د. محمود محيي الدين النائب الأول لرئيس البنك الدولي .. نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط
لم تختلف التقديرات الاقتصادية بقدر ما اختلفت حول الأنشطة الاقتصادية غير الرسمية ودورها في الإنتاج وسوق العمل وحركة التجارة وأسواق المال والائتمان. وباتباع تعريف لهذه الأنشطة بأنها مخفية عن سجلات السلطات العامة لأسباب واعتبارات نقدية ورقابية ومؤسسية، فإن تقرير الآفاق الاقتصادية العالمية الصادر منذ أسابيع عن البنك الدولي يقدر نسبة النشاط غير الرسمي في الاقتصاد بنحو الثلث، ونسبة العاملين في القطاع غير الرسمي بنحو 70% من سوق العمل، نصفهم يعملون لدى أنفسهم. هذه الأرقام هي متوسط لتقديرات الاقتصاد غير الرسمي في 99 دولة من الدول ذات الاقتصادات النامية والأسواق الناشئة، بما في ذلك 15 دولة عربية تنتمي إلى هذه المجموعة.
كما أن دولاً تجد فيها اختلالات جسيمة في بياناتها الأساسية عن اقتصادها الرسمي، وفي أنشطته المسجلة، بل وفي حصر أعداد سكانها ودخولهم، ليس عجيباً أن تجد تبايناً في تقديرات القطاع غير الرسمي فيها نظراً لطبيعته. فالاقتصاد غير الرسمي لا تشمله سجلات الدولة ولا هو يدفع ضرائب أو رسوماً ولا يخضع لرقابة أو إشراف. ولكل سوق من الأسواق الثلاث في الاقتصاد الرسمي، وهي أسواق: العمل وتجارة السلع والخدمات ورأس المال والائتمان، نظير في الاقتصاد غير الرسمي، وإن اختلفت سبل وقوة الارتباط والتأثير فيما بينها.
وفي سوق العمل غير الرسمية يعزو الاقتصادي نورمان لويزا في دراسة له، صدرت عام 2018، أسباب انتشار العمالة غير الرسمية إلى مجموعتين من الأسباب: الأولى اضطرارية ترجع لعدم كفاية الفرص وتراجع النمو بما يستبعد مؤهلين وراغبين في العمل من مجالات منظمة في القطاع الخاص أو الحكومي أو التعاوني. كما أن هناك أسباباً أخرى ترجع إلى تفضيل المرونة والاستقلال، إذ قد يفضل الشخص ألا يعمل لدى الغير أو يعمل عندما يرى رغبة أو حاجة إلى العمل.
وفي السوق الثانية، وهي سوق التجارة للسلع والخدمات، تجد أنماطاً مختلفة من الأنشطة والمنشآت غير مسجلة، استعرض أنواعها تقرير لمنظمة العمل الدولية، صدر العام الماضي، عن الاقتصاد غير الرسمي. فهي لا تُدرج في الحسابات القومية، ولا تشملها قواعد حساب القيمة المضافة، وليست لها بضريبتها المفروضة شأن، ولا تخضع لمواصفات من أي نوع.
أما السوق الثالثة والأخيرة، فهي سوق الائتمان. فرغم انتشار البنوك ومؤسسات الخدمات المالية بأنواعها فما زالت أسواق الائتمان غير الرسمية منتعشة لأسباب تتعلق بالقطاع المالي الرسمي نفسه كتركزه في بعض الحضر وقصور خدماته. وفي أسواق الائتمان غير الرسمية في الدول النامية تتنوع أشكال المعاملات، والصفقات المالية يقوم بها مقرضون ومرابون أو تتكون لها «جمعيات للادخار والائتمان» ينظمها أفراد في ما بينهم. هذا فضلاً عن موظفي الأموال من محترفي النصب وخداع المتلهفين على المكسب السريع، لا تعرف السلطات عنهم شيئاً حتى يسقطوا بعد انكشاف إفكهم. ورغم إسهام شبكات تكنولوجيا المعلومات والهواتف المحمولة في تطوير الخدمات المالية رقمياً؛ فإنها لم تخل هي أيضاً من أنشطة غير رسمية أو تلاعب وخدع، كتلك المرتبطة بالعملات المشفرة.
أما عن أسباب وجود حالة «غير الرسمية» هذه وانتشارها، فترجعها تقارير دولية، كالمشار إليها آنفاً، إلى قصور عملية التنمية وعدم شمولها، وعدم مواكبة نمو القطاعات الإنتاجية غير الزراعية بما يستوعب العمالة النازحة من الريف مع انخفاض إنتاجية القطاع الزراعي. كما يسبب التعقد البيروقراطي وتداخل الأنظمة الرقابية وقصور قوانين العمل والتأمينات الاجتماعية وعدم ملاحقتها للمتغيرات الاقتصادية إلى تجاوزها جميعاً والالتفاف حولها فتزداد المعاملات غير الرسمية انتشاراً. كما يؤدي الافتقار إلى الحوكمة، وعدم اكتمال المنظومة التشريعية، والتفاوت والتراخي في الاحتكام إليها، إلى ازدواجية وافتقار إلى قواعد العدالة الناجزة، فيُلجأ إلى السوق غير الرسمية وأعرافها كبديل.
