استعرض الدكتور محمود محيي الدين، النائب الأول مدير البنك الدولي، مؤشرات الوضع الاقتصادي للمنطقة العربية، وإمكانية مساهمة في دعم وتمويل جهود زيادة معدلات النمو.
كما تحدث محيي الدين، خلال الكلمة التي ألقاها أمام القمة العربية الاقتصادية التي تنعقد في العاصمة اللبنانية بيروت، عن ضرورة التصدي العاجل لخلل الموازنات العامة العربية، وما يترتب عليه من تراكم للمديونيات المحلية و الدولية، وارتفاع معدلات التضخم و الغلاء.. وإلى نص الكلمة:
“ينعقد هذا المؤتمر الهام في وقت أصبح فيه العالم أكثر تقلباً من الناحية السياسية و أكثر هشاشة من الناحية الاقتصادية. فقد ضعفت معدلات نمو الاقتصاد العالمي، و تزايدت حالات التوتر و النزاعات في التجارة الدولية، و ازدادت المخاطر المحدقة بالاقتصادات المختلفة مع احتمالات ارتفاع تكلفة الاقتراض.
و مع استمرار هذه الأجواء الضبابية، يتجنب الاستثمار المخاطرة فيلوذ بأوعية آمنة في تقديره و إن كانت قليلة العائد المالي، و لا تسهم في زيادة معدلات النمو أو تخفيض البطالة أو تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
نشهد تغيرات في موازين القوى الاقتصادية العالمية والاقليمية، و التي تسارعت وتيرة تغيرها مع الأزمة المالية العالمية التي اندلعت في عام 2008، و ما سبقها ولحقها من أزمات في أسعار الغذاء و الطاقة. و تعكس، فيما تعكس، تواتر النزعات الحمائية ، و تصاعد دور التيارات الشعبوية اليمينية و اليسارية مع حدة الاستقطاب في الشارع السياسي تزامناً مع حالة الجزع من تراجع نسبي لبعض القوي الاقتصادية التقليدية، و تقدم للبازغين من القوى الاقتصادية الجديدة.
و بين المنحسرين و البازغين يتلمس العرب مكاناً لهم على أمل أن تكون ترتيبات النظام الدولي الجديدة أكثر إنصافاً. و قد علمنا أنه بغير الدأب المتواصل على التطوير و التحديث و الارتقاء برأس المال البشري و تطويع تكنولوجيا العصر تخسر الأمم في مضمار التقدم، و لا يبقى لديها من مجد الأقدمين إلا آثار و أطلال.
و في ظل هذه الحالات من الاضطراب و عدم اليقين و الحراك السريع الذي يشهده عالم شديد التغير، يعاني من تقلبات بيئية و تغيرات المناخ و زيادة مخاطر الجفاف ارتفاع موجات نزوح البشر و كثرة اللاجئين و المهاجرين قسراً بسبب الصراعات و الكوارث الطبيعية و تسارع وتيرة التحولات التكنولوجية في عصر أُطلق عليه “عصر المربكات الكبرى”، تجد الاقتصاد العربي، فضلاً عن هذه التحديات العالمية التي يتأثر بها، و قد أصابته، منذ بداية هذا العقد الثاني من القرن الحادي و العشرين، من الملمات الجيوسياسية ما أصابه، إذ تقدر تكلفة الخسائر في النشاط الاقتصادي بسبب الحروب و الصراعات ما يزيد على 900 مليار دولار لتضيف عبئاً على أعباء تراكمت من تراجع في النمو و التنمية الشاملة في البلدان العربية إلا قليلاً.
و بينما نجحت الأقاليم الاقتصادية حول العالم من تخفيض نسبة من يعانون من الفقر المُدقِع، إلا أن هذه النسبة قد زادت عربياً إلى الضعف من 2.6% إلى 5% في الفترة من 2013 و حتى 2015 و هو آخر إحصاء صدر عن البنك الدولي في عام 2018.
