استثمار مؤثر!
بقلم د. محمود محيي الدين النائب الأول لرئيس البنك الدولي
في ظل ازدياد حالات الغموض والاضطراب وعدم اليقين التي يشهدها اقتصاد العالم وأسواقه المالية الكبرى، تكررت الإشارة إلى بزوغ نوع جديد من الاستثمار، طاب لأنصاره ومروجيه أن يطلقوا عليه «الاستثمار المؤثر». وعلى مدار الشهور القليلة الماضية عقدت مؤتمرات وندوات في شتى ربوع المعمورة، لتبني هذا النمط الجديد من الاستثمار، وتعرف به وتميزه عن الاستثمارات المتعارف عليها.
وازداد إنشاء صناديق تمويل ضخمة على مدار العامين الماضيين، صرح مؤسسوها بأن استثماراتهم تتشكل من هذا النوع المؤثر لا سواه. وأُعلن مؤخراً أن الأصول المستثمر فيها قد بلغت 228 مليار دولار في شهر ديسمبر (كانون الأول) 2018، بزيادة تقدر بضعف قيمة ما كانت عليه في العام السابق. وتشير التوقعات إلى أن تتجاوز أرقام هذه الاستثمارات تريليون دولار في الأجل القصير، وقد تزداد هذه الأرقام مع تحول استثمارات تقليدية لهذا المسار الجديد بالتوافق مع معاييره.
ويميز هذا النوع من الاستثمار استهدافه لمجالات تحقق عائداً اجتماعياً وبيئياً إيجابياً، قابلاً للقياس، فضلاً عن العائد المالي لمشروعاته.
قد يتداعى إلى الذهن أن الاستثمار المسؤول اجتماعياً أمر متعارف عليه منذ فترة، ويعتمد على معايير بيئية واجتماعية بالإضافة للحوكمة؛ لكن الجديد في الأمر يتمثل في أن المستثمرين لا يكتفون بمجرد تجنب إلحاق الضرر بالبيئة أو المجتمع؛ لكنهم يستهدفون بالأساس تحقيق قيمة مضافة إيجابية وملموسة من خلال مشروعاتهم.
وتتمثل أهم مجالات هذه المشروعات فيما يرتبط بتغيرات المناخ من استثمارات، والتعامل مع ما تسببه منتجات البلاستيك من تلوث بيئي؛ خاصة لمياه الأنهار والمحيطات، وكذلك الاستثمار في الطاقة النظيفة والمتجددة. كما تمنح أجندة 2030 لأهداف التنمية المستدامة، والتي أقرتها قمة خاصة بالأمم المتحدة في عام 2015، مجالات متنوعة للاستثمار المؤثر، من أهم أولوياتها مكافحة الفقر وسوء التغذية، والارتقاء بالتعليم والرعاية الصحية، مع مراعاة العدالة بين الرجل والمرأة، وتطوير البنى الأساسية.
وتجد هذه الدعوة للاستثمار المؤثر دعماً من بنوك وصناديق الاستثمار الكبرى. فعلى سبيل المثال أرسل لاري فينك، المدير التنفيذي لـ«بلاك روك»، أكبر مؤسسة مالية لإدارة الأصول، خطاباً لعملائه العام الماضي، موضحاً فيه أنه قد بات لزاماً على الشركات التي تسهم فيها مؤسسته أن يكون لها غرض اجتماعي تخدمه، ومذكراً بأن المجتمعات تتوقع من قطاع الأعمال، سواء كان خاصاً أو عاماً، ألا يكتفي بتحسين أدائه المالي؛ بل أن يُسهم إيجاباً في المجتمع الذي يعمل فيه.
هذه التوجهات المحبذة للاستثمار المؤثر، تدفعها مراجعات ما بعد الأزمة المالية العالمية، وما ارتكبته مؤسسات مالية وشركات من تجاوزات أضرت بالمجتمع والاقتصاد، كما يساندها ما تبين بالأدلة من أن هذا النوع من الاستثمار المتوافق مع الاعتبارات البيئية والاجتماعية لا يتعارض مع تحقيق عائد مالي مناسب.
وقد أوضحت دراسة حديثة من خلال استطلاع رأي 1100 مسؤول مالي للشركات، أن اعتبارات الحوكمة هي الأكثر أخذاً في الاعتبار من قبل قيادات هذه الشركات، مقارنة بالعوامل البيئية والاجتماعية التي تحتاج اهتماماً أكبر من الناحية التنفيذية، رغم كثرة الحديث عنها.
وحتى تؤخذ مسألة تأثير الاستثمار مأخذ الجد، يجب الاتفاق على مبادئ يستند إليها، ومعايير تطبق لتصنيف أنواع الاستثمار من حيث الأثر، وألا يُترك الأمر للمستثمرين وحدهم يروجون لما يفعلون، باعتباره ذا أثر إيجابي على المجتمع وعائد مالي للمساهمين، دون متابعة أو إشراف.
