عن عموم الناس والأفكار وأشياء أخرى

د. محمود محيي الدين النائب الأول لرئيس البنك الدولي

الشرق الأوسط

E-Bank

اعتاد الاقتصاديون في شرحهم لتطور الناتج الاقتصادي وثروات الأمم، أن يستعرضوا ما يعرف بعناصر الإنتاج الثلاثة، وهي الأرض والعمل ورأس المال، ويضيفون إليها عنصراً رابعاً فيما يعرف بالتنظيم، أو دور المطور الذي يحشد هذه العناصر لينتج بكميات منها ما ينتجه.

وتجد هذا متداولاً ومستقراً في أدبيات الاقتصاد، منذ ألّف الاقتصادي الاسكوتلندي الأشهر، آدم سميث، كتابه العمدة عن ثروة الأمم، في عام 1776.

وعلى المنوال ذاته صدر أول كتاب باللغة العربية في الاقتصاد الحديث، وهو كتاب عرّبه الشاعران حافظ إبراهيم ومطران خليل مطران، وصدر عام 1913، عن أصل باللغة الفرنسية، للاقتصادي بول لوروا بوليو.

تابعنا على | Linkedin | instagram

استقر هذا النهج التقليدي في تفسير تطور اقتصادات الأمم، حتى جاءت آراء جديدة تنتقد هذا التفسير الذي لا يستوعب تطورات اقتصادات ليس لها حظ يذكر من الموارد الطبيعية أو رأس المال، ولكنها بزغت وأصبحت في مقدمة سباق الأمم.

وكان من أهم من انتقد هذا النهج التقليدي في التحليل الاقتصادي، الاقتصادي الأميركي بول رومر، الذي فاز منذ أسابيع بجائزة نوبل في الاقتصاد، لما أسهم به في تطوير نظريات النمو الاقتصادي، فيما عرف بنماذج النمو الذاتي أو الداخلي. وشاركه اقتصادي أميركي آخر في الفوز بالجائزة الرفيعة، وهو ويليام نوردهاوس، الذي طور نماذج تطبيقية تربط بين تغيرات المناخ والاقتصاد.

وعودة لرومر الذي يدور تحليله ببساطة حول فرضية أن النمو الاقتصادي يرجع إلى تطور رأس المال البشري. وأن فضل التطور يرجع إلى عموم الناس؛ ليس باعتبارهم مجرد عناصر عمل فحسب؛ بل لأنهم قوة دافعة بأفكارهم، وما اكتسبوه من معارف في الارتقاء بحياتهم، من خلال حسن استخدامهم للموارد الاقتصادية المتاحة.

ألم نرَ هذا التطور الاقتصادي الهائل لدول مثل سنغافورة وكوريا، ومن قبلهما اليابان، وهي اقتصادات فقيرة الموارد الطبيعية، ولكنها غنية برأس المال البشري الذي أُحسن تطويره، بالاستثمار في التعليم المتميز والرعاية الصحية المتكاملة.

إذن فعناصر الإنتاج وفقاً لهذا المنهج الجديد تتمثل في الناس، والأفكار، ومجموعة من الأشياء الأخرى قد تشمل – على أوجه من تباين في الأهمية – عناصر الإنتاج التقليدية.

لم يكن غريباً أن تتصدر هذه الدول الثلاث تحديداً المراتب الأولى في التصنيف الدولي، وفقاً للرقم القياسي الجديد لرأس المال البشري، الصادر عن البنك الدولي هذا الشهر، والذي صنف اقتصادات 157 دولة وفقاً لمؤشرات تفصيلية للتعليم والرعاية الصحية، واحتمالات توقع الحياة للمواليد حتى سن الالتحاق بالمدارس.

وتجد في ذيل القائمة التي شملت 157 دولة، اقتصادات شاسعة الأراضي وغنية بالموارد الطبيعية، كالكونغو ونيجيريا. أما الدول العربية فكان أداؤها، باستثناءات محدودة، سيئاً، ولا يليق بقدراتها أو إمكاناتها الكامنة، التي أمست خاملة، لسوء إدارتها، واضطراب محيطها، وافتقار أكثرها لنهج منضبط للأولويات، يضعها على مسار مستقيم في سباق الأمم.

اعتادت حكومات عند صدور تقارير دولية تصنف الأداء الاقتصادي أن تحتفي، وبمبالغة كبيرة أحياناً، بتلك التي تظهرها في مركز جيد، وتكاد أن تواري تقارير أخرى عن أعين المتابعين وكأنها لم تصدر. الأجدى هو التصدي من خلال أهل الدراية بتحليل هذه التقارير، والانتفاع بالمفيد منها، وهو غير قليل، والعمل الجاد للأخذ بالأسباب للتطوير والتحديث، والتقدم في هذه التصنيفات الدولية.

ربما اكتفت أيضاً بعض الحكومات بتكليف جمع من المستشارين بانتقاد هذه التقارير ومناهج تحليلها، وإظهار أوجه قصورها وانحياز افتراضاتها، وهذه من الأمور اليسيرة حتى على مستوى المبتدئين في التحليل القياسي والاقتصادي، ولكنه لن يغير من حقيقة، لا تحتاج لمزيد من التقارير لإظهارها، أن هذه الدول المعنية لم تحقق ما يجدر بها أن تحققه في سباق الأمم.