كما أن الإقليم الاقتصادي العربي هو الأسوأ في عدم العدالة في توزيع الدخل، إذ يستحوذ أغنى 10% من السكان على 61% من الدخل القومي، في حين أن العشرة بالمائة الأغنى في أوروبا لا يتجاوز نصيبهم 37% و في الصين 41% و الهند 55% من دخولهم القومية.
و حري بالاقتصاد العربي التحرك سريعاً ليلبي احتياجات عموم الناس و توقعاتهم. و لكن تأتي توقعات النمو الاقتصادي مشيرة إلى تحسن طفيف في نمو الاقتصادات العربية لتصل إلى 2.3% في هذا العام، مقارنة بالعام الماضي الذي استقر معدل نمو الاقتصاد فيه عند 2% فقط. و هو رقم شديد الانخفاض لا يلبي احتياجات التنمية و زيادات السكان و توقعاتهم.
و يعاني الاقتصاد العربي من أعلى نسبة بطالة في العالم، إذ وصلت هذه النسبة إلى 10.6% و هي تقترب من ضعف متوسط نسبة البطالة العالمية و مقدارها 5.7%. و هي أشد تركزاً بين شباب العرب و أعلى بين النساء مقارنة بالرجال. و يحتاج الاقتصاد العربي توليد 10 ملايين فرصة عمل جديدة كل عام حتى يتصدى لمعضلة البطالة، على أن تتاح هذه الفرص و فقاً لسياسات نمو شاملة تعزز من فرص مشاركة النساء في سوق العمل، على النحو الذي أكده فريد بلحاج نائب رئيس البنك الدولي في كلمته أمس بمؤتمر المشرق حول التمكين الاقتصادي للمرأة، تحت رعاية الرئيس سعد الحريري. يأتي هذا إنصافاً للمرأة العربية و تقديراً لكفاءتها كلما أتيحت لها الفرص، و دعماً لتنمية مستدامة لا تفتئت على حقوق الناس أو تهدر تصف طاقته البشرية عبثاً.
و المجتمعات العربية تزداد شبابية في هرمها السكاني، فما يقترب من 60% من السكان تحت سن الثلاثين، و يتزامن ذلك مع زيادة توقعات العمر عند الولادة في ذات الوقت و هي أمور إيجابية إذا أحسن الاستعداد لها بزيادة الاستثمار في التعليم و الرعاية الصحية كمكونات رئيسية لرأس المال البشري، و البنية الأساسية المعينة على الاستفادة من أنشطة الاقتصاد الجديد الذي تدخل تكنولوجيا المعلومات و المستجدات الرقمية في كافة أبعادها. فضلاً عن الاستثمار في مجالات التوقي من المخاطر.
و إن كانت هذه أولويات المستقبل الذي تضع أجندة التنمية المستدامة لعام 2030 إطاراً عملياً زمنيا لها، فإن التعامل معها يلزمه استثمار ضخم يحتاج إلى موارد مالية متنوعة المصادر وفقاُ لخطة عمل تمويل التنمية التي أقرتها الدول الأعضاء بالأمم المتحدة في يوليو من عام 2015، في أديس أبابا.
و قد تقدمت عشر دول عربية بخططها الطوعية لبرامجها التنموية في إطار المنتدى السياسي رفيع المستوى للمنظمة الأممية، و ستتبعها 6 دول أخرى في يوليو القادم، توافقت برامجها المعلنة مع أجندة التنمية المستدامة. و قد علمتنا تجارب التنمية أن الأمر يتطلب ثلاثة مستلزمات: بيانات وافية تعين اتخاذ القرار و تتابعه، و تمويل مناسب لبرامج و مشروعات التنمية، و تطبيق فعال على المستوى المحلي.
