في البدء خلق الله التواصل الاجتماعي

د. ماهر عشم رئيس شركة كومتريكس للتجارة الإلكترونية

حضرت كغيري من المصريين فاعليات رمضانية كثيرة من دعوات لمؤسسات وأفراد لقاءات على الإفطار والسحور والتي يتميز بها الشهر الكريم وننتظرها كل عام لما فيها من غنى إنساني.

E-Bank

فأمس الأول مثلًا كان السحور السنوي للخريجين بالجامعة الأمريكية وهو ملتقى الأجيال المختلفة والذي كثيرًا ما يسافر له خصيصًا الخريجون الذين يعملوا بالخليج وأوربا لأنها فرصة للقاء.

في تلك المناسبة أسعد دائمًا برؤية ومتابعة أخبار الأحباء من زملاء الدراسة ومن الخريجين الذين تشرفت بتدريسهم وقد شقوا طريقهم ونجحوا في الحياة العملية مما يضيف إلى سعادتي بهم فخرًا بكل نجاح وإنجاز حققوه.

كما أتطلع إلى المزيد من تلك اللقاءات قبل انقضاء الشهر الكريم والمزيد من تلك المشاعر الإنسانية الدافئة المبنية على المحبة الخالصة لأننا في أشد الحاجة إليها في زمن ندر فيه الوقت وبعدت المسافات وصارت تلك التجمعات هي الفرصة الوحيدة للتواصل الإنساني مما دفعني لكتابة تلك السطور.

في البدء خلق الله الإنسان (آدم) وإن جاز التعبير خلقه بنظام تشغيل بمواصفات خاصة ورأى أنه ليس جيدًا لتلك المواصفات أن يكون وحيدًا وخلق الله حواء والعائلة ثم الأقرباء والأصدقاء ووضع بنية يمكن لعلماء الاجتماع أن يتحدثوا عنها أفضل مني والعلوم الإنسانية التي درست وبحثت في تاريخ المجتمعات وعوامل تكوينها أدركوا جيدًا أن التجمعات البشرية هي التي شكلت نواة القرى والمدن في القدم وعلى رأي المثل جنة من غير ناس ما تنداس.

فنظام التشغيل الإلهي يدرك جيدًا حاجة الإنسانية إلى التواصل والمحبة واللمة والعائلة والدفء ويشتاق إليها ويعمل على تحقيقها بشتى الصور.

وفي القرن التاسع عشر ابتكر الإنسان التلغراف للتواصل الاجتماعي واستمر استخدامه حتى سنوات ليست ببعيدة أذكر في طفولتي أهمية التلغراف في التواصل الإنساني والمشاركة في الأفراح والأتراح عندما بعدت المسافات وتعذر التواجد بها وتطور إلى التليفون.

وارتقى التواصل برسالة قصيرة مكتوبة لا خصوصية بها إلى التواصل بالصوت مباشرة وكان أفضل وأكثر خصوصية ولم يكن التليفون منتشرًا وحتى منتصف التسعينيات من الألفية الماضية كانت قائمة الانتظار لتركيب خط منزلي تطول لسنوات وتتكلف الآلاف للدخول في القوائم الأسرع والتي تختصر السنوات إلى سنة واحدة.

ثم جاء التليفون اللاسلكي والمحمول وقلة تكلفة الحصول إلى تلك التقنية إلى جنيهات قليلة وصار المحمول في يد الجميع. في تلك الحقبة أيضًا (التسعينيات) بدا الإنترنت في الانتشار وتطورت استخداماته مستندة على تطور الشبكات السلكية واللاسلكية من قبله.

وتوجت تلك الابتكارات ظهور الهواتف الذكية وملايين التطبيقات التي استغلت انتشار تلك الهواتف واتصال البشرية عبر الكرة الأرضية وظهرت علوم جديدة مثل التكنولوجيا المالية ومنافسات شرسة كتلك التي تتعلق بال 5G والصراع الأمريكي الصيني في هواوي.

تزامنت تلك الابتكارات بالانتشار الأفقي وظهور المدن الجديدة وزيادة المتطلبات العصرية مما زاد من الأعباء الملقاة على رب الأسرة أو ربي الأسرة معًا وحاجتهم إلى العمل ساعات طويلة والاغتراب بحثًا عن فرص أفضل مما زاد من حاجة الإنسان في ابتكار وسائل للتواصل لإشباع تلك الرغبة الملحة الموجودة بنظام التشغيل الخاص به.

فابتكر وسائل التواصل الاجتماعي مثل الفيس بوك والواتساب والفايبر إلى آخره من تطبيقات موجودة على هواتفها الذكية سهلت التواصل وتبادل الرسائل بالصوت والصورة والفيديو وجمعت الأحباء والأصدقاء بل ونجحت في تكوين مجموعات دون سابق معرفة تجمعها اهتمامات مشتركة مثل حب السفر أو الطبيعة أو التاريخ.

وصارت جزءًا لا غنى عنه في حياتنا، بل لا أبالغ إن قلت إنه إذا أراد أي شخص التعرف على شخص آخر فمن أول الأشياء التي يقوم بها هو تضقح صفحة الفيسبوك الخاصة به والتي يمكن من خلالها معرفة الكثير عنه.

تلك اللقاءات قابلت فيها ناس لم أعرفهم إلا من خلال صفحات التواصل الاجتماعي كما قابلت أصدقاء لم أرهم منذ سنوات كرروا جملة “إنت واحشنا بس إحنا متابعينك”.

وبالرغم من خلال كل هذه الابتكارات العظيمة التي اخترعها الإنسان ليشبع تلك الحاجة إلى التواصل فإن خبرتي من لقاءات رمضان أنها لن تستطيع أبدًا أن تكون بديلًا عن اللقاءات الإنسانية الفعلية فلا شيء يمكن أن يحل محل متعة الجلوس إلى الأصدقاء والأحباء والأهل.

ومهما تقدم الإنسان لن يستطيع أن يعيش بمفرده في العالم الافتراضي معتمدًا على تلك الوسائل الإلكترونية غير المحسوسة فشكرًا للأعياد والمناسبات التي تجمعنا وكم أودّ أن تمتد للسنة كلها وشكرًا للتكنولوجيا ولكل من ابتكر وسائل التواصل وإن كانت لن تملأ كل الفراغ فهي من المؤكد ملأت جزءًا منه.

الرابط المختصر