بقلم د. محمود محيي الدين النائب الأول لرئيس البنك الدولي نقلا عن الشرق الأوسط
يُعد كتاب «بنادق أغسطس» للمؤرخة باربارا توكمان والصادر في عام 1962 عن الحرب العالمية الأولى من أفضل الكتب التي أرَّخت لحرب لم يردها أحد ولم يتوقع حدوثها أحد، ولكنها رغم ذلك اندلعت واقتتل فيها 70 مليون جندي مات منهم 9 ملايين فضلاً عن قتل 7 ملايين من المدنيين، وأصيب عشرات الملايين بعاهات لازمتهم مدى الحياة، وإصابات جسيمة عانوا منها حتى الموت.
كما أسفرت هذه الحرب الكبرى، التي انتهت منذ مائة عام، عن مذابح تلتها، كما تفشت الأوبئة فقتل بسببها أضعاف هذه الأرقام، كما مهدت للحرب العالمية الثانية بدمار أوسع وبخسائر أكبر، لأن اتفاقيات السلام التي عقدت في فرساي لم تكن عادلة أو متوازنة.
كان من الممكن إنهاء هذه الحرب الأولى، التي لولاها ما كانت الثانية، إذا ما توافق قادة القوى الكبرى على حسم نزاعاتهم سلماً.
ولكن الحروب من هذا النوع تحدث لأن من يدخلها يظن ببساطة أنه سينتصر ثم تنتهي بخسائر لكافة أطرافها.
وكانت بداية الحرب العالمية الأولى في أغسطس 1914 باستغلال أزمة البلقان، واغتيال ولي عهد التاج النمساوي ـ المجري الأرشيدوق فرانز فرديناند في البوسنة على يد صربي قومي اعتراضاً على تهديد استقلال بلاده، ثم انتهت إلى ما انتهت إليه.
ولمن يتدبر دروس التاريخ سيرى أنه عندما تشتد النزاعات في مجال الاقتصاد تتحول شؤونه وكأنها حروب بين غرماء، وسيجد معاركه التجارية والمالية ليست بذات اختلاف كبير من حيث الأسباب، التي كان من الممكن احتواؤها، والنتائج التي تصيب بأذاها البريء مع المذنب، وإن اختلفت الأدوات.
ومن الشرور أيضاً عدم التحسب ضد المخاطر وتجاهل إشارات التغيرات الاقتصادية والتباطؤ عن اتخاذ القرارات في مواقيتها المعتبرة، فإضاعة الوقت لن تعوضها مضاعفة الجهود بعد فوات الزمن، فهناك تكلفة ستدفع حتماً ولن يزيدها التسويف إلا مضاعفة في تكلفة تتحملها أجيال متعاقبة.
وجدير بصانع القرار الاقتصادي في البلدان العربية أن يتحسب للمستجدات الأخيرة في الاقتصاد العالمي، وتبني السياسات المناسبة حيالها ونلخصها في أمرين:
الأول، تخفيض سعر الفائدة على الدولار الأميركي: ففي 31 يوليو الماضي ولأول مرة منذ اشتعال الأزمة المالية العالمية في عام 2008، خفض البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بمقدار ربع نقطة مئوية، وقد يتبع هذا التخفيض بتخفيض آخر.
وللوهلة الأولى يمكن تصور أن يفيد هذا التخفيض الاقتصادات ذات الأسواق الناشئة، ومنها اقتصادات عربية، تراجعت فيها معدلات النمو عن المعدلات اللازمة لتحقيق زيادة ملموسة في النشاط الاقتصادي وإتاحة فرص العمل، وللحفاظ على استقرار سعر صرف عملاتها مع الدولار احتفظت بأسعار فائدة عالية عوقت من حركة الاستثمار والتشغيل.
وقد يمنح انخفاض سعر الفائدة على الدولار إمكانية لتخفيض أسعار الفائدة المحلية بما يحقق زيادة في الطلب على الائتمان، وتحسين معدلات نمو الاقتصادات ذات الأسواق الناشئة التي تراجعت في الأعوام الماضية، كما أن متوسط نمو إقليم الشرق الأوسط والبلدان العربية المقدر لهذا العام لم يتجاوز 2 في المائة، وهو رقم ضئيل بأي مقياس خاصة باعتبار معدل النمو السكاني.
وهنا يبرز دور تنسيق الإجراءات الاقتصادية فإنه إذا ما تباطأت السياسة النقدية في القيام بدورها مع نزوع أسعار الصرف للثبات ستتزايد تدفقات رؤوس الأموال الهائمة والساخنة ذات الآجال القصيرة، والتقلبات العنيفة محدثة عند دخولها رفعاً لأسعار الصرف الاسمية، وعندما تلوح لها فرصة أفضل مع أسعار فائدة أعلى خارجية تندفع خارجة محدثة توتراً في أسواق النقد والمال.