و تظهر الدراسة المتميزة التي أعدها “المنتدى العربي للبيئة و التنمية” و الصادرة في بيروت في شهر نوفمبر الماضي أن الاقتصادات العربية تحتاج إلى تمويل يصل حده الأدنى إلى 230 مليار دولار سنوياً، للإسهام في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، و أن الفجوة التمويلية في الدول ذات العجز المالي تصل إلى 100 مليار دولار سنوياً. فدعونا نتدبر سوياً من أين سيأتي هذا التمويل الضخم.
و أود تأكيد أن تمويل التنمية المستدامة لا يأتي من خلال صفقات مالية متناثرة أو إنفاق مشتت بل يجب ان يستند لنهج متكامل قوامه سياسات متناسقة و مؤسسات ذات كفاءة. و يعتمد هذا النهج على تمكين الشباب و المرأة من خلال اتاحة فرص العمل و الاستثمار و ريادة الأعمال من خلال مؤسسات متخصصة و تمويل داعم. كما يركز هذا النهج على توطين التنمية محلياً في منافسة بين المدن و المحافظات و الأقاليم في جذب الاستثمارات و تطوير وحدات الإنتاج و الخدمات الأساسية و المتطورة و رفع الكفاءة من خلال إجراءات المالية العامة و دفع التنافسية و تحفيز الابتكار.
و لا يغني ذلك عن منع نزيف خسائر الكيانات الاقتصادية المملوكة للدولة، و ضرورة استخدام الأصول المعطلة في زيادة الموارد و تحويلها إلى أصول منتجة أو أرصدة تمول التنمية، لا أن تترك بلا نفع فيها كأعجاز نخل خاوية.
و أول محاور تمويل التنمية العربية السبعة، التي يمكن لمجموعة البنك الدولي الإسهام في تطويرها من خلال الدعم الفني و الإسهام المالي و نقل الخبرات الدولية و المعارف، يعتمد على تعبئة الموارد المحلية بكفاءة و إنفاقها بفاعلية و حسن استهداف مجالات الإنفاق العام و هناك ضرورة للتصدي العاجل لخلل الموازنات العامة العربية، و ما يترتب عليه من تراكم للمديونيات المحلية و الدولية، و ارتفاع معدلات التضخم و الغلاء. فرغم تحسن طفيف طرأ على إجمالي موازنات الاقتصادات العربية بانخفاض العجز فيها إلى 4.5%، وفقاً للتقديرات مقارنة بالعام المنصرم، فإن مدى تعرضها لصدمات اقتصادية ما زال كبيراً، و مع اتجاهات ارتفاع تكلفة الاقتراض لتمويل العجز و انخفاض الإيرادات السيادية، تتزايد المخاطر.
و نلاحظ أنه رغم جهود بذلت لتنويع الهيكل الإنتاجي للاقتصادات العربية و مواردها فإن موازناتها العامة و موازين مدفوعاتها الدولية ما زالت شديدة التأثر بتقلبات أسعار النفط بشكل مباشر و غير مباشر. فبعدما تجاوز متوسط سعر النفط 100 دولاراً في الفترة من 2011 إلى 2014 أصبح أقل من 50 دولاراً في الفترة من 2015 إلى 2018، و التوقعات، التي تتم مراجعتها دوريا، أن يحوم السعر حول 69 و 74 دولار في العامين الحالي و القادم. و هذا التقلب الشديد في أعوام قليلة لا يعين على ضبط الموازنات و دفع النمو لاقتصادات ما زالت شديدة الارتباط بسلعة واحدة و مشتقاتها، في عالم يشهد تغير في خريطة تصدير النفط و تخفيض الاعتماد عليه بالتنوع في مصادر الطاقة الجديدة و المتجددة.
و قد شاهدنا جهود الإصلاح و مساعي تنويع القاعدة الإنتاجية و مصادر الطاقة و هي تشتد مع انخفاض أسعار النفط في الدول المصدرة، و مع ارتفاعه في الدول المستوردة ثم سرعان ما تفتر هذه الجهود مع تغيرات اتجاه الأسعار مما يعسر من شأن الاقتصاد و استقراره و نموه.
حسناً فعلت بعض الدول العربية باتخاذ إصلاحات في المالية العامة و بإنشاء صناديق سيادية، تديرها مؤسسات محترفة لزيادة العوائد على الاستثمار و تنويع مصادر الدخل و حماية حقوق الأجيال القادمة.
لكن هناك حاجة إلى تحسين الموارد الضريبية للموازنات العامة العربية التي تبلغ متوسط 11% من الدخل القومي بما يقل عن المتوسط الموصى به بألا تقل إيرادات الضرائب عن 15% من الدخل القومي. و هذا يستوجب إصلاحاً مؤسسياً و تشريعياً و توعية و عدالة في تحمل العبء الضريبي و و كفاءة و فاعلية و انضباط في الإنفاق العام، و تفعيل مبادئ الشفافية و الحوكمة و إنفاذ لأحكام القانون و ليس مجرد رفع لمعدلات ضرائب لا يتم تحصيلهاً.
و تظهر تجارب التنمية الناجحة أيضاً أهمية حتمية لإدارة الموازنات على مستوى السلطات المحلية مرونة و حصافة، و إلا ضاعت جل جهود الإصلاح هباءاً.
ثانياً، تفرد خطة عمل تمويل التنمية مجالاً رحباً لمشاركة القطاع الخاص المحلي في تحقيق أهدافها، فلن تكفي موازنات الدول وحدها للقيام بمشروعاتها الطموحة.
و دور القطاع الخاص لن يأتي من أبواب التبرع و الأعمال الطوعية، و لا يستقيم معه أن تكتفي الشركات بأن تجعل لديها وحدة للدعاية بأنشطة خيرية متناثرة تحت مسمى المسئولية الاجتماعية. و لقد اتخذت الشركات، التي تأخذ التنمية المستدامة مأخذ الجد، هياكل جديدة لتنظيم العمل فأسست إدارات تنفيذية للاستدامة، حلت محل وحدات المسئولية الاجتماعية التقليدية. ربما احتفظت هذه الوحدات بذات المسمى القديم و لكنها في الهيكل الجديد أصبحت فعلياً ذات صلاحيات تنفيذية محددة و تتبع الإدارة العليا مباشرة، و تعمل على متابعة تطبيق معايير و إجراءات الاستدامة و إدماجها في مراحل الإنتاج و أولوياته و عمليات اتخاذ القرار، و تحث الشركاء التجاريين و الموردين، عبر سلاسل الإنتاج و التوزيع، على التوافق معها.
و يبرز دور القطاع الخاص، بأحجام مشروعاته المختلفة، في إتاحة فرص العمل، فهو المشغل الأكبر للقوى العاملة رغم ما يواجهه من تحديات و عوائق و تعقد الإجراءات و يعكسها تراجع تصنيف أغلب الدول العربية في التقارير الدولية عن ممارسة الأعمال و التنافسية و فرص الابتكار و التطوير و حماية حقوق الملكية؛ هذا باستثناءات محدودة لبعض الدول العربية.
كما يمكن للقطاع الخاص الإسهام في المشروعات التنموية الضخمة من خلال نظم مختلفة للمشاركة إذا صُممت العقود بإنصاف و شفافية لأطرافها و حددت مسبقاً التزاماتها دون تغييرات مفاجئة، و جهزت المشاريع القابلة للتمويل و الاستثمار و الإعلان عنها و تم التنسيق بين أجهزة الدولة القطاعية و الرقابية بما يوضح الرؤية دون التباس.
و بضبط الإنفاق العام سيتاح التمويل المصرفي و غير المصرفي للقطاع الخاص ليقوم بدوره في التنمية مسهماً في نمو الاقتصاد و متيحاً لفرص العمل و دافعاً للضرائب عن أرباحه المتحققة.
خفضت التقنية المالية الحديثة من تكلفة المعاملات و رفعت قدرات خدمة أعداد غفيرة من العملاء الجدد من خلال خدمات الانترنت و الهاتف الجوال. فوصلت الخدمات المالية لمناطق نائية و ريفية بعدما كانت حكراً على بعض المناطق الحضرية.
و لكن هناك مخاطر تتعلق بمدى تأمين نظم المدفوعات وأمان تداول المعاملات، و حماية المتعاملين و سرية حساباتهم و وقايتها من مخاطر جديدة قد تتعرض لها شبكات التداول و منصاتها. كما أن هناك تحدياً يرتبط بالتنسيق بين جهات الرقابة المالية و البنوك المركزية و شركات تقديم خدمات الهاتف و شركات التكنولوجيا.
و قد فرضت انتهاكات للخصوصية، من خلال الولوج إلى قواعد البيانات الكبرى و التلاعب بها، خطراً جديداً ينبغي التصدي له. كما تظهر خدع ما يسمى بالعملات الرقمية المشفرة، و التقلب العنيف في أسعارها بين ارتفاع و انهيار بلا سبب منطقي معلوم، ضرورة أخرى لوجود سياسة متكاملة للتقنية المالية، و لارتقاء بالرقابة المالية و مهارات العاملين فيها، و تطوير قواعد حماية المتعاملين مع الجهات التي توفر الخدمات المالية سواء كانت مصرفية أو غيرها، و الارتقاء بالوعي المالي في المجتمع.
و قد شهدت الاجتماعات السنوية الأخيرة للبنك و صندوق النقد الدوليين، التي عقدت في بالي بإندونيسيا، تدشينا لما أطلق عليه “أجندة بالي للتقنية المالية”، تناولت 12 عنصراً محدداً لزيادة النفع من إسهامات التقنية المالية في تعبئة الموارد و توجيهها لمسارات التنمية، مع الحفاظ على الاستقرار النقدي و المالي و حماية الحقوق. و العبرة، من قبل و من بعد، بفاعلية التطبيق.
ثالثا، في خطة تمويل التنمية المستدامة محوراً لتدفقات التمويل الخاصة في شكل استثمارات أجنبية و غيرها. و تبرز الإسكوا في دراسة لها أن مقابل كل دولار من الاستثمارات يأتي للاقتصاد العربي فإن 1.8 دولار يخرج منها كاستثمارات في دول غير عربية أو كعوائد استثمار للشريك الأجنبي، علماً بأن الاستثمارات الأجنبية للدول العربية في عمومها قد تراجعت و لم تعد لمستويات ما قبل الأزمة المالية العالمية. هذا فضلاً عن تزايد حجم الإيداعات العربية في الخارج في شكل ودائع مصرفية. و إذا أضفنا تحويلات العاملين بالخارج، فرغم أهميتها لعدد من الدول العربية، فإن الاقتصاد العربي مُصدر صاف لهذه التحويلات. قد تختلف هذه الصورة في بعض البلدان و لكن هذا هو الوضع العربي العام.
و تلوح فرصاً للاقتصادات العربية مع تدفقات متزايدة عالمياً في مجالات التمويل الأخضر و كذلك ما يعرف بالاستثمار المؤثر و تزايد إنشاء صناديق تمويل ضخمة على مدار العامين الماضيين صرح مؤسسوها بأن استثماراتهم تتشكل من هذا النوع المؤثر اجتماعياً و بيئياً لا سواه. و أُعلن مؤخراً أن الأصول المستثمر فيها قد بلغت 228 مليار دولار في شهر ديسمبر 2018، بزيادة تقدر بضعف قيمة ما كانت عليه في العام السابق. و تشير التوقعات إلى أن تتجاوز أرقام هذه الاستثمارات تريليون دولار في الأجل القصير.
