعنية وعبر الحدود.
لو كانت المشكلة تتعلق باستحداث قواعد رقابية مالية جديدة لهان الأمر، فالأزمات المالية المتلاحقة في الزمن المعاصر تظهر أن الدروس المهملة من هذه الأزمات أكثر من تلك التي أخذت بعين الاعتبار.
ولو أن تاريخ الأزمات المالية كان حاضراً بعبره، لما وقعت الأزمة المالية الأخيرة التي أضرت أيما ضرر بالاقتصاد العالمي وعموم الناس، وأسفرت عن خسائر جسيمة في فرص العمل والدخول وتراكم في الديون، فضلاً عن آثار اجتماعية وخيمة وتحولات واضطرابات سياسية، نجمت عن فقدان في الثقة بأنظمة تركت هذه الأزمة تتفاقم حتى وصلت تداعياتها إلى ما وصلت إليه.
تشترك الأزمات، رغم اختلافها في التفاصيل، في عناصر مهمة، منها حالة التراخي في التصدي المبكر لها، مصحوبة بإنكار من المسؤولين، مدعومة بتصور مسيطر بأن الأمر يختلف عما أدى لأزمات سابقة. وهو ما رصده الاقتصاديان كارمن راينهارت وكينيث روجوف، في كتاب لهما، استعرضا فيه تاريخ الأزمات المالية في 66 دولة على مدار ثمانية قرون.
فقبل كل أزمة مالية كبرى كان هناك اعتقاد مسيطر يستبعد حدوثها، يتغلب على الأصوات المحذرة من أزمة قادمة، ويقلل من شأن النذر المبكرة للأزمات، بأن شأن الاقتصاد تحت سيطرة المعنيين بالأمر.
وقبل أزمة عام 2008 كان الرأي المسيطر في الولايات المتحدة هو أن الأمور على ما يرام بفضل مزايا العولمة، وانتعاش قطاع التكنولوجيا، وتطور القطاع المالي والتطبيق الأفضل للسياسة النقدية وظاهرة توريق الديون.
ورغم تضاعف أسعار العقار واشتعال أسعار الأسهم ممولة بديون خارجية هائلة، كان الرأي الغالب أن الولايات المتحدة ودول متقدمة أخرى، لن تشهد أزمة مالية مشابهة لأزمات الأسواق الناشئة؛ ثم حدث ما حدث.
وقد كتبت مقالاً نشرته هذه الصحيفة الغراء بعد شهور من اندلاع الأزمة المالية، صدرته بهذه الكلمات: «ستنتهي الأزمة الاقتصادية الكبرى التي يعاني منها العالم أشد العناء، ستنتهي هذه الأزمة كسابقاتها بعد حين؛ لكن سيدفع ثمنها بشر كثير لم يتسببوا بها، ولم يكن لهم علم بمسبباتها، فلم يسمعوا عن بنك (ليمان) إلا بعد سقوطه، ولم يتعاملوا مع أي أصول مالية فاسدة، ولم ينتهكوا قواعد للإشراف والرقابة المالية، ولم يدلسوا في تجارة الأوراق بخلط الغث منها مع السمين، ولكن هذا حال الأزمات والكوارث، يشترك في تحمل تبعاتها البريء مع المذنب، والفقير مع الغني».
وتوقعت في هذا المقال شح التدفقات المالية الموجهة للدول النامية، وتراجع الاستثمارات الأجنبية، واتباع إجراءات حمائية في سبيل حركة التجارة الدولية وتعثر تمويلها، فضلاً عن شيوع تبني دعاوى شعبوية، تسعى لمكاسب سياسية قد تفرح الساعين إليها في الأمد القصير، ولكنها ستضر عموم الناس بعدها؛ وهو ما حدث.