ولعلي أشبه هذا بأن تكتفي دولة ما بانتقاد القواعد التي يصدرها الاتحاد الدولي للعبة كرة القدم (فيفا)، وتتجاهل حقيقة أنها في مركز دولي تعيس وفقاً لقواعد اللعبة التي لا يمكن الادعاء بكمالها، ولكنها تطبق على الكافة، متضمنة الأوجه المختلفة لقصورها أو تميزها.

ولعل الأنفع للناس أن تأخذ حكوماتها الأمر بالجدية الواجبة، وذلك للدول التي تسعى حقاً لأن يكون لها شأن بين نظائرها، فتضع سياسات متكاملة للنمو الشامل والتنمية المستدامة، تنفذها مؤسسات تُمكن من إنجاز مهامها، بمنحها الصلاحيات اللازمة في إطار من الحوكمة المنضبطة، وتدبر لها متطلباتها من الموارد، مالية كانت أو غيرها من الموارد اللازمة.

ربما يكون وضع الدولة المعنية في تصنيف دولي متراجعاً أو شديد التأخر، ولكن العبرة منوطة بالأخذ بأسباب التقدم. وقد ذكرنا فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، زكي نجيب محمود، في كتابه المعنون «حصاد السنين»، بأن فكرة التقدم هي الفكرة الأسمى الجديرة بأن يتحراها الناس في شؤونهم، فهي «محتوية على وجوب التغيير، مع متغيرات الحضارات المتعاقبة، والتطور الذي ينقل صورة الحياة نحو ما هو أعلى، ومعنى ذلك وجوب الاهتمام بالمصير، ولا ينفي هذا أن تجيء قوائمه مستندة على تراثنا الذي تركه لنا السلف، على ألا يكون في حياتنا بمثابة النهاية التي نقف عندها؛ بل يكون بين أيدينا نقطة ابتداء نجاوزها إلى مستلزمات حاضر حي ومستقبل مأمون».

لعل فكرة التقدم، والطموحات المرتبطة بها، تستوجب الاستفادة من منهج عملي واقعي للتنفيذ. ولنا فيما فعله الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي مع وكالة الفضاء الأميركية مثل. فقد أُسست هذه الوكالة، المشهورة بـ«ناسا»، في عام 1958، لتحقيق أهداف عامة متعددة، كغزو الفضاء وتطوير تكنولوجيا متقدمة في مجال عملها، وأن يكون لها السبق عن غيرها في العلوم التي يرتكز عليها عملها. وحشد لوكالة «ناسا» من الموارد ما حُشد، وجُمع لها من العلماء ما جُمع.

ولكن كينيدي أنقذها من مصير بيروقراطي، بأن جعل لها هدفاً محدداً، وإلا ظلت هائمة تطلع على المجهول دون هدى أو دليل. فما فعله كينيدي في عام 1961 هو أن جعل لوكالة «ناسا» هدفاً محدداً بأن تصل بأول إنسان إلى سطح القمر، وأن تعود به سالماً إلى الأرض قبل نهاية عقد الستينات.

وكما ذكر الكاتب كارمين غالو في كتابه الصادر حديثاً تحت عنوان «خمس نجوم»، أن كينيدي حول غموض تعدد الأغراض، رغم أهميتها، إلى هدف طموح، محدد الزمن، سهل التخيل، يمكن الحكم عليه بالنجاح والفشل، فتعبأ له الموارد، وتحتشد خلف تحقيقه الجهود، وتستثار من أجل تحقيقه الهمم، وتشحذ العقول.

وقد تحقق هذا الهدف فعلاً في عام 1969، بالخطوة الأولى التي خطاها رائد الفضاء نيل آرمسترونغ، والتي كان لها ما بعدها كقفزة عملاقة للبشرية، كما تنبأ في كلمته التي بثها من القمر إلى كوكب الأرض.

كان ذلك الإنجاز الهائل نتيجة لما يطلق عليه الآن «رمية نحو القمر»، بمعنى الطموح الجريء في اتخاذ القرار. لكن ما يجعل القرار موفقاً ليس ما يعتقده البعض من اكتناف القرار وتضمينه بمجازفات غير محسوبة؛ لكن هو العكس من ذلك، على النحو الذي يؤكده بيل غيتس، مؤسس شركة «مايكروسوفت»، من أن الرمية الموفقة نحو القمر تتصف بأنها ذات هدف قابل للقياس، ويأخذ بألباب الناس ويلهمهم، ويغير بشكل جذري ما يمكن اعتباره ممكناً وقابلاً للتحقيق.

كم يحتاج العرب من رميات موفقة نحو أقمار التقدم والتنمية المستدامة، والقضاء على الفقر، والارتقاء بنوعية الحياة! فعندما يتحقق ذلك، فإن المسارات نحو الغد ستتبدل إلى ما هو أرقى وأنفع لعموم الناس. وعندها يمكن القول بأن المستقبل لم يعد كما كان! فقد كان مرسوماً له أن يظل امتداداً لحاضر لم يحظ فيه العرب من منافع التقدم إلا بالقليل.

* الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي «البنك الدولي»

الرابط المختصر