و يميز هذا النوع من الاستثمار استهدافه لمجالات تحقق عائداً اجتماعياً و بيئياً إيجابياً، قابلاً للقياس، فضلاً عن العائد المالي لمشروعاتها. قد يتداعى إلى الذهن أن الاستثمار المسئول اجتماعياً أمر متعارف عليه منذ فترة، و يعتمد على معايير بيئية و اجتماعية بالإضافة للحوكمة. لكن الجديد في الأمر يتمثل في أن المستثمرين لا يكتفون بمجرد تجنب إلحاق الضرر بالبيئة أو المجتمع، لكنهم يستهدفون بالأساس تحقيق قيمة مضافة إيجابية و ملموسة من خلال مشروعاتهم.
رابعاً، استقرت المساعدات الإنمائية الرسمية عالمياً عند متوسط 150 مليار دولار سنوياً، رغم مطالبة الدول المانحة بالوفاء بتعهد منحها 0.7% من دخولها للدول الأقل دخلاً، فقليل من المانحين يلتزمون. لكن نصيب المنطقة العربية قد زاد مؤخراً بعد انخفاض لسنوات، و توجهت بالأساس للمجالات الإنسانية و عون اللاجئين. و في كل الأحوال فإنه رغم أهمية هذه المساعدات للدول منخفضة الدخل و تلك التي تعاني من هشاشة أو عانت لسنوات من صراعات و حروب أهلية، فإنها من الممكن أن تعين في مراحل التحول نحو الاستقرار خاصة في القطاعات ذات الأثر الاجتماعي.
خامساً، مع ارتفاع الديون في كثير من الدول العربية و انخفاض الادخار في أغلبها أصبح لزاماً عليها أن تحدد إطار تمويل التنمية بشكل متكامل، و كيفية التنسيق بين مصادر التمويل العامة و الخاصة و المحلية و الأجنبية و تفعيل نظم المشاركة بما يدفع بالنمو قدماً و يقلل أعباء الديون. و تحدد ورقة عمل مشتركة للبنك الدولي و صندوق النقد الدولي ثلاث مجالات للتعامل مع متطلبات إدارة الديون العامة أولها هو زيادة قدرات الدول على التحليل الفني للديون و المالية العامة و سياساتها. و المجال الثاني معني هو تدعيم نظم الإفصاح و المعرفة و المعلومات لكي يتضح حجم الديون و الالتزامات بأنواعها على كافة الأطراف و إجراءات الإصلاح و فتراتها و أعبائها. و المجال الثالث يرتبط بتدعيم قدرات مؤسسات الدولة و التنسيق بين سياساتها في مجال إدارة الديون و المخاطر. غني عن الذكر أن هذه المجالات الثلاث في التعامل مع الديون تستوجب إدارة فعالة لجانب الأصول المملوكة للدولة و تعظيم العائد منها.
سادساً، هناك بعد للتجارة لا ينبغي إغفاله في تحقيق أهداف التنمية، و ما زالت التجارة البينية في العالم العربي متواضعة عند نسبتها إلى إجمالي التجارة، فهي لا تتجاوز 10% في أفضل الأحوال تعوقها تكاليف النقل و اللوجيستيات رغم اقتراب المسافات، و رغم وفرة في المواثيق الممكنة لانسياب التجارة البينية إلا أن تفعيلها كان محدوداً في تخفيض تكلفة المعاملات، و هناك إشارة أن المتوسط الإقليمي العربي لإجراءات تيسير التجارة لا يتجاوز 56% في بعص التقديرات، فضلاً عن المعوقات غير الجمركية و مصاعب التجارة في الخدمات.
و تتيح تكنولوجيا المعلومات و الاقتصاد الرقمي، إذا ما استخدمت بكفاءة، فرصاً كبيرة لتدفق الصادرات و الواردات العربية البينية.
و إذا كان هذا شأن التجارة التقليدية، فلعله من الواجب اليوم أن يكون لدى الاقتصادات العربية استراتيجية متكاملة تختص بالتجارة الالكترونية تسهم في التوافق مع متطلبات الثورة الصناعية الجديدة و أنماط نشاطها الاقتصادي القائم على المنصات الالكترونية و شبكاتها و قواعد البيانات الكبرى و تأمينها و ضمان تسوية مدفوعاتها و تيسير أعمالها و حماية المتعاملين في نطاقها و تشجيع المنافسة و الشمول لخدماتها و ربطها بقطاعات الإنتاج من خلال سلاسل القيم.
سابعاً، كما أكدت وثيقة تمويل التنمية المستدامة لن تتحقق أهداف التنمية المستدامة دون الانتفاع بالعلم و الاستفادة من التكنولوجيا و الابتكار
(بالعلم و المال يبني الناس ملكهم… لم يبن ملك على جهل و إقلال)
هكذا احتفى أمير الشعراء أحمد شوقي منذ 100 عام بتأسيس طلعت حرب و رفاقه من رواد الاستثمار لبنك مصر.
ففي الوقت الذي يشهد العالم فيه بزوغ الثورة الصناعية الرابعة، نتذكر أنه لم يكن نصيب العرب من الثورات الصناعية الثلاث السابقة و عوائدها متناسباً مع مقومات و إمكانيات كامنة لديهم. ففي القرن الثامن عشر كان اختراع المحركات البخارية و ما أحدثه من نقلة نوعية في اقتصاديات الانتاج الصناعي إيذاناً بالثورة الصناعية الأولى. أما الثورة الصناعية الثانية، فقد تزامنت مع اكتشاف الكهرباء في القرن التاسع عشر، و استحدثت منتجات جديدة غيرت أنماط الإنتاج و طورت من حياة البشر. أما الثورة الصناعية الثالثة فلقد اعتمدت على المستجدات التكنولوجية في القرن العشرين التي ارتبطت باختراع و تطوير الحواسب الآلية و انتشارها في مجالات الإنتاج و الخدمات ووسائل المعيشة. إلا أن الثورة الصناعية الجديدة تمثل نقلة كبرى في انطلاق الاقتصاد الرقمي و تكنولوجيا المعلومات و ما يرتبط بها من ابتكارات و منتجات التي ستبدل حياة الناس و الإنتاج بما لم تسبقها إليه أي من الثورات الصناعية السابقة.
ليست هناك ثمة مبالغة بالقول بأن “قواعد البيانات الكبرى هي النفط الجديد” ، فقواعد البيانات الكبرى هي وقود عصر المعلومات و الاقتصاد الرقمي، و لا عجب في أن الشركات التكنولوجية الخمس المسيطرة على قواعد البيانات الكبرى هي الأكبر ربحية و الأعلى قيمة في أسواق المال. فهل أعد العرب عدتهم للتعامل مع هذا النفط الجديد؟ للإجابة على هذا السؤال تنبغي مراجعة قوانين المعلومات مثلما فعلت أوروبا بتشريعها بشأن “القواعد الرقابية العامة لحماية البيانات”. كما تجب مراجعة الكفاءة المؤسسية في التعامل مع البيانات و المعلومات جمعاً و حفظاً و تحليلاً و تداولاً و إفصاحاً و معايير حماية الخصوصية و السرية.
علمنا من نتائج الثورات الصناعية الأولى أن المستقبل لمن سعى منطلقاٌ إلى رحاب التقدم، و أن الفيصل بين التقدم و التخلف مرتهن بسرعة توافق المجتمعات و الاقتصادات لمستجدات التكنولوجيا و ترويضها لنفع الناس.
