قبل أن يطير الدخان

بقلم د. ماهر عشم رئيس شركة مصر لنشر المعلومات

عاصرت في حياتي أو على الأقل أتذكر تأثير ثلاث موجات من تخفيض قيمة العملة المحلية أمام الدولار. كل موجة كانت تأتي بعد أعراض تنبئ بضرورة اتخاذ تلك الخطوة وتنذر بضرورة التحرك السريع وكل مرة كانت القرار يأتي متأنيًا كثيرًا فيكون تأثيره أكثر ألمًا على العامة وعلى الاقتصاد وكل مرة تتبعه موجة تضخم عنيفة يصعب السيطرة عليها.

E-Bank

كل مرة سبق القرار سوق سوداء نشطة جدًّا كانت بمثابة المتنفس الوحيد للنشاط التجاري الرسمي وغير الرسمي. لم تكن لدينا يومًا آلية لقياس حجم تلك السوق وبناء على ذلك لم تعرف مصر يومًا قياسًا حتى شبه دقيق لكميات العرض والطلب من العملات الأجنبية إلا في السوق الرسمية. فإذا أجمعت الآراء بأن النشاط الاقتصادي غير الرسمي يفوق النشاط الرسمي في الحجم فلا نبالغ إن قلنا إن حجم السوق السوداء في العملة تجاوز أضعاف حجم السوق الرسمية.

نتذكر بكل ألم تدخل الإرهاب في تلك السوق والجماعات التي سيطرت على نشاط الصرافة واشترت العملات من المصريين العاملين خارج البلاد من المنبع في دول الخليج، ونشطت الهيئات التي تقوم بنشاط مقاصة العملات بين مصر والدول التي نشط الاستيراد منها ولم تتوفر للدولة أو الجهاز المصرفي وقتها الآلية اللازمة للتعامل مع تلك الأزمة وأي آلية كانت تشترط أن يسبقها التعويم أو على الأقل التخفيض. الفرق بين التعويم والتخفيض هو أن التعويم يعني تحديد سعر العملة على أساس كميات العرض والطلب التي تتلاقى في نقطة اتزان هي السعر وعندما يزيد العرض يقل السعر والعكس صحيح، أما التخفيض فهو تحديد قيمة جديدة أقل للعملة المحلية وإدارتها بواسطة الجهاز المصرفي والبنك المركزي.

وإن اختلفنا على حقيقة قيمة الجنيه مقابل الدولار ودون شروط صندوق النقد وتأثيرها على هذه القيمة فلن نختلف على أن البنك المركزي أدار هذا الملف بعد التعويم بما أدى إلى تثبيت سعر الدولار إلى حد كبير والانتهاء من أزمات الشركات الأجنبية التي كانت تنتظر توافر الدولار للحصول على مستحقاتها وتحويلها للشركات الأم مما كان السبب في ضعف تدفق المزيد من الاستثمارات الأجنبية وانتهت الأزمة الخاصة بتلك الشركات، كما وصل المركزي إلى رفع القيود عن تحويلات الأموال بالعملة الأجنبية وغيرها من القيود التي فرضت على أنشطة الاستيراد وإذ يحسب له بلا شكولكن تعالت في الآونة الأخيرة أصوات كثيرة ممن يدعون الخبرة ونقلًا عن خبراء بأن الجنيه سيفقد مزيدًا من قيمته ولا اأدعي الخبرة في هذا المجال ولا أناقش قيمة الجنيه ولا أرى ما يراه هؤلاء «الخبراء» أو من ينقلون الكلام الخاص بهذا الملف الخطير لكن أنتهز الفرصة -فرصة هذا الدخان- وأدعو إلى حل قد يكون توقيته مناسبًا أكثر من قبل لتحصين مصر ضد السوق السوداء وقطع رأسها للأبد في سوق العملة قبل أن يطير الدخان ونرجع إلى اللعب أمام المرمى مرة أخرى كما تفعل فرق الكرة التي تود الحفاظ على الكرة واستهلاك الوقت.

هذا الحل يكمن في إنشاء سوق أوامر إلكترونية للعملة على غرار بورصة الأوراق المالية وإنشاء تطبيقات خاصة به مربوطة على البنوك وشركات الصرافة وموجود شاشات وممثلون لها في كل سوق تجارية وبنك وفندق داخل مصر وتجمع عمالي خارج مصر. بائع أو مشتري العملة لديه الأموال إما في حساب مصرفي أو كاش، في حالة الكاش يتم التعامل من خلال الممثل الموجود في السوق أو البنك، أو الفندق وإدخال أمر بيع أو شراء بالسعر المطلوب أما في حالة الحسابات البنكية يمكن إدخال الأوامر عن طريق التطبيق الخاص بالهاتف الذكي. عند زيادة المعروض سيجبر العارض على خفض سعره وكذلك سيرتفع السعر عند قلة العرض.

سيوفر النظام آلية شفافة للبنك المركزي لقياس الحجم الحقيقي للسوق مع عدالة السعر كما سيوفر للبنك المركزي آلية سريعة لعمليات السوق المفتوحة المباغتة والسريعة للتحكم والتأثير على السعر ببيع كميات أو شراء كميات من السوق للتأثير على قوى العرض والطلب. يجب أن يصاحب إنشاء هذه السوق بعقوبة مالية صارمة يتم تنفيذها لكل من يتداول العملات خارج السوق لأنه لا يوجد مبرر لذلك إن تركت آلية تحديد السعر لرغبة صاحب المال وقوى العرض والطلب تمامًا كما يحدث في سوق الأوراق المالية.

لا تحتاج هذه السوق الإلكترونية لاستثمارات ضخمة وتعتبر تكلفته ضئيلة مقابل المخاطر التي يمكن تجنبها والخدمات والميزات التي يقدمها للاقتصاد ولكن يحتاج إلى قرار جريء وتنفيذ دقيق يسبقه تحضير جيد لكل الأطراف المعنية ويمكن أن يتم تكوين شركة مساهمة من البنك المركزي والبنوك الكبرى وشركات الصرافة لإدارة هذه السوق بنسب ملكية تتناسب مع حجم عمليات كل منهم من إجمالي حجم السوق حتى لا يتضرر أحدهم في ربح من نشاط أو خدمة اعتاد أن يقدمها ويكون مقاومًا لوجود تلك السوق. أتمنى أن يتحرك أحد قبل أن يطير الدخان.

الرابط المختصر