وقد وضعت مؤسسة التمويل الدولية، بالمشاركة مع مجموعة من المؤسسات المالية وصناديق الاستثمار، قائمة بالمبادئ التي يمكن الالتزام بتطبيقها عند القيام بهذا الاستثمار المؤثر. وتشمل هذه المبادئ المراحل الأربع لإدارة الاستثمار، بداية بوضع استراتيجية الشروع في الاستثمار ونهاية بالخروج منه أو إنهائه، ومروراً بوضع هيكل التمويل وتعبئة مصادره وإدارة المحفظة المالية. وتتمثل هذه المبادئ في تسعة أمور:
أولاً، تحديد أهداف الاستثمار المؤثر، بالتوافق مع أهداف التنمية المستدامة.
ثانياً، إدارة الأهداف غير المالية للاستثمار، بشكل مماثل لإدارة الأهداف المالية له.
ثالثاً، تحديد ما يمكن للمستثمر الإسهام به، لتحقيق الأثر المرجو.
رابعاً، تقييم الأثر المتوقع للاستثمار، وفقاً لمعايير منضبطة ومتوافقة مع أفضل الخبرات العالمية.
خامساً، تقييم ما قد يترتب على الاستثمار من أوجه سلبية، والتعامل معها ومراقبتها.
سادساً، متابعة أداء الاستثمار مقارنة بالمخطط له، وفقاً للنتائج المتحققة، واتخاذ الإجراءات المناسبة.
سابعاً، القيام بتحديد أسلوب التخارج من النشاط، وتوقيت هذا التخارج، وفقاً لاعتبارات استدامة الأثر الإيجابي للاستثمار.
ثامناً، مراجعة قرارات الاستثمار في مراحله المختلفة، وتحسين عملية اتخاذ القرار، وتوثيق ما تم بدقة.
تاسعاً، النشر والإفصاح الدوري عن نتائج الاستثمار، ومدى تحقيقه للأثر المرجو من قبل جهة مستقلة.
ومن ناحية تطبيق هذه المبادئ والمعايير في الدول العربية، فيستوجب الأمر اهتماماً بثلاثة أبعاد للاستثمار: الأول، يتعلق بأهمية جذب الاستثمار المؤسسي طويل الأجل، وتدعيم دوره في التنمية المستدامة. فكيانات الاستثمار المؤسسي على مستوى العالم تدير أصولاً تتجاوز 70 تريليون دولار، وتقوم بدور محوري في تحويل مدخرات الأفراد قصيرة الأجل لأصول ومساهمات في الشركات، بدرجات مختلفة من المخاطرة. فخلافاً لاستثمارات التجزئة ومساهمات الأفراد، فهذه المؤسسات تحتفظ بحصص كبيرة في الشركات لفترات طويلة، وعادة ما تديرها مباشرة دون وسطاء، وتضع قواعد تحفز مديري الشركات والعاملين بها على الالتزام بأهداف طويلة الأجل لنشاط الشركات، وتساندها في أوقات تقلبات الأسواق.
ويرتبط البعد الثاني بدور محوري مأمول لصناديق الاستثمار السيادي العربية، سواء الموجودة أو تلك التي تحت التأسيس، في الدفع بالاستثمار للاستقرار لآجال طويلة. فصندوق الاستثمار السيادي في سنغافورة، وهي دولة غير بترولية وفقيرة في الموارد الطبيعية، يتبنى نهجاً زمنياً في تقييم الاستثمار، حده الأدنى خمس سنوات، ويصل لعشرين سنة، ويقوم بإثابة مديري الشركات على أساسه.
وفي ظل تقلبات تشهدها أسواق المال تزداد الحاجة لمثل هذه الصناديق، حتى تساند استقرار الأسواق. ومع طغيان توقعات تميل للتشاؤم بسبب توتر حركة التجارة الدولية ونزاعاتها، وغموض مستقبل النمو في دول متقدمة ونامية، واتجاهات السياسة النقدية وتأثيرها على سعر الصرف، وتقلب أسعار السلع الأولية، بما في ذلك النفط، تتعلق الآمال بدور أكبر لهذه الصناديق في دفع الاستثمار المؤثر طويل الأجل.
أما البعد الثالث، فيتعلق بالحجم الأمثل للاستثمارات والمشروعات المطلوبة للتنمية. فقد ساد توجه في الدول العربية، مدفوع في أحوال كثيرة باعتبارات سياسية وآيديولوجية، إلى تحبيذ حجم معين للمشروعات. فهذا ينادي بأن تكون الأولوية للمشروعات الصغيرة، وأنها «جميلة» لما تقوم به من دور اجتماعي، وذاك يدعو لمساندة المشروعات الكبيرة باعتبارها «أجمل»، لارتباطها باقتصاديات الحجم الكبير والتطوير والقدرة على المنافسة الدولية. والعبرة بأن يكون مناخ الاستثمار مسانداً لمنافسة عادلة في الاقتصاد، دون تحيز لحجم أو قطاع، وفقاً لقواعد رقابية حصيفة، وتحفيز تنافسية المجالات التي تحقق أهداف التنمية، التي يمر الزمن سريعاً دون تحقيق نقلات نوعية على طريق إنجازها، فليس عام 2030 الذي تنتهي معه أجندة التنمية المستدامة، عن الناس ببعيد.
نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط