بقلم شريف سامي خبير مالي – رئيس الهيئة العامة للرقابة المالية سابقًا
يتطلب تحقيق معدلات نمو مؤثرة وأكثر استدامة في مصر، المشاركة الفاعلة للأنشطة الاقتصادية على تعدد أشكال ملكيتها. فبالإضافة للشركات الخاصة والعامة فقد رأينا دورًا متناميًا للجمعيات والمؤسسات الأهلية وعلى الأخص على مدى السنوات الأربع الماضية في مجال التمويل متناهي الصغر لخدمة مئات الآلاف من العملاء في جميع أنحاء البلاد.
وفي المقابل فإن «القطاع التعاوني» وهو الأقرب لمجالات النشاط الاقتصادي وعلى الرغم من ارتفاع عدد المصريين المنخرطين في عضويته فإنه لا تسلط عليه الأضواء أو يحظى بالاهتمام اللازم سواء من المؤسسات المالية أو الإعلام أو مبادرات ريادة الأعمال، وليس أدل على ذلك أنه عندما أتحدث عن «التعاونيات» مع قيادات الشركات والبنوك فإن معلوماتهم عنها تقتصر على الجمعيات الاستهلاكية التي كانت ملء السمع والبصر حتى عشرين سنة مضت.
بدأت الحركة التعاونية في مصر منذ ما يتعدى قرنًا من الزمان حين ولدت في عام 1908 أول تعاونية زراعية في شبرا النملة بمحافظة الغربية على يد عمر لطفي بك الذي يعتبره الكثيرون أبا التعاون في بلدنا. وتلى ذلك بعد عام أو أكثر قليلًا تأسيسه مع طلعت حرب أول شركة للتعاون المالي، وكان ثالث المساهمين بها الأمير –السلطان فيما بعد– حسين كامل.
والتعاون نظام اقتصادي اجتماعي ديمقراطي يقوم من خلال ترابط مجموعة من الأفراد تتفق مصالحهم على المشاركة في منظمات شعبية لها شخصية اعتبارية تحقق لهم تحسن مستوى المعيشة أو زيادة دخول أو تيسير ممارستهم لأعمالهم أو توفير احتياجاتهم، والركن الأساسي للتعاونية هو حرية الانضمام، ولكل عضو صوت واحد في اتخاذ القرارات المتعلقة بالتعاونية وانتخاب إدارتها أيًّا كانت مساهمته المالية بها، بما يضمن له المساواة، وذلك على خلاف الشركات التجارية والمنشآت المالية.
وعلى مر أكثر من قرن، شهدت الحركة التعاونية في مصر تفاوتًا في نشاطها وحيويتها، وإن كان يمكن أن نصف الفترة «الليبرالية» الممتدة حتى خمسينيات القرن الماضي بأنها الأكثر تألقًا وتأثيرًا، حيث ظهر أول قانون في تاريخ البلاد ينظم النشاط التعاوني عام 1923 وكان التعاون الزراعي فقط، تلاه قانون أشمل سنة 1927 ينظم كافة أنواع التعاونيات من إنتاجية واستهلاكية وإسكانية، وأتاح لها تقديم التمويل وتلقي المدخرات بل وممارسة خدمات التأمين حتى رأت الحكومة في الأربعينيات أن يختص بنك التسليف الزراعي بشؤون التمويل بدلًا من التعاونيات.
وتلى ذلك حقبة الستينيات وتحكم الدولة في الاقتصاد ورغبتها في تملك أدوات الإنتاج مما أطفأ وهج التعاونيات وحولها بدرجة كبيرة إلى امتداد للقطاع العام أو لكيانات تسهم في تنفيذ الخطط الحكومية سواء في الإسكان أو توزيع حصص ومستلزمات الإنتاج أو الزراعة المدعومة، كما تم تأميم بنك التسليف الزراعي وذلك دون تعويض للتعاونيات عما أسهمت به، وكذلك الحال للجمعية التعاونية للبترول والتي أصبحت شركة قطاع عام.
وفي مصر اليوم أكثر من 400 جمعية تعاونية إنتاجية تعمل في مجالات النقل البري للبضائع والركاب والنقل النهري وصناعة الأثاث والإنشاءات، وكذلك 6600 تعاونية زراعية إضافة إلى نحو 2800 جمعية تعاون إسكاني و100 للثروة المائية والصيد هذا بخلاف أكثر من ألفي تعاونية استهلاكية تعمل على توفير السلع والمنتجات بأسعار اقتصادية لأعضائها وغيرهم من المتعاملين معها، وتنضوي تلك الجمعيات التعاونية تحت خمسة اتحادات تعاونية مركزية نوعية، يقدر إجمالي عدد أعضائها بأكثر من 12 مليون مواطن، وتشير أرقام الاتحاد العام للتعاونيات أن حجم أعمالها يزيد على الـ 50 مليار جنيه.
وتعد حاليًا القوانين المنظمة للنشاط التعاوني ويتوزع اختصاص الإشراف بين خمسة وزراء (التضامن الاجتماعي، الزراعة، التجارة الداخلية والتموين، الإسكان، والتعليم)، فهناك قانون للتعاون الاستهلاكي وآخر للتعاون الإنتاجي وثالث للتعاون الزراعي إضافة إلى قانون للتعاون الإسكاني، وقانون لتنظيم تعاونيات الثروة المائية، تلاه قانون تأسيس الاتحاد العام للتعاونيات وأخيرًا قانون للجمعيات التعاونية التعليمية، وصدرت كلها في الفترة بين 1975 و1990 .
وحرص الدستور في تناوله للمقومات الاقتصادية للدولة على التأكيد أن الدولة تحمي الملكية بأنواعها الثلاثة، الملكية العامة، والملكية الخاصة، والملكية التعاونية (مادة 33)، وعلى أن الملكية التعاونية مصونة، وترعى الدولة التعاونيات، ويكفل القانون حمايتها، ودعمها، ويضمن استقلاله (مادة 37).
ولا شك أن دولة بحجم مصر مع مالها من تاريخ طويل في المجال التعاوني، تستحق أن يكون أكثر نشاطًا ومساهمةً في التنمية الاقتصادية وأمضى تأثيرًا بعدة قطاعات. فبخلاف التوعية به وتشجيعه، هناك شبه إجماع على ضرورة إجراء مراجعة جذرية للمنظومة، تتضمن تحديث تشريعاته وربما جمعها في قانون واحد يتناسب مع العصر والتطورات الاقتصادية إضافة إلى الأخذ بعين الاعتبار النهضة التشريعية في السنوات الأخيرة التي أثمرت العديد من الأدوات المالية غير المصرفية من تمويل متناهي الصغر وتأجير تمويلي مرورًا بالتمويل العقاري ووصولًا إلى التخصيم، مع عدم إغفال دور التأمين على أعضاء التعاونيات ولحماية مشروعاتهم وأنشطتهم، وكذلك الاستفادة مما تتيحه صناديق التأمين الخاصة من مزايا توفر حماية في حالات الشيخوخة والعجز أو الوفاة.
كذلك من المهم عند إقرار حوافز الاستثمار وكذلك في صياغة قانون المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر الذي طال انتظاره، أو يؤخذ في الاعتبار القطاع التعاوني لا سيّما وأنه في الأغلب الأعم يمثل شريحة مهمة من المنشآت الصغيرة بل ومتناهية الصغر.