بقلم أحمد رضوان ـ رئيس تحرير جريدة حابي
«تاج» عابرٌ من أخي مصطفى عبد المقصود، جمعني ورفاق الطفولةِ برابطِ أغنية محمود العسيلي الجديدة «بيت جدتي»، والتي أعادَتني إلى ماضٍ مرَّ عليه ما يزيدُ عن الثلاثين عامًا، وأنعشت حاسةَ الحنينِ بداخلي، وأبطلت –للحظات- واقعية الأيام ووتيرتها السريعة وشؤونها الجديدة.
غالبيتنا يتذكَّر أيامَ الطفولة بالترحُّم والشوق والحديث عن راحةِ البال والتحرُّر من أيِّ مسؤوليةٍ، الضحك واللعب اللذين لا ينتهيان، المحبة الصافية لكل جميل وطيب، والكره الواضح والمعلن لكل قبيح وسيئ، التهور فهناك كبار يحمون، واللَّذة اللانهائية، فلا حساب للخسائر.
في الطفولة أيضًا أحبابٌ فقدناهم مبكرًا ولم يجُد الزمانُ بمثلهم، وأحلام لم تكتملْ، وصعوبات في رحلات التعلُّم، وطلبات لم تُلبى، وصراعات نراقبها بشيء من القلق، ولكن كل ذلك كان يتوارَى أمام حالة من التلاحُم وتشابُهِ الظروف، صنعت غلافًا حاميًا، يمنع الضيق، ويحافِظ على عبور السعادةِ بمُنتهى السلاسة واللطف إلى الجميع.
تُلازمنى في مختلف مراحل عمري وإلى الآن أحاسيسُ عظيمة بالسعادة والرضا والأمل، لا تُفارقني هذه الأحاسيس في أيسر الأحوال وأضيقها، أبحث عن البهجة ولا أرى في الظروف الصعبة إلا تحديًا جديدًا وجب الاستمتاع بتجاوزه بكفاءة ونجاح، تمرنت كثيرًا على ذلك، لماذا إذن حاصرني ويحاصرني الشجن كلما رجع إليّ صدى من هذا الزمن البعيد مثلما فعل العسيلي في أغنيته الجديدة؟ هل الشجن ملازم للحنين؟ ربما فهناك الكثير من الأشياء غير القابلة للاسترداد أو العودة، وإذا كان بيت جدّتي قائمًا، فكيف نكمل «اللَّمة» وهناك من رحلوا ومن تاهوا في دائرة الرحلة؟
ما هذه الأسئلة السخيفة والمزعجة، كنت أستمتع قبل قليل بكلمات ولحن وصور أغنية العسيلي، وأنا أشاركُ رفاقي في جريدة «حابي» رحلة تجهيز العدد الورقي.
كما أنَّ أصدقاء الطفولة لم يرحلوا ودائمًا ما أتذكّر مع من بقي منهم -وهم كثر- أجمل تفاصيل حياتنا، ويتخلّل ذلك أحاديثَ أخرى عن أحوالنا اليوم.
هذا بدأ رحلته نحو مشروعٍ جديدٍ، وذاك يفكر في مستقبل أولاده ويحافظ دائمًا على ودِّ الأقارب ولو باتصال هاتفي، أما ذاك فما زال يستمتع بمشاهدة الأفلام ويتولى بحماسٍ مهمة «المورِّد» لها لنا جميعًا، وهذا جزء من سعادته في سرد الحكم والمواعظ والأقوال المأثورة مثلما كان حاله قبل سنين طويلة.
بعضٌ مما في داخلنا ما زال قائمًا، أضفنا إليه ونزعنا منه، تغيَّرنا كثيرًا في أشياء وحافظنا على أخرى، وما تغيَّر وما بقي ليس بالضرورة ضمن تصنيفات الجيد والسيئ، بقدر ما تدور في فلك العادة.
أما بيتُ الجدة والأب والعم والخال والقهوة القديمة والحارة الضيقة وساحة المدرسة وصوت الجارة ورائحة الصباح وإذاعة القرآن الكريم، فهي النقوش الأولى في العقول والقلوب، ومن الجميل أن تكون الخطوط الواضحة مرسومةً بأحبار جيدة وأصيلة من السعادة والسلام.
ولكن.. ماذا عن الأسئلة السخيفة والمزعجة التي دارت في داخلي؟ ماذا عن متلازمة الشَّجن أليست حقيقة هي الأخرى؟.. بكلِّ تأكيد نعم، وهل تتحقَّق السعادة بلا شجن؟.. الحنين إلى الماضي يعني استحضار بعض منه، ولكن لا يعني العودة إليه. ومن أجل هذا، أفكر جيدًا في تنظيم دورة بلايستيشن ببيت جدتي، وابنتي «ناي» معي.