وقد لعبت البنوك المركزية في الدول المتقدمة دوراً رئيسياً في منع تحول الأزمة المالية إلى كساد اقتصادي شامل، على النحو الذي شرحه الاقتصادي محمد العريان في كتابه الأخير بعنوان «اللعبة المتاحة»، وقد أشار أيضاً الاقتصادي بول تكر لتطور البنوك المركزية في كتابه المستفيض الصادر منذ أسابيع عنها، باعتبارها قوة غير منتخبة.
ومع صدور قوانين جديدة للرقابة المالية، وبفضل تنسيق تم بعد الأزمة في إطار مجموعة العشرين، ومع لجنة بازل، وقواعدها، وبنك التسويات الدولية ومجلس الاستقرار المالي، فإن هناك مؤشرات تظهر بأن الأجهزة المصرفية في الدول المتقدمة، أفضل حالاً وأكثر أماناً اليوم مما كانت عليه قبل الأزمة.
وتظل مع ذلك مشكلات عالقة مهددة للاستقرار المالي، بعضها موجود من قبل زمن الأزمة، وبعضها مما ترتب عليها ومن علاجاتها، وبعضها متأصل في طبيعة الاقتصاد.
أما ما يرتبط بطبيعة الاقتصاد، فهو ما ذكره الاقتصادي هايمان منسكي، عن خطورة اعتماد النشاط الاقتصادي على قطاع مالي يتأرجح بين القوة والضعف والحركة والشلل، بما يؤدي إلى تقلبات حادة في الدورات الاقتصادية، بين رواج وكساد وازدهار وركود.
يعقد من الأمر ما يعرف بظاهرة البنوك «الأكبر من أن تترك لتسقط»، بحكم حجمها وخشية تأثير سقوطها على الاقتصادات العاملة فيها، وما زال هناك عدد كبير منها، فضلاً عن عدد من البنوك الأخرى ضعيفة الملاءة في أوروبا وغيرها. وكذلك انتشار ما يسمى بنوك الظل، وهي مؤسسات مالية غير مصرفية، ومؤسسات غير مالية أيضاً؛ لكنها تقوم بأعمال البنوك، رغم أنها لا تخضع لقواعد الرقابة المالية عليها، وازدياد انتشار هذه المؤسسات؛ خاصة مع الابتكار المالي وتطبيقات تكنولوجيا المعلومات؛ وهو ما يستلزم التوازن بين التطوير المالي وقواعد الرقابة وتوازنها، حماية للحقوق ودرءاً للأزمات.
ولا سبيل للتعامل مع هذه المخاطر إلا بترسيخ ثلاث دعائم، الأولى تفعيل آليات السياسة الاقتصادية النقدية والمالية لتحقيق النمو الاقتصادي، والقضاء على الاختلالات في موازين المدفوعات والموازنات العامة، والسيطرة على المديونيات العامة التي تفاقمت بعد الأزمة المالية.
والثانية، بتوقي أثر العدوى؛ فقد يكون الاقتصاد سليماً معافى؛ لكن الإفراط في ارتباطاته الخارجية أو عدم تنوعها يجعله في غير مأمن من أثر العدوى، هذا خاصة مع تنوع سبل انتقاله، وهو ما يستلزم تفعيل مكونات الطلب المحلي، والمرونة في إجراءات السياسة الاقتصادية في التعامل مع الأسواق الخارجية، والتواصل المستمر مع الشركاء التجاريين والمستثمرين، لتوضيح نقاط التمايز في الاقتصاد المعني.
والثالثة تتمثل في الحرص والانضباط في لغة التصريحات الإعلامية المتعلقة بالسياسات الاقتصادية، وعدم مفاجأة الأسواق المالية والنقدية والمتعاملين فيها بإجراءات غير مألوفة، أو غير مكتملة الإعداد؛ خاصة في أوقات توتر الأسواق، وإلا تسبب هذا في إصابات ذاتية. وسواء كانت هذه الإصابات متعمدة أو غير متعمدة فالخسارة واحدة.
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي البنك الدولي