بقلم د. محمود محيي الدين النائب الأول لرئيس البنك الدولي
سنَّة الحياة التغيير، وعندما يأتي هذا التغيير مباغتاً متسارعاً فإنه يحدث إرباكاً لأنماط استقرت. وقد يكون في هذا التغيير منافع رغم تكاليف ينبغي تحملها في استيعابه. ومن المربكات الكبرى تلكم المستجدات المرتبطة بنقلات نوعية في منتجات الاقتصاد الرقمي وتكنولوجيا المعلومات ومستحدثاتها. فقد بات الإلمام بمتطلبات التعامل مع الذكاء الاصطناعي محدداً لمدى تطور المجتمعات والدول في المستقبل المنظور. فسيكون الفيصل بين التقدم والتخلف في سباق الأمم مرهوناً بالتمكن من علوم الذكاء الاصطناعي، الذي سيعين في الاستفادة من المعارف المتنوعة، ويرفع كفاءة العمل والإنتاج لمن استعد له بنظم جديدة للتعلم والابتكار والتطوير، تاركاً وراءه المنشغلين عن الأخذ بأسباب التقدم والمشتتين بين دروب البلادة بلا هدف أو مأرب.
ولعل من المهتمين بالتعليم من اطلع على برامج تطوير المناهج والعلوم في جامعات الشرق والغرب المرموقة، وسعيها الحثيث في إدراج الذكاء الاصطناعي في أولوياتها. فقد ذكر البروفسور رافايل ريف عميد معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة عزم مؤسسته الأكاديمية المرموقة على تنفيذ مبادرة مشتركة مع «بلاك ستون»، وهي واحدة من أكبر المؤسسات المتخصصة في إدارة الأصول المالية، للارتقاء بالبحث والتطوير في مجالات الذكاء الاصطناعي. وتهدف هذه المبادرة، التي تتكلف مليار دولار في مرحلتها الأولى، إلى توثيق الصلة بين الذكاء الاصطناعي ومجالات التخصص المختلفة وإعداد قيادات المستقبل بما يلزمهم من مفاتيح التعامل مع الذكاء الاصطناعي كلغة جديدة للعصر الجديد.
ويعدد البروفسور ريف، في مقال نشرته صحيفة «الفايننشيال تايمز» أوجه التنافس الدولي في مجال الذكاء الاصطناعي، وكيف أن الصين رصدت تمويلاً إضافياً في مجالات علومه بلغ مليار دولار سنوياً، كما تسعى فرنسا وألمانيا والسويد وهولندا إلى الاستثمار في مجالاته بتنسيق عالٍ، وتتبنى كندا وكوريا استراتيجيات عمل تنفذها بدقة في هذا المضمار. وأنشأت بريطانيا صندوقاً لتمويل جذب الكفاءات والباحثين في مجالات الآلات الذكية.
ورغم ما تتمتع به المؤسسات الأكاديمية المرموقة ومراكز البحث في البلاد المتقدمة والناهضة المذكورة من مزايا وإمكانات وتمويل، فإنها تستشعر تحديات ملاحقة مستحدثات الثورة الصناعية الجديدة، وما يستتبعها من تغيرات في أنماط التعامل واحتمالات سوء الاستغلال، وما تفرضه من تطوير لقواعد الحوكمة ومواثيق الأخلاقيات والمبادئ الحاكمة لتعاملات الناس في هذا العالم الجديد. وهذا يستوجب توثيقاً في التعاون بين الحكومات والقطاع الخاص والمراكز البحثية وفق سياسة متكاملة للتعامل مع الذكاء الاصطناعي، فلا يترك الأمر لجهود مبعثرة ومبادرات مبتورة.
كما يجب أن تستند هذه السياسة إلى نظام تعليم متطور يناسب تطورات العصر ويلاحق مستجداته، وهو ما يستوجب مراجعة شاملة لنظم التعليم في العالم العربي العاجزة عن تلبية احتياجات الحاضر، ويجب ألا يُنساق وراء ضلالات تفترض أنها قادرة على مساندة نهضة من أجل المستقبل.
