مائة سنة منارة

بقلم د. ماهر عشم رئيس شركة مصر لنشر المعلومات

لم أستطع الاستمرار في الكتابة عن التكنولوجيا وأمر مرور الكرام على احتفالات الجامعة الأمريكية بمرور مائة عام على إنشائها وتجديد وتدشين مقر الجامعة بميدان التحرير ليصبح مركزًا ثقافيًّا بقلب القاهرة، والسبب يا سادة أن علاقتي أنا ومعظم زملائي هي علاقة حب ولا أبالغ إن قلت عشق لم يتوقف ولن ينتهي منذ كنت طالبًا وعضوًا باتحاد طلابها حتى أصبحت عضوًا بهيئة التدريس بها.

E-Bank

في الجامعة تعلمنا على يد أساتذة عظماء في أول قسم علوم للكمبيوتر تأسس في مصر وهؤلاء العمالقة تركوا فينا بصمات تفوق التي تحمل الطابع الأكاديمي الجاف فقط. تعلمنا منهم العطاء والحب والتفاني في العمل وفي الجامعة تعرضنا لشخصيات مشهورة وسمعنا كلمات لوزراء ورؤساء. في الجامعة تعلمنا البحث أكثر من العلم لأن العلوم تتغير ولكن الباحث يجدد ذهنه وعقله ولا يتوقف عن التعلم. تعلمنا أن نحب بلدنا مصر وأن نكون مبادرين بالعمل الاجتماعي والتغيير والتأثير.

بالجامعة تكونت شخصياتنا وبنينا أجمل العلاقات والصداقات التي أثبتت صلابتها وتحديها للزمن والاختلاف. من الجامعة الأمريكية تخرج فنانون وعلماء ورؤساء بنوك ومحافظون ووزراء وملوك في مصر والشرق الأوسط والعالم وقد أسترسل في الوصف حتى تغطيه صفحات الجريدة كلها ولكن سأتوقف عند ملاحظتين وأمنية وددت ان أشارككم بهم.

أولًا: تضمن الحفل فقرات فنية تذكرنا بأن الجامعة كانت ولا تزال منبرًا للفنون الراقية إذ سبق وغنت كوكب الشرق على مسرح الجامعة كما غنت أيضًا الأسطورة الفرنسية الراحلة إيديث بياف على نفس المسرح بقاعة آي آرت التاريخية. جددت تلك الذكرى ثلاث أغنيات واحدة لأم كلثوم واثنتين لبياف ومن زمن لم أستمع لأداء رائع وراقٍ كما استمعت ذلك اليوم وكان تذكرة بفنون ومواهب مصرية جميلة لدينا القدرة على إحيائها مرة أخرى أن توفر المكان والإمكانيات. أيضًا فريق الفولكلور المكون من خريجي الجامعة الذي أعتز بصداقة ومحبة الكثيرين منهم أمتعونا برقصات مصرية شبيهة بتلك التي كانت تؤديها فرقة رضا وأحيت فينا المتعة بالجمال والرقي الموجودين بالفنون الشعبية المصرية.

فريق الفلكلور مكون من أصحاب شركات وكبار الموظفين ببنوك وأماكن مرموقة أخذوا على عاتقهم وأعطوا من وقتهم وجهدهم لا حبًّا في الجامعة أو لإمتاعنا فقط ولكن حبًّا في تلك الفنون وإيمانًا بدورهم في إحيائها وفي دور القوى الناعمة في إحياء الوعي والضمير الثقافي الذي شابه تشوهات كثيرة من أفكار متطرفة قادمة من الشرق تارة وفنون قبيحة تقتحم مسامعنا ومش أعدنا تارة أخرى. كان الاحتفال واحة ثقافية في صحراء تندر بها الخضرة وتذكرة بما لدينا من كنوز ثقافية مهملة.

ثانيًا: تبرع المهندس نجيب ساويرس بتكلفة إعادة تأهيل مقر الجامعة بالتحرير ليكون مركزًا ثقافيًّا في قلب القاهرة وهي مبادرة كريمة دون مقابل تسلط الضوء على نوع من المسؤولية المجتمعية لأصحاب المال في توفير الإمكانيات للقوى الناعمة للعودة بقوة لإعادة تشكيل الوعي الثقافي والحضاري ولتعود مصر لمكانتها السابقة في الثقافة والفنون والسينما.

فمن زمن ليس ببعيد لم يتمكن أي فنان أو كاتب عربي للانطلاق إلا من مصر وكانت قبلة للمثقفين وانعكس ذلك على المواطن العادي في الشارع وعلى مظهره وأخلاقه. يمكن لتلك الحقبة أن تعود بمبادرات مثيلة لرؤوس أموال تمكن المحتوى الثقافي والفني الراقي والجميل من التفاعل مع الجماهير من خلال منابر ومنصات مشابهة ليس بالقاهرة فقط بل بكل أنحاء مصر.

أخيرًا أتمني أن تظل الجامعة الأمريكية منبرًا أكاديميًّا ومنارة ثقافية وحضارية لا لمصر فقط بل للشرق ولا أبالغ إن قلت للعالم أيضًا، فأجمل ما صور وكتب عن مصر وصل للعالم عن طريق دار النشر الخاصة بالجامعة.

أتمنى أن يعود الرقي والفن الجميل والذوق والثقافة إلى القلوب والعقول المصرية والتي اختفت فقط لأننا أهملنا المسؤولية والدور المنوط بنا، والآن تعود الجامعة لضرب المثل في الريادة وفي قلب القاهرة فكل التوفيق والتقدير لكل من ساهم في بناء المنارة الجديدة ومن يساهم في تشغيلها وكل ما يقدم من خلالها وكل النور لمصرنا الحبيبة لأن «عمر الظلمة ما قهرت النور».

الرابط المختصر