بقلم مجدي سرحان ـ رئيس مجلس إدارة جريدة حابي
الموجة الخامسة من مظاهرات «السترات الصفراء» التي تشهدها العاصمة الفرنسية باريس ومدن أخرى مثل بوردو وتولوز.. كشفت عن الوجه الحقيقي لما يحدث في “بلاد النور والحرية”.. حيث لم يعد المتظاهرون يرفعون شعارات مطلبية تتعلق بالأسعار أو الضرائب أو الرواتب وخلافه.. وارتفع سقف مطالبهم بشكل واضح ليأخذ طابعا سياسيا.. وأصبحوا يطالبون برحيل الرئيس ماكرون.. وحل البرلمان.. والخروج من الاتحاد الأوروبي.
●● وعلى أي حال
لا يمكن بالطبع استبعاد الطابع الاجتماعي أو الاقتصادي كبعدين أساسيين في تحريك الشارع الفرنسي وتنامي الموجات الاحتجاجية التي أشعلها قرار فرض رسوم إضافية على أسعار الوقود.. لكن في عمق الأزمة تكمن أسباب سياسية واجتماعية أيضا يمكن اعتبارها المحرك الرئيسي لهذه الاحتجاجات وتداعياتها.
وزير المالية الفرنسي عبّر عن هذا المعنى مؤكدا أن المجتمع الفرنسي يعاني أزمة ثلاثية الأوجه هي التي حركت الآن ما يمكن تسميته ـ حسب محللين غربيين ـ بـ «ثورة الطبقة الوسطى» في فرنسا.. وهذه الأوجه الثلاثة هي:
● «أزمة اجتماعية» ترتبط بتآكل القدرة الشرائية لدى الأفراد.. وبشعورهم بفشل رئيسهم في تحقيق ما وعد به من إصلاحات للاقتصاد الفرنسي الذي يعاني من أزمة مزمنة.. تتمثل في أنه يحتل المرتبة السادسة على مستوى العالم والثالثة على المستوى الأوروبى لكنه يعانى نقصا فى ناتج دخله القومى وارتفاع فى نسبة الدين وعجزا فى الإنفاق العام وارتفاعا في نسبة البطالة.. لكن ماكرون اضطر الى اتخاذ قرارات تقشفية كان سابقوه يحجمون عنها تحسبا لانعكاساتها الاجتماعية السياسية السلبية.. أدت إلى رفع أسعار السلع الأساسية والضرائب.. وهو ما أدى في النهاية الى وضع المزيد من الضغوط المعيشية والأعباء على كاهل أفراد الطبقة المتوسطة بشكل خاص.. بينما بادر في نفس الوقت على اتخاذ إجراءات مضادة لتحفيز الاستثمار وزيادة الدخل العام.. من خلال خفض الضرائب على رجال الأعمال وأصحاب الشركات الكبرى الذين عاونوه في الانتخابات.. ولذلك أطلق عليه الكثيرون من الفرنسيين لُقب «رئيس الأغنياء».
● أما الأزمة الثانية التي يحددها الوزير الفرنسي فهي «أزمة ديموقراطية» تتعلق بعدم كفاية التمثيل السياسي لقوى المجتمع وشرائحه في البرلمان.. وهي أزمة إما أنها تعود الى خلل في النظام السياسي نفسه.. أو تعود الى خلل تنظيمي في الأحزاب المعبرة عن التوجهات السياسي الرئيسية في المجتمع ادى الى غيابها عن مؤسستي الحكم والتشريع.
● والبعد الثالث للأزمة من وجهة نظر وزير المالية الفرنسية هو أن هناك ما يصفه بأنه «أزمة أمّة تواجه انقسامات ضخمة».. انقسامات ايديولوجية وسياسية بين أنصار كل من قوى اليمين المتوحش واليسار المتطرف والوسط المتخاذل.. وهذه الانقسامات أفقدت أفراد المجتمع الثقة في جميع هذه القوى وفي النظام السياسي برمته.. كما أنها أظهرت الوجه القبيح للمجتمع القائم على «تعدد هويات أفراده».. حيث يبدو الفرنسيون في انقساماتهم هذه بلا هوية موحدة حدة تجمعهم على هدف واحد ورؤية وطنية واحدة.
هذا الانقسام تحديدا تعهد ماكرون في خطاب ترسيمه رئيسا لفرنسا بمواجهته والقضاء عليه.. لكن الفرنسيين يشعرون بأن رئيسهم فشل أيضا في تحقيق هذا الوعد.
●● من هنا
جاء اختيار الكثير من الفرنسيين للطريق الآخر.. وهو نقل المعركة الى الشوارع بديلا عن المؤسسات والروافد السياسية وعن صناديق الانتخابات.. وهو خيار لم يكن بعيدا عن الكثيرين من الفرنسيين الذين كانوا يلوحون به حتى في خضم المعركة الانتخابية الضارية التي انتهت بفوز «ماكرون».
وقد عبر عن ذلك مواطن فرنسي في تصريحات إعلامية بعيد انتخاب ماكرون بقوله: «إن انتخابات الرئاسة الفرنسية الأخيرة كانت للاختيار بين أمرين أحلاهما مر.. إما الفاشية أوالاحتكارات المالية.. وأنه يرى الآن وبعد هذه الانتخابات أن «السبيل الوحيد ـ لمواجهة هذين الخيارين ـ هو نقل المعركة إلى الشوارع».
●● ويبدو أن الملايين من الفرنسيين الذين أصابهم الإحباط في ظل فشل ماكرون في تحقيق وعوده.. وبشكل خاص هؤلاء الذين قاطعوا الانتخابات الأخيره.. وهم يقدرون بالملايين حسب الاحصاءات الانتخابية.. قد توحدوا الآن أما هذا الخيار الثالث.. خيار «معركة الشوارع».. وهو ما يحدث حاليا.. وما ينذر بثورة حقيقية.. وليس مجرد موجات احتجاجية يمكن مواجهتها أمنيا بالعصي الغليظة وقنابل الغازات.