كما أن تخفيض سعر الفائدة على الدولار قد يغري بمزيد من الاقتراض الخارجي أو الإبطاء في إجراءات إعادة هيكلة الديون العامة، ولهذا هناك عواقب وخيمة إذا ما عاودت أسعار الفائدة الارتفاع.
ومع تخفيض أسعار الفائدة عموماً قد تندفع المضاربات على العقارات وبعض الأسهم المحدودة المتداولة في البورصات بما يتجاوز قيمتها الحقيقية، وتتكون بدايات لفقاعات مالية تتحين توقيتاً لانفجارها، بما في ذلك من تداعيات.
ومع استمرار انخفاض الفائدة تنتشر حيل توظيف الأموال، فيما يعرف بنماذج التمويل الهرمي، فيقع في شراك محترفي النصب الموعودون بعوائد عالية ولن يحصلوا عليها، هذا إذا استردوا رؤوس أموالهم.
يتطلب الأمر إذن تفعيل سياسات متكاملة للادخار والاستثمار والإنتاج والتشغيل وإلا تحول انخفاض أسعار الفائدة إلى نقمة لا تقل شراً عما يحدثه ارتفاعها.
ثانياً: تزايد التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين كأكبر اقتصادين على مستوى العالم. فبين رفع للتعريفة الجمركية من ناحية وحظر استيراد لبعض السلع من ناحية أخرى تزايدت تقلبات الأسواق مع قلق التجار والمستثمرين، وتوقعات بأن تدفع هذه التوترات الاقتصاد العالمي لمزيد من التباطؤ بتراجع النمو والصادرات والاستثمارات، وانخفاض طلب المستهلكين للسلع والخدمات.
ومع استمرار حالة التوتر واتخاذ إجراءات عقابية من طرف برد فعل مماثل، أو أكبر، من طرف آخر تتباطأ فرص التسوية وتتزايد احتمالات الولوج في حرب تجارية كاملة العناصر، خاصة مع تبادل الاتهامات بالتلاعب في قيم سعر الصرف إيذاناً بإشعال حرب أخرى في جبهة أخرى فيما يُعرف بحرب العملات بين مؤيد لوجود تلاعب في أسعار الصرف، ومنكر لذلك باعتبار أن هذا تغير طبيعي يرجع للاعتبارات الاقتصادية الحاكمة لقيمة العملة.
انعكست هذه التوترات على البورصات العالمية التي شهدت تغيرات لا تتناسب مع التجاوب المعتاد بارتفاعها مع كل انخفاض لأسعار الفائدة على الدولار. كما شهدت هوامش الإقراض ارتفاعاً يعبر عن مخاطر الاستثمار وتداعيات ظروف عدم اليقين وتراجع الثقة.
ويصيب الدول النامية، ومنها الدول العربية، أذى من هذا التوتر بسبب الآثار السلبية على الاستثمار الأجنبي المباشر المتراجع وضعف الطلب على الصادرات سواء لسلع أولية أو مصنعة أو خدمات. وفي مثل هذه الحالات يتجنب المستثمرون المخاطرة وينزع أصحاب الفوائض المالية إيداعها في أوعية أكثر أمناً في تقديرهم مثل الذهب الذي تجاوز مؤخراً سعر الأوقية منه 1500 دولار لأول مرة منذ ست سنوات.
لعل تنويع قواعد الإنتاج وتحقيق التوزيع الجغرافي المتوازن للنشاط التجاري إلى غير ذلك من الينبغيات ستشملها التوصيات المعتادة في مثل هذه الأجواء الاقتصادية المعتمة. وهي إجراءات يجدر الدفع بها في كل الأحوال، لكن الأمر يتطلب جهداً فائقاً للاقتصادات العربية على جبهتي العرض والطلب.
فمن ناحية العرض تحتاج الاقتصادات العربية إلى رفع الكفاءة والتنافسية في المجالات ذات القيمة المضافة خاصة مع التحول الرقمي الذي يشهده العالم، وتفعيل أصول المنافسة والقضاء على معوقات النمو وكل ما يعرقل الاستعداد للتغيرات القادمة.
ومن ناحية الطلب، هناك فرص كامنة في الطلب المحلي لم تستغل، وحوافز ذكية لم تطلق لتفعيل إمكانيات المجتمعات المحلية من خلال الاستثمار في البنية الأساسية والخدمات الرئيسية كالتعليم والرعاية الصحية وتنمية المهارات، وإطلاق طاقات أضاعت فرصها موجات من الجدل حول دور القطاع الخاص والقطاع العام والمركزية واللامركزية، والعبرة كما أظهرت خبرات التنمية الناجحة، بإدراك المزايا النسبية لكل عنصر من عناصر قدرات الدولة واستغلالها لنفع عموم الناس.