بقلم د. ماهر عشم رئيس شركة مصر لنشر المعلومات
عصفت أزمات اقتصادية عالمية باقتصاديات مؤسسات، بل ودول قوية فقاومت وصارت أكثر قوة وأخرى انهارت ولم تصمد ومنها من حمل في مهب الأزمة ولا زال يترنح، ومن رحم الأزمات يولد الجديد وتتمحور الآليات الاقتصادية بل والسلوك البشري أيضًا. والجدير بالذكر أن أسواق المال في العالم محصورة ومدارة بواسطة سلوكين بشريين هما الخوف والطمع.
فعندما يلوح شبح الخسارة والتشاؤم في الأفق تغلب قوى الخوف من الخسارة ويتسارع المستثمرون في التخارج بأي ثمن ويسيطر البيع على الشراء ويرمز له بالدب البطيء الحذر. أما عند ظهور بوادر التحسن فتغلب قوى الطمع في المكاسب ويكون الشراء بأي ثمن طمعًا في المزيد من المكاسب ويرمز له بالثور الهائج المندفع دون سيطرة.
هكذا كان الحال الأخير قبيل الأزمة العالمية عام 2008 والتي أطاحت ببنوك كبرة وهددت اقتصاديات دول كبيرة إذ غلب الطمع على البنوك فأغدقت على عملائها بقروض بغض النظر عن الجدارة الائتمانية فأدت إلى تلك الأزمة.
إغلاق المصارف والمؤسسات المالية الكبرى وتقليص أعمال تلك التي نجحت في تجاوز الأزمة على قيد الحياة أدى إلى فقدان كثير من الشباب الذي يعمل بتلك المصارف إلى وظائفهم. تميز هؤلاء الشباب بمستوى عالٍ من التعليم وخبرة لا يستهان بها في المؤسسات المالية ولكن بلا فرص عمل وبلا أمل.
تزامن الأزمة مع الطفرة التقنية التي تحققت بانتشار الهواتف الذكية والبنية التقنية القوية وظهور شبكات وتطبيقات ووسائل التواصل الاجتماعي مما وفر الفرصة لهؤلاء الشباب بالبقاء على قيد الحياة في سوق العمل والالتحاق بتلك الشركات بما يحملون من خبرات المؤسسات المالية والمصارف.
هنا بدأت المرحلة الثالثة في حياة التكنولوجيا المالية وكانت سبقتها مرحلتان الأولى بدأت بظهور التلغراف والفاكس والتلكس والثانية في الستينات بظهور الحاسبات والشبكات والكابلات التي ربطت القارات. تميزت هذه المرحلة الثالثة بتقديم خدمات مالية -اعتادت المؤسسات المالية على توفيرها للعملاء دون غيرها من المؤسسات– بواسطة الشركات العاملة في وسائل التواصل الاجتماعي كالتمويل بواسطة فيسبوك والتسليف المباشر بواسطة واتساب وغيرها من الابتكارات.
استغلت تلك الخدمات النجاح المنقطع النظير الذي حققه التواصل الاجتماعي في الوصول إلى أعداد غير مسبوقة من البشر وصارت شبكات جيدة لتقديم خدمات مالية لا تستطيع المصارف الأكثر انتشارًا في العالم الوصول إلى أعداد تفوقها مهما كثرت فروعها وخدماتها الإلكترونية. كما ظهرت ابتكارات أخرى هددت عروش المصارف المركزية ولم يعرف أي منها الطريقة المثلي لمراقبتها والتعامل معها كالعملات الرقمية ومنها حتى من لم يتم التعرف على مصدره وتداول بأرقام فاقت أي تداولات في أصول أخرى في تاريخ الاقتصاد.
هنا ظهرت فئتان من ردود الأفعال عالميًّا ومحليًّا: الأول هو من أخذ على سهوة وأسقط في يده ولم يدر كيف يتعامل مع تلك المتغيرات وكيف يمكن استغلالها الاستغلال الأمثل لتحقيق طموحات وأهداف المؤسسات التي يقوم بإدارتها.
وعندما تمت إفاقته بالواقع السريع الصاخب أراد أن يتجمل ويلحق بقطار الابتكارات فأنشا إدارات متخصصة وبحث عن كوادر مشهود لها وعينها ولهث وراء التطبيقات التي تبدو وجيهة في عالم التكنولوجيا المالية والتي تؤدي نفس الأغراض التي تؤديها التطبيقات الموجودة دون تغيير وتمخض الجمل فولد فأرًا.
وهناك مؤسسات صغيرة وكيانات ناشئة ظهرت وأسسها شباب مثيل لشباب عام 2008 في الغرب منها القليل جدًّا الذي أفسح له المجال وكبر وفرض نفسه على الساحة ومنها من هو غاية في الروعة والابتكار ولكنه يصارع بحثًا عن الصفقات أو التمويل أو كلاهما ليبقى أطول فترة ممكنة حتى تأتي الفرصة والنجاح.
أعتقد أنه أجدى للمؤسسات المدعية الابتكار والتي تنفق الأموال الطائلة حتى تبدو بصورة المتقدمين في عالم التكنولوجيا المالية الاستعانة بهذه الكيانات إذ إنه بمرور الزمن يبقى الحقيقي ويزول من لا نفع له. إذ إن الابتكار وسيلة لتحقيق التقدم والرفاهية وزيادة الأرباح وتقديم خدمات أفضل وليس غاية للتجمل والظهور بمظهر وإن بدا جميلًا فالزمن كفيل به.