وفي ما يتعلق بنتائج وتداعيات «غير الرسمية» في النشاط الاقتصادي، يُظهر تقرير البنك الدولي المشار إليه انخفاض مؤشرات الناتج ومتوسطات الدخل والتشغيل في الدول التي يزيد فيها النشاط غير الرسمي على مثيلاتها. كما أن انخفاض الإنتاجية وسوء توزيع الموارد المرتبط بـ«غير الرسمية» ينعكس سلباً على تراجع النمو ومدى انفتاح قطاعات التجارة الداخلية والخارجية. كما بيّنت الدراسات المقارنة انخفاض تراكم رأس المال البشري والمادي، كلما تزايد النشاط غير الرسمي بما يعوق القدرة على التنمية والتقدم.
يمكن إنهاء هذا المقال ببعض التوصيات البدهية عن أهمية إدماج القطاع غير الرسمي والقضاء على أسباب انتشاره المذكورة؛ ولكن بعض التدبر في النهج قد يفيد، ونجمله في خمسة أمور:
أولاً، الأرقام الواردة للقطاع غير الرسمي التي سقناها هنا لا تغني عن بيانات تفصيلية عن الاقتصاد الرسمي، والأنشطة غير الرسمية تُستقى من خلال المسوح والأساليب العلمية التي تطورت على مستوى كل دولة على المستوى القومي والمحلي. ومن المشاهَد أن حكومات لدول نامية تبالغ في تقديرات القطاع غير الرسمي، دون تبيان لأساليبها في تقديره. ولعل من مقاصدها القول بأن الاقتصاد في مجمله أعلى مما تظهره تقاريرها الرسمية عن ناتجها، فتباهي الأمم مثلاً بإحصاءات لن تزيد مما هو متحقق فعلاً لعموم الناس من مستوى المعيشة؟ أو لعلها تحاول الدفع بأن البطالة أقل مما يشتكي منه الناس، فها هي السوق غير الرسمية تقوم بالواجب الذي قصرت عن إنجازه قطاعات الاقتصاد الرسمي وأسواقه. حقاً يسهم الاقتصاد غير الرسمي في العديد من الدول في علاج جزئي لمشكلات البطالة، ولكنه معروف بتقلبات أنشطته وحرمان العاملين فيها من نظم الضمان الاجتماعي والتدريب والافتقاد لتعاقدات متوازنة وانخفاض الإنتاجية.
ثانياً، أن تحديد علاقة السببية بين ما تم استعراضه من ظواهر للأنشطة غير الرسمية وما يعد أنه من أسبابها وأخرى من نتائجها ينبغي حسمها بدلاً من الاستغراق في استنفاد الجهد في علاج الأعراض، وترك العلل تتوغل في الاقتصاد.
ثالثاً، يجب ألا يُغفل صانع السياسة أن الواقع أكثر تعقيداً من النماذج التي يحتكم إليها بعض التوصيات، فالتداخل بين ما هو رسمي وغير رسمي في اقتصادات الدول النامية متشابك وواقع. فعلى عكس التقسيم السابق لسوق العمل، وأن هناك عاملاً رسمياً وآخر في السوق غير الرسمية، تجد في أحوال كثيرة أن العامل يخضع للتصنيفين: فقد يكون من موظفي الديوان في الصباح وتاجراً في سلعة من السلع في المساء دون إشهار أو تسجيل.
رابعاً، هناك تطور بات مشهوداً بفضل الثورة الصناعية الجديدة التي نعاصر تغيرات تحدثها، ومنها ما جاءت به منصات تكنولوجيا المعلومات بفرصة لصاحبنا، موظف الصباح وتاجر المساء، بأن يكون أيضاً أحد السائقين لشركة «أوبر» أو غيرها في العلن، أو من المتاجرين بعملة مشفرة في الخفاء، وهو من كل هذه الأعمال يحقق دخلاً – فما التعريف الأوفق لصاحبنا؟ وهل يأخذ التعريف باعتبار ساعات عمله أو دخله منها أو بمقدار ما يدفعه من ضرائب أو نكتفي بما هو مدوّن في بطاقة الهوية؟
وأخيراً، فإن العبرة المستقاة من خبرات الدول المتطورة كانت باجتهادها في أن يكون القطاع الرسمي فيها رسمياً حقاً، فلا يضطر الناس إلى اللجوء للقطاع غير الرسمي كرهاً. وتشهد حالات لدول مثل اليابان وبريطانيا في القرن التاسع عشر ودول جنوب أوروبا حتى عهد قريب، بأن الاقتصاد غير الرسمي كان منتشراً فيها ثم تراجع دوره مع تقدمها تقدماً شاملاً. حيث اتبع القطاع الرسمي فيها، خاصاً أو حكومياً، معايير الكفاءة، وتحرى قواعد الرقابة الحصيفة. وعلى ذات نهجها سار كثير من دول شرق أوروبا وجنوب شرقي آسيا ومنها سنغافورة التي بات يُضرب بها المثل في الكفاءة والانضباط والحوكمة، بعدما شهدت نشأتها الأولى بعد الاستقلال عشوائية واضطراباً وتدهوراً في مناحي الحياة، بما كان لا ينبئ بخير في أي أمر من الأمور المطلوبة للتقدم والرقي، لولا عزيمة قيادتها وهمة شعبها وانخراطها في تنفيذ سياسة متكاملة للنمو والتنمية.