د. محمود محيي الدين يكتب: مربكات كبرى وسبل التصدي لها

د. محمود محيي الدين النائب الأول لرئيس البنك الدولي .. نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط

كأن توتراً في سوق واحدة لا يكفي، لتشهد الأسواق الثلاث لرأس المال، والتجارة في السلع والخدمات، والعمل، المشكِّلة للنشاط الاقتصادي، تحديات كبرى متزامنة.

E-Bank

كما تتزايد ظروف المخاطرة والارتياب في مسارات الاقتصاد العالمي بما يستوجب التعامل المبكر معها في ظل تطورات سياسية غير مواتية، وتحولات في علاقات بين الدول لا تعين على التعاون بينها في الشؤون الاقتصادية أو غيرها.

حقاً هناك عجز كبير في موازنات الدول، وعجز في موازين مدفوعات أغلبها، ولكن العجز الأكبر هو عجز في الثقة. بما يهدد، إذا لم يتم السعي إلى إعادة بنيان الثقة والتوقي من المخاطر المهدِّدة للاستقرار الاقتصادي، بعواقب وخيمة، وسيدفع عموم الناس الثمن.

وما يهدد استقرار الأسواق وتطورها مجموعتان متميزتان من العوامل: الأولى، رغم خطورتها، تصنَّف على أنها تقليدية شهدها العالم من قبل بدرجات متفاوتة الحدة.

تابعنا على | Linkedin | instagram

والأخرى ترجع لمستحدثات ومستجدات ترتبط بالثورة الصناعية الجديدة وتعيد تشكيل هذه الأسواق الثلاث والاقتصادات المبنية عليها، بل تغيِّر من أنماط حياة الناس وتوقعاتهم.

أما المهددات التقليدية للاستقرار فقد شهدها العالم من قبل، ولكنها قد تأتي مباغتة لمن استرخى، وأكثر حدة على من لم يتحسب لها. فما يهدد أسواق رأس المال، التي نتناولها هنا، وما قد يحيد بها عن القيام بعملها في التمويل، هو ما يعترضها من حدة ارتفاع المديونية العامة، التي وصلت في اقتصادات الدول النامية والأسواق الناشئة لمستويات لم تصل إليها منذ أزمات الثمانينات، التي عصفت باقتصادات دول عديدة وألجأتها لعلاجات كان أيسرها صعب الاحتمال.

ويعقّد من الأمر حالياً، في بعض البلدان، أن المديونية العامة التي تزايدت مدفوعة بانخفاض أسعار الفائدة العالمية، تواجه حالياً ارتفاعات، قائمة ومتوقعة، في أسعار الفائدة للقروض الجديدة مع ارتفاع تكلفة هامش المخاطرة للكثير منها، مع قِصر آجال الاستحقاق. يتزامن مع ذلك ارتفاع للمديونيات الخاصة للشركات وتزايد نسبة القروض التجارية. وبالنسبة إلى الدول الأقل دخلاً تزايد عدد الدول التي تواجه مأزق إدارة الديون بمقدار الضعف خلال السنوات الخمس الماضية.

وتوضح ورقة مشتركة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي عن تقلبات الديون، صدرت منذ أيام، أن مخاطر الديون واحتياجات تمويلها تكون لها آثار أشد وطأة، إذا ما ارتفعت أسعار الفائدة العالمية بمعدل أعلى أو أسرع مما هو متوقع، أو كانت الدولة المعنية أكثر تعرضاً لآثار عدوى من محيطها الإقليمي، أو انخفض معدل نموها أو تعرضت لتقلبات حادة في أسعار السلع الأساسية والطاقة، خصوصاً إذا كانت شديدة الاعتماد عليها تصديراً أو استيراداً.

ومن العلاجات السيئة التضحية بالاستثمارات العامة أو تخفيض الإنفاق على الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة لخدمة الديون، فبهذا تتحول مشكلات راهنة عارضة مؤقتة إلى أزمات مستقبلية ممتدة دائمة الإسهام في تراجع النمو والتنمية والتخلف في سباق تقدم الأمم.

وتحدد الورقة ثلاثة مجالات للتعامل مع متطلبات إدارة الديون العامة: أولها زيادة قدرات الدول على التحليل الفني للديون والمالية العامة وسياساتها.

والمجال الثاني معنيٌّ بتدعيم نظم الإفصاح والمعرفة والمعلومات لكي يتضح حجم الديون والالتزامات بأنواعها على كل الأطراف وإجراءات الإصلاح وفتراتها وأعبائها. والمجال الثالث يرتبط بتدعيم قدرات مؤسسات الدولة والتنسيق بين سياساتها في مجال إدارة الديون والمخاطر.

غنيٌّ عن الذكر أن هذه المجالات الثلاثة في التعامل مع الديون تستوجب إدارة فعالة لجانب الأصول المملوكة للدولة وتعظيم العائد منها، فلا تُترك لتُهدر بحجج واهية.

وهناك ضرورة لاتباع نهجٍ مناظرٍ لإدارة الديون من حيث شمول قواعد البيانات التحليلية لهذه الأصول، والإفصاح عنها واتباع سياسة متكاملة لكفاءة إدارتها قطاعياً وأيضاً على مستوى الجهات المحلية في الأقاليم والمدن والقرى، فلا يُترك أصل أو دين إلا وتم حصره وتسجيله في قاعدة بيانات تيّسر عمل الجهات المنوطة بها إدارتها.

وتتوفر عدة نظم متقدمة، أصبحت ميسورة التكاليف، تيّسر من عمليات الحصر والتسجيل والتصنيف للأصول العامة ورفع كفاءة إدارتها لمن أراد.

أما في ما يتعلق بما أصاب أسواق رأس المال من مربكات مستجدة فهو ما ارتبط بالتقنية المالية ومستحدثات الثورة الصناعية الجديدة في مجال تكنولوجيا المعلومات والاقتصاد الرقمي.

فمن الناحية الإيجابية يسّرت هذه المستجدات من فرص ما يُتعارف عليه بالشمول المالي، إذ خفضت من تكلفة المعاملات ورفعت قدرات خدمة أعداد جدية غفيرة من العملاء الجدد من خلال خدمات الإنترنت والهاتف الجوال. فوصلت الخدمات المالية إلى مناطق نائية وريفية بعدما كانت حكراً على بعض المناطق الحضرية.

ولكنّ هناك مخاطر تتعلق بمدى تأمين نظم المدفوعات وأمان تداول المعاملات، وحماية المتعاملين وسرّية حساباتهم ووقايتها من مخاطر جديدة قد تتعرض لها شبكات التداول ومنصاتها.

كما أن هناك تحدياً يرتبط بالتنسيق بين جهات الرقابة المالية والبنوك المركزية وشركات تقديم خدمات الهاتف وشركات التكنولوجيا. وقد فرضت انتهاكات للخصوصية، من خلال الولوج إلى قواعد البيانات الكبرى والتلاعب بها، خطراً جديداً ينبغي التصدي له. يُظهر ما تعرضنا له من قبل، في مقال سابق، عما يسمى العملات الرقمية المشفرة، والتقلب العنيف في أسعارها بين ارتفاع وانهيار بلا سبب منطقي معلوم، ضرورة أخرى لوجود سياسة متكاملة للتقنية المالية، والارتقاء بالرقابة المالية ومهارات العاملين فيها، وتطوير قواعد حماية المتعاملين مع الجهات التي توفر الخدمات المالية سواء كانت مصرفية أو غيرها، والارتقاء بالوعي المالي في المجتمع.

وقد شهدت الاجتماعات السنوية الأخيرة للبنك وصندوق النقد الدوليين، التي عُقدت في بالي بإندونيسيا، تدشيناً لما أُطلق عليها «أجندة بالي للتقنية المالية»، تناولت 12 عنصراً محدداً لزيادة النفع من إسهامات التقنية المالية في تعبئة الموارد وتوجيهها إلى مسارات التنمية، مع الحفاظ على الاستقرار النقدي والمالي وحماية الحقوق.

والعبرة، من قبل ومن بعد، بفاعلية التطبيق. فعناصر خطة العمل للتعامل مع فرص التقنية المالية وتحدياتها أصبحت معلومة للمعنيين، ولكن تتباين كفاءة التنفيذ بحكم ما يتيسر من الأخذ بأسباب المعرفة وهمة العمل ووضوح الأولويات في عالم شديد التغير.

الرابط المختصر