و هناك مؤشر هام يمكن الاسترشاد به، على سبيل المثال، للتحقق من القدرة على الاستفادة من الثورة الصناعية الجديدة و ارتياد موجاتها و هو التصنيف الدولي للرقم القياسي الجديد لرأس المال البشري، الصادر عن البنك الدولي في عام 2018، و الذي صنف اقتصادات الدول وفقاً لمؤشرات تفصيلية للتعليم و الرعاية الصحية و احتمالات توقع الحياة للمواليد حتى سن الالتحاق بالمدارس. و لم يكن غريبا أن تحتل سنغافورة و كوريا و اليابان المراكز الثلاثة الأول و تجد في ذيل القائمة التي شملت 157 دولة اقتصادات شاسعة الأراضي و غنية بالموارد الطبيعية. أما الدول العربية فكان أداؤها، باستثناءات محدودة، سيئاً و لا يليق بقدراتها و كانت النتيجة مماثلة أيضا في مؤشرين آخرين:
– مؤشر الاستعداد للتغيير و استيعابه الذي تعده مؤسسة “كي بي إم جي” متضمناً قدرات الحكومات و قطاعات الأعمال و المجتمع المدني على اغتنام الفرص التي يتيحها التغيير سواء كانت صدمات أو متغيرات سياسية و اقتصادية تحمل فرصاً أو مخاطر يمكن التعامل معها.
– و كذلك تصنيف وحدة الاستعلامات لمؤسسة الاكونوميست للإمكانات التكنولوجية المتاحة، من حيث استخدام شبكة المعلومات و البنية الأساسية للاقتصاد الرقمي و الانفتاح على الأفكار و الابتكارات بما في ذلك براءات الاختراع ة الانفاق على البحث والتطوير.
لعل فكرة التقدم من خلال التنمية المستدامة، و الطموحات المرتبطة بها، تستوجب الاستفادة من منهج عملي واقعي للتنفيذ. و بمناسبة مرور 50 عاماً على هبوط اول إنسان على سطح القمر لنا فيما فعله الرئيس الأمريكي الأسبق جون كينيدي مع وكالة الفضاء الأمريكية مثلاً. فقد أُسست هذه الوكالة، المشهورة بناسا، في عام 1958 لتحقيق أهداف عامة متعددة كغزو الفضاء و تطوير تكنولوجيا متقدمة في مجال عملها على غير ذلك من أهداف عامة و حشد لوكالة ناسا من الموارد ما حُشد، و جُمع لها من العلماء ما جُمع. لكن كينيدي أنقذها من مصير بيروقراطي محتوم بأن جعل لها هدفاً محدداً، و بدونه لظلت هائمة تطلع إلى المجهول دون هدى أو دليل. فما فعله كينيدي في عام 1961 هو أن جعل لوكالة ناسا هدفاً محدداً بأن تصل بأول إنسان إلى سطح القمر و أن تعود به سالماً إلى الأرض قبل نهاية عقد الستينيات.
و بهذا حول غموض تعدد الأغراض، إلى هدف طموح، محدد الزمن، سهل التخيل، يمكن الحكم عليه بالنجاح و الفشل، فتعبأ له الموارد و تحتشد خلف تحقيقه الجهود و تستثار من أجل تحقيقه الهمم و تشحذ العقول. و قد تحقق هذا الهدف فعلاً في عام 1969 بالخطوة الأولى التي خطاها رائد الفضاء نيل أرمسترونج، والتي كان لها ما بعدها كقفزة عملاقة للبشرية، كما تنبأ في كلمته التي بثها من القمر إلى سكان الأرض.
كان ذلك الإنجاز الهائل نتيجة لما يطلق عليه الآن “رمية نحو القمر” بمعنى الطموح الجريء في اتخاذ القرار. فكما يؤكد بيل جيتس، مؤسس شركة مايكروسوفت، من أن الرمية الموفقة نحو القمر تتصف بأنها ذات هدف قابل للقياس، و يأخذ بألباب الناس و يلهمهم، و يغير بشكل جذري ما يمكن اعتباره ممكناً و قابلاً للتحقيق.
كم يحتاج العرب من رميات موفقة نحو أقمار التقدم و التنمية المستدامة و القضاء على الفقر و الارتقاء بنوعية الحياة؟
و إذ نرجو أن يكون هذا العام الجديد عام خير،
فلعل هذه الأولويات، و ما يحيط بالتعامل معها من مستجدات عالمية و إقليمية، تكون مجالات لتعاون مثمر مشترك لما فيه نفع الشعوب العربية و عموم الناس”.