بقلم أحمد رضوان ـ رئيس تحرير جريدة حابي
حلّت بالأمس الذكرى السابعة والعشرون لمقتل المفكر الكبير فرج فودة أحد أشدّ المحذرين من خطورة تسرُّب وانتشار أفكار الجماعات الإسلامية المتشددة في المجتمع المصري على جميع المستويات وتحديدًا السياسي منها.
ومن الصعب -وليس من المستحيل بالتأكيد- أن يختلف اثنان على أن مواجهة الأفكار المتشددة بجرأة كانت الخط العام الواضح في معظم كتابات ونقاشات ومواقف وأيضًا معارك فرج فودة والتي أدَّت في نهايةِ المطافِ إلى اغتيالِهِ، بغضِّ النظر عن تصيُّد مقولة بعينها أو موقفٍ ما قد يتعارضُ أو يضع شيئًا من الضبابية على هذا الخط الغائر في رحلة فودة.
لا أسعى في هذه المقالة إلى سرد أفكار فرج فودة، لسبيين، الأول أنَّ القارئ العزيز يستطيع بسهولة الوصول إليها وتقييمها بصورة أفضل عبر الرجوع إلى كتاباته وأرائه فيها ولقاءاته المصورة والمواقف التي اتّخذها تأكيدًا لإيمانه بهذه الأفكار مرورًا باستقالتِه من حزبِ الوفدِ بسبب تحالُف الحزب مع جماعة الإخوان المسلمين في انتخابات 1984 وغيرها من المواقف التي انتهت باغتياله عقب مناظرةٍ شهيرةٍ حول الحاكميةِ وفصل الدين عن الدولة.
أما السبب الثاني فهو وجود رصيد ومخزون فكري قد يكون أكثر منهجية وتأثيرًا خرج من منابع أخرى باتجاه نفس المصب، ما يستحيل معه الحديث عن أفكار فودة دون مقارنتها بهذه المنابعِ، وفي المقابل هناك مخزون آخر طرح أفكارًا مختلفة بنوايا خالصة لا تعرف الفساد، من الضروري أيضًا نقلها كردود، لتزيد الجدل سخونة والأفكار وضوحًا.
ما أنا بصدده فعليًّا هو الوقوف على اغتيالِ مفكّر كبيرْ جهر ودافع عما يؤمن به أمام رؤوس الأشهاد بلا خوف أو تخاذل، ودفع دمه ثمنًا لجرأته وشجاعته وإيمانه بما يقول وقوله بما يؤمن.
ليس لدي شك -وفقًا لفهمي- في أن الشريعة الإسلامية حمَت حريةَ الاعتقادِ بصورة مطلقة. ولا أعرف كيف نفسر الآيات الكريمة «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين»، و»وما على الرسولِ إلّا البلاغ المبين» و»فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» وعشرات الآيات الأخرى، في سياقٍ مغايرٍ يقود إلى وضع قيود على حرية الاعتقاد، فما بالك بحرية الرأي، وما بالك بحرية الرأي بين صفوفِ أهل نفس المعتقد.
وإذا كان هناك في التراث ما يبرّر عكس ذلك، فلننسب التراث لمن صنعوه وفقًا لفهمهم ومصالحهم ثم نسأل: هل هذا الفهم وما اقترفه من كوارث يستقيم مع درجة الوضوح التي تميز هذه النصوص؟ بأعلى درجات اليقين.. لا يستقيم.
إذن من أين جاءت السموم؟ .. إنها نتاج تاريخ طويل من التزييف والتضليل وغرس الجهل والفقر وكتم الأفواه وتوظيف كل شيء بما في ذلك رجال الدين وتفسير النص الديني أيضًا من أجل السيطرة وضمان النفوذ، كل جهد تم بذله في اتجاه مراجعة التراث وتنقيحه -وهي أمور تسبق تجديد الخطاب الديني وتقديم فهم جديد للنص- تم مواجهتها بمنتهى العنف، تارة بوجود أهل هذه التيارات المتشددة في أعلى درجات السلطة، وتارةً أخرى عبر تحالفهم مع مَن في السلطة أيًّا ما يكونون، وتارةً ثالثة عبر الإرهابِ بالكثرةِ والغلبةِ ثم بالسلاحِ والقتلِ.
عملية اغتيال فرج فودة، ومحاولة اغتيال الأديب الكبير نجيب محفوظ وغيرها من نماذج استخدام أعلى درجات العنف لكتمِ الأفواه وفرض الرأي الآخر بقوة السلاح -وهي ليست بالقليلة- هي الدرجةُ الأخيرةُ والأكثر قبحًا على سلم غض الطرف عن السيئ من أجل الاستفادة منه ولو إلى حين، هكذا تم صناعة الجماعات الجهادية المتشددة وهكذا زاد نفوذ جماعة الإخوان المسلمين حتى وصلت للسلطة مستفيدة ليس فقط من تحالفها التاريخي مع النظام قبل سقوطه، وإنما أيضًا من مساحة الفراغ التي تركها بمعاداته للأفكار المستنيرة.
مراجعة التراث وتنقيحه تحتاج إلى حماية كبيرة ليس من التيارات المتشددة، ولكن من هؤلاء الذين يستغلون ثغرات تشريعية لرفع عشراتِ القضايا ضدَّ كل من يجتهد في تنقيح التراث وتجديد الخطاب الديني. أليس للمجتهد أجر ولو أخطأ؟