محمود محي الدين يكتب .. عن العمود الثالث والثورة الرابعة والخطر الخامس

بقلم د. محمود محيي الدين النائب الأول لرئيس البنك الدولي نقلا عن الشرق الأوسط

يلخص هذا العنوان الذي يبدو مبهماً أهم ما يدور مؤخراً من نقاش حول إدارة شؤون الدولة والاقتصاد، في ظل التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم، والتي يتشكل معها نظام دولي جديد يختلف في ترتيباته عما تم التعارف عليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وانقضاء الحرب الباردة وما تبعها.

E-Bank

ونستعرض الأبعاد الثلاثة المذكورة في العنوان، في ظل إدراك أن مسألة تقدم الأمم، رغم التحديات، تظل اختياراً عاماً تشترك في صياغته، بشكل أو بآخر، القيادة ومريدو الإصلاح مع عموم الناس.

ولنبدأ بالخطر الخامس كمفهوم صاغه الكاتب الأمريكي المعروف مايكل لويس، وجعله عنواناً لكتابه الأخير الصادر مؤخراً. ولويس صاحب كتب أدبية حققت مبيعات هائلة، وتدور موضوعاتها حول أسواق المال وخفاياها وأزماتها، وقد تحول بعضها لأعمال سينمائية. هذا الكتاب الأخير أيضاً ستنتجه شبكة «نتفليكس».

ومفهوم الخطر الخامس يجب ألا تتعجل في فهمه، فتسأل مثلاً عن المخاطر الأربعة التي تسبقه. فالخطر الخامس يصف حالة من المخاطر التي لا ترد على بال أحد، ولا تؤخذ في الحسبان عند رصد المخاطر من أجل الاستعداد لها.

تابعنا على | Linkedin | instagram

وتتجلى هذه المخاطر فيما يصل إلى حد تهديد وجود كيان الدولة ذاتها، وإنْ لم يُدرج أبداً في قائمة المخاطر المحتملة. وقد ينعكس الخطر الخامس في حده الأدنى، في شكل تكاليف باهظة يتحملها عموم الناس على المدى الطويل.

وترجع هذه العواقب الوخيمة للخطر الخامس إلى ما يصفه مايكل لويس بتغليب المصالح الضيقة لفئة أو مجموعة معينة على المصلحة العامة، وإعطاء الأولوية لمكاسب في المدى القصير بأعباء تتراكم فتثقل كواهل الأجل الطويل.

ورغم أن الكتاب يجتر أمثلته من فترات التحول وانتقال السلطة في الإدارة الأمريكية، فأوجه الاستفادة قائمة فيما يتجاوزها. فإذا ما فتحت الصندوق الأسود لنظام الدولة، فوجدتها عاجزة عن حماية الناس من تهديدات لحياتهم وطعامهم وبيئتهم وأمن معلوماتهم، بسبب عمل لم تُحسن إدارته، وابتكارات لم تُمهد لها الطريق، وتطوير لم يُسمح له بأن يرى النور، فهذا هو الخطر الخامس يلوح في الأفق.

وإذا رأيت الدولة وقد عجزت عن أداء مهامها بالانصراف عن وظائفها الحيوية إلى القيام بأنشطة متهافتة، فنحن بصدد خطر خامس غير مأمون العاقبة.

وإذا وجدت المعارف مضمحلة وهيكل المعلومات بات ضحلاً، فالخطر الخامس محدق يكاد يفتك بعرى استقرار الدولة. فبضاعة الإهمال والتقصير في فهم أسس إدارة جهاز الدولة ترد لأصحابها كاملة، ومحملة بما يزيد على ذلك من جرائرها، ولو بعد حين.

أما الثورة الرابعة، فهي ثورة رقمية تجتاح الحدود التي كانت فاصلة بين ميادين التطور الصناعي والبيولوجي وتكنولوجيا المعلومات، تعتمد على التمكن العلمي، والمهارة القصوى في التعامل مع قواعد البيانات الكبرى والمنصات والشبكات الرقمية ونظم الذكاء الاصطناعي.

وقد ذكرت في مقالات سابقة تبعات ومظاهر هذه الثورة، وما سيتواكب معها من مربكات في نظم التعلم والعمل. وفي تقديري أن هناك فرصاً كبرى للعرب في الاستفادة من هذه الثورة تحديداً، بعدما كان نصيبهم من الثورات الصناعية الثلاث الأولى محدوداً بتقديم خامات أولية واستهلاك منتجات نهائية، لمن استطاع.

وكما رسمت الثورات الصناعية الثلاث السابقة الحدود بين الفقر والغنى والتقدم والتخلف؛ بل ورسمت فيما رسمت حدود وقواعد الجغرافيا السياسية ومواطن الاستقرار وبؤر الصراعات، سيكون للثورة الصناعية الجديدة آليات مماثلة لتشكيل أبعاد العالم وأسس نظامه الاقتصادي والسياسي التي تتشكل ملامحها.

وفرص العرب الأكبر في تحقيق النفع من الثورة الصناعية تكمن في شبابية مجتمعاتهم التي تنزع لصغر الأعمار، بما يمكن من الاستثمار في تطوير رأس المال البشري والبنية الأساسية المطلوبة للثورة الصناعية الجديدة.

وحتى لا تتحول الفرص الكامنة إلى إمكانات مهدرة يستوجب الأمر إحداث نقلة نوعية في دور الدولة والقطاع الخاص وأوجه التعاون بينهما، فلم يكن كثير من نماذج التعاون تلك فيما يقتضيه الصالح العام أو تتطلبه مصلحة عموم الناس.

ففي حالات كثيرة عُممت الخسائر والتكاليف وخُصخصت المنافع والعوائد من دون منطق حكيم أو نظام محكم لتوزيع العطايا أو حجبها. وعانت موازنات الدول لعقود من دعم هنا وإعفاءات هناك، دون مساس بها تحت شعارات لترشيد طال تعثره، وادعاء العمل على استهداف لمستحقين ظلوا في الخفاء مستبعدين.

وفي أحوال تجد الدولة وقد استبعدت القطاع الخاص فزاحمته فيما هو أهل له كفاءة ومنافسة، ولم يكن غريباً في ظل هذا الوضع أن يزاحم القطاع الخاص أجهزة الدولة المثقلة فيما هي أهل له وسبب في وجودها، قياماً بالوظائف العامة من خلال مؤسساتها المعنية. وإلى أن يعاد ترتيب الأوراق وتنظم المهام ستضل الجهود عن بلوغ مرماها.

ونهاية، نأتي للعمود الثالث الذي قد يقدم العلاج المانع من الخطر الخامس الذي يداهم الدولة، ويتعامل مع تحديات الثورة الصناعية ومربكاتها للقطاع الخاص.

ويقصد الاقتصادي راجو راجان في كتابه الصادر منذ شهور تحت عنوان العمود الثالث، دور المجتمع الذي غُيب في غمار الجدل حول دور الدولة والسوق، والنقاش حول أولوية القطاع الحكومي أو القطاع الخاص.

ويجمع راجان بين رصانة العلم كأكاديمي مرموق وعمق الخبرة كمحافظ سابق للبنك المركزي الهندي العتيد، ويقترح أن إصلاح النظام الاقتصادي السائد لا يتطلب ثورة بقدر ما يحتاج إلى تفعيل قوي لإعادة التوازن المفقود منذ الأزمة العالمية، وجموح شركات بعينها نحو السيطرة والممارسات الاحتكارية.

إن جهود إعادة التوازن يجب ألا تكتفي بقوانين فوقية لمنع الاحتكار وحماية المنافسة، رغم أهميتها القصوى، فلا يقل عنها أهمية ما يستوجبه إطلاق القدرات المكبوحة على المستوى المحلي في القرى والمدن الصغيرة، من خلال سياسات محكمة ومؤسسات فعالة وموازنات مناسبة، لتحقيق توطين التنمية والمنافسة بين مراكز وأقطاب متعددة للنمو الشامل للكافة، بما يخفف من حالات الاحتقان، بسبب عدم العدالة في توزيع الدخل والثروة، علماً بأن الشعور بعدم عدالة الفرص أشد خطراً.

لتوطين التنمية وتحقيق استثمارات ضخمة على المستوى المحلي فائدة أخرى، في ظل الجدل الدائر عالمياً حول الحمائية والحروب التجارية، فمن أسباب النزاعات التجارية والتخوف من آثار الثورة الصناعية الرابعة هذه، التأثيرات المتباينة على المجتمعات والقطاعات والمشروعات الإنتاجية المختلفة.

والاهتمام بالبعد الثالث من خلال تفعيل دور المجتمع والحوكمة على المستوى المحلي، سينقل النقاش إلى مجالات عملية حول أولويات الاستثمار وأثره المباشر في إتاحة فرص العمل وزيادة الدخول، بأن يكون المجتمع المحلي شريكاً في تحديد الأوليات ومتابعة تنفيذها، ومدركاً قبل غيره لتأثيرها. وفي هذا المنهج قدر من التفاصيل العملية، وفي معرفتها مبكراً يكمن الفرق بين النجاح والفشل، ونفرد لها في مقال قادم ما تستحق لاستبيانها.

الرابط المختصر