فالتعليم في العالم العربي يعاني من مشكلات كبرى مزمنة أردته في الدرك الأسفل من التصنيفات الدولية سواء عن نوعية التعليم أو أثره أو العائد من الإنفاق عليه. وقد لخص تقرير حديث للبنك الدولي هذه المشكلات الكبرى في التعليم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في أربع: أولاها أن الشهادات المدرسية والجامعية لا تعبر عن اكتساب حملتها للمهارات والمعارف المطلوبة بالضرورة، وأن نظام التعليم وسوق العمل ضحيتان لعهود زمنية طويلة من ضمان التشغيل في القطاع العام وإدارات الحكومة، باعتبار يقتصر على مؤهل دراسي تم الحصول عليه بعد سنوات معينة تطول أو تقصر دون التفات لتميز في مهارة.
ثانياً، آفة ترجيح التلقين والاسترجاع في طرق التعليم على الفهم والتفكير والاستكشاف. فقد غلبت طرق التدريس في العالم العربي نهج التلقين، مضحية بما يمكن للتلاميذ والطلاب أن يغتنموه إذا أتيحت لهم فرص مناقشة الأفكار والموضوعات المعروضة واكتساب مهارات تعينهم على فهم عالم أصبح شديد التغير والتعامل مع تطوراته.
ثالثاً، تغليب السيطرة المركزية في تقديم الخدمات التعليمية على المرونة والقدرة على التكيف مع احتياجات وظروف المجتمع المحلي. فعلى الرغم من جهود متنوعة في منح قدر من المرونة في تقديم الخدمات التعليمية من خلال اتباع اللامركزية، فإن الداء جاء متبايناً لقصور الموارد وافتقاد معايير المتابعة والمحاسبة والحوكمة.
رابعاً، التنازع بين الأنماط التقليدية والحداثة، واعتبار الحداثة تقليداً ومحاكاة للنظم الغربية من قبل مناوئي التطوير، والأولى اتباع نهج للإصلاح يفرز معوقات التحديث ويتخلص منها بما يمهد لنظام يمكن من التعلم واكتساب المعارف والتعامل مع معضلات العصر.
وللتعامل مع هذه المعوقات الأربعة، يجب أن تأتي سياسات إصلاح التعليم في إطار نهج أشمل للتنمية المستدامة يربط بين احتياجات التعلم ومتطلبات سوق العمل من المهارات. ولتحقيق إنجاز في مضمار التعلم، يقترح التقرير المذكور عن التوقعات والطموحات في التعليم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي تشمل أغلب أنحاء العالم العربي، استراتيجية تشمل سبعة أبعاد:
1. تنمية المهارات الأساسية للتعلم من الطفولة المبكرة.
2. حسن اختيار المدرسين ورواد التعليم ومديري المدارس وتحفيزهم مالياً وأدبياً.
3. تطوير أساليب التنشئة والتربية والتعليم بما يزكي قدرات البحث والابتكار والاستكشاف لدى التلاميذ.
4. التعامل مع الفجوة القائمة بين مفردات ومكونات لغة التعليم ولغة الحوار العام من ناحية واللغات الأجنبية المستخدمة في تدريس بعض العلوم.
5. تطبيق نظم لتقييم مدى التعلم بشكل منتظم للتحقق من مدى اكتساب المعارف والمهارات.
6. تحقيق العدالة بين جميع الأطفال في الحصول على فرص التعلم بغض النظر عن الجنس أو مستوى الدخل أو اللون أو العرق.
7. استخدام التكنولوجيا في رفع كفاءة العملية التعليمية وإعداد التلاميذ والطلاب للعصر الرقمي ومخرجات الذكاء الاصطناعي.
إن النظر للتصنيف الدولي لرأس المال البشري، الذي لا تبلو فيه الدول العربية بلاءً حسناً إلا قليلاً، مع مراجعة التقارير المستشرفة لأسواق العمل وتوقعات اختفاء ما يقترب من نصف الوظائف الحالية من الوجود في خلال أقل من عقدين من الزمن، واستحداث مجالات جديدة للعمل تعتمد على مهارات مبتكرة وقدرات مبدعة مع إجادة للغة الذكاء الاصطناعي، يستوجب هذا كله أن توضع أولويات التقدم في قمة الاهتمامات العامة والخاصة وألا تستنزف الطاقات والموارد في التعامل مع احتياجات الحاضر خصماً من المستقبل. ولعل في صغر السن في التركيبة السكانية العربية من الممكنات على إحداث التغيير المطلوب بالنجاح المأمول في نظم التعليم والتعلم ومواكبة تطورات أسواق العمل.
نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط