محسن عادل خبير اقتصادي
تميّزت طلبات شراء أذون الخزانة الألمانية، المعروفة باسم «بوند»، التي تستحق بعد ثلاثين عامًا والغارقة حاليًا في سعر فائدة سلبي، بحركة خجولة. إذ رسا إجمالي هذه الأذون المعروضة للبيع في الأسواق المالية العالمية عند ملياري يورو.
في حين وصلت القيمة الكلّية لطلبات شرائها إلى 800 مليون يورو وهذا أضعف إقبال عليها منذ عام 2011، وفي الوقت الحاضر، يرسو سعر الفائدة على هذه الأذون عند «سالب» 0.11 في المائة ووفقًا لصحيفة الشرق الأوسط فإن انهيار سعر فائدة أذون خزائن الدول إلى ما تحت الصفر، لم يشمل ألمانيا فحسب؛ إنما شمل دولًا صناعية أخرى ذات ثقل كبير في البورصات.
ووفقًا لخبراء عالمين فإن سياسات المصارف المركزية التوسعية، لا سيما المركزي الأوربي، لإبعاد شبح الركود الاقتصادي عن طريق ضخ كميّات ضخمة من السيولة النقدية في الأسواق المالية، كان لها الدور الأبرز في تراجع أسعار فائدة أذون الخزانة.
تلك التعليقات كانت جزءًا من كل يشهده واقع الاقتصاد العالمي الجديد تحت عنوان “الديون العالمية سالبة العائد” حيث ارتفعت الديون سالبة العائد حول العالم إلى مستوى قياسي مع تدافع المستثمرين نحو الأصول الآمنة، بعد انقلاب منحنى العائد لسندات الحكومة الأمريكية مما أثار مخاوف بشأن الركود وبلغت القيمة السوقية لمؤشر “بلومبيرج باركليز للديون العالمية سالبة العائد” 16 تريليون دولار – فمعدلات الفائدة السالبة منتشرة في اليابان ومنطقة اليورو، والتوقعات تتزايد بأن الفيدرالي سيواصل خفض الفائدة الأمريكية هذا العام، الأمر الذي عزز من حجم السندات سالبة العائد إلى ما حجمه 27% من سوق السندات العالمي.
عرفت الفائدة السالبة للمرة الأولى عام 1890 من قبل “سيلفيو جيزيل”، وهو رجل أعمال ألماني، الذي كان مشرّعًا مهتمًّا بالتمويل في جمهورية بافاريا، واعتبرت أفكاره بعد ذلك حلًّا ممكنًا للكساد العظيم، وحاز على ثناء ومدح الاقتصادي “جون ماينارد كينز”.
وبحسب تقرير لـ”بزنس ويك” لم يعد على الناس جني مقابل كبير (فائدة مرتفعة) لتشجيعهم على الادخار، بل ويقبلون في بعض الحالات فائدة سالبة، أي أنهم يستردون قيمة استثماراتهم ناقصة عند تاريخ الاستحقاق فأسعار الفائدة السالبة ظاهرة جديدة.
ولا يزال هناك تضارب كبير حول أسبابها، ويميل رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي السابق “آلان جرينسبان”، والمستشار الاقتصادي لدى “باسيفيك إنفستمنت مانجمنت”، “جواكيم فيلس” إلى احتمال تغير العادات الأساسية للناس بما يجعلهم يقدرون الاستهلاك في المستقبل مثل أو أكثر من الحاضر وهناك نظرية أخرى تقول إنه بدلًا من التحلي بالصبر أكثر، فإن الناس يدخرون زيادة كإجراء احترازي، لأنهم خائفون من الأزمة المالية، كما يقول الاقتصادي في جامعة أكسفورد “أندريا فيريرو”.
ويعتقد بعض المعلقين والمحللين أن معدلات الفائدة السالبة هي أداة لفرض رسوم على الناس نظير إبقاء أموالهم في أمان، وهذا الأمر ليس بجديد، لكن سبب الحديث عنه أن تكلفة هذا الأمان لم تعد مخفية بعوامل أخرى كانت تستخدم كحجة لرفع الفائدة، مثل النمو القوي في الإنتاجية والسكان والأسعار.
وبحسب تقرير لـ”فاينانشيال تايمز” ففي الوقت الذي يتوقع فيه الكثيرون تخفيض البنك المركزي الأوربي أسعار الفائدة إلى النطاق السالب، قد تكون تجربة السويد (أول اقتصاد رئيسي يجرب معدلات فائدة دون الصفر) مفيدة، وفي حين أنها لم تؤد إلى أزمات في القطاع المصرفي كما حذر البعض، ليس من الواضح إذا كانت ناجحة ، كانت هذه التجربة قصيرة الأجل، لكن بعدما تغلبت البلاد على الانكماش مرة أخرى بعد أزمة منطقة اليورو، دفع البنك معدل الاقتراض الرئيسي إلى ما دون الصفر مجددًا في فبراير 2015، ليظل ضمن هذا النطاق منذ ذلك الحين.
ووفقا لـ”فاينانشيال تايمز” فقبل عقدين من الزمان، كان أكثر من نصف سوق السندات بالعالم يحقق عائدات لا تقل عن 5%، وفقًا لبيانات “آي سي إي داتا إندسيز”، لكن مشتريات البنوك المركزية وخفض أسعار الفائدة بعد الأزمة المالية أدى إلى تراجع هذه الحصة إلى 16% بعد عقد، صحيح أن حصة السندات التي تقدم عائدًا يتجاوز 5% تراجعت كثيرًا قبل عشر سنوات، لكن كان بمقدور المستثمرين إيجاد الكثير من الديون مرتفعة العائد، إنما اليوم تراجعت حصة هذه السندات من السوق العالمية إلى 3% فقط، وهي أدنى حصة على الإطلاق في الواقع، أصبحت الديون ذات العائد المرتفع من الأنواع المهددة بالانقراض حقًّا، إذ تبلغ حصة السندات التي يتجاوز عائدها 10% نحو 0.4% من حجم سوق الدخل الثابت العالمي، وفقًا لبيانات “آي سي إي”.
ووفقًا للتقرير السابق فهناك طريقتان رئيسيتان للمستثمرين للتصدي لجفاف منابع العائد العالمي، وهي شراء سندات لها فترة استحقاق أطول أو ديون أكثر خطورة، لكن رغبة المستثمرين في الحصول على ديون يبلغ أجلها عقودًا، تراجعت بشكل حاد أيضًا هذه التطورات تدفع العديد من المستثمرين نحو الخيار الأخير الوحيد، وهو المغامرة في المناطق الأكثر خطورة في سوق السندات، مثل الدول الهشة، والشركات المثقلة بالديون، والأدوات المالية الغريبة، وهي كلها أوراق مالية كانوا يتجنبونها عادة أو على الأقل يطالبون بعائد أعلى بكثير لشرائها، إن مطاردة المستثمرين للعائد وتحمل المخاطر المفرطة يشكل خطرًا على الاستقرار المالي في العالم، ما يُشعر المقترضين ذوي المخاطر المرتفعة بالسعادة، ومؤخرًا باعت بنين وأوزبكستان سندات دولية للمرة الأولى.
يجعل النمو المتسارع للديون سالبة العائد بيئة السوق معادية لمعظم مستثمري السندات، ومع ذلك فقد تمكنت بعض صناديق التحوط من إيجاد سبل لجني الأرباح عبر هذه الأصول ذات العائدات دون الصفر، بحسب تقرير لـ”فاينانشيال تايمز” وإحدى أكثر الاستراتيجيات وضوحًا التي اتبعها مديرو الأصول كانت “القفز على الموجات الكبيرة”، فانخفاض العائدات يصحبه ارتفاع في أسعار السندات، وكان بإمكان المستثمرين الذين تمسكوا بحيازاتهم مع هبوط العائد إلى ما دون الصفر، تحقيق أرباح جيدة فالنظر إلى السندات سالبة العائد قد يبدو مضللًا بعض الشيء، إذ يمكن لمديري الصناديق خارج منطقة اليورو على سبيل المثال، الاستفادة من شراء الديون الحكومية ذات العائد السالب في أوربا كتعزيز لإجراءات تحوط العملة ذلك لأن هذه التحوطات تعتمد على المستويات النسبية لأسعار الفائدة قصيرة الأجل، وهي أعلى بكثير في الولايات المتحدة مما هي عليه في منطقة اليورو، وبذلك يكون المستثمرون الذين يمتلكون الدولار يدفعون ثمن تحوط فعال ضد العودة من اليورو إلى الدولار.
في مصر هناك اقتراحات بديلة الآن لتنويع محفظة الدين العام مثل استبدال الديون بسندات شبيهة بالأسهم حيث تصدر حكومات سندات مرتبطة بالناتج المحلي الإجمالي على سبيل المثال فعندما يرتبط سداد الدين بالناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، فإن الحكومات ستكون بمنأى عن ارتفاع نسبة الدين للناتج المحلي الإجمالي الذي يحدث أثناء فترات الركود، ويمكن أيضًا إصدار سندات “لا تعوض” والتي تزيل مخاطر أزمة إعادة التمويل وتعد هذه الأفكار جيدة، ولكن يمكن تطبيقها فقط بالنسبة للسندات التي أصدِرت حديثًا بعكس الالتزامات القديمة، وبالتالي، فإنها يمكن أن تجدي نفعًا على المدى الطويل.
يستدعي ذلك اتخاذ حزمة من الإجراءات المتكاملة لتعزيز قدرة السوق الثانوية لسندات الخزانة ومنها توسيع قاعدة المستثمرين، واستحداث آليات مثل بيع وإعادة شراء السندات، وتوحيد تسوية الأذون والسندات لتفعيل آليات تسليف الأوراق المالية الحكومية، والمحافظة على الإصدارات المنتظمة وخلق نقاط مرجعية في كلٍّ من سوق الإصدار والتداول وكذلك توحيد نظام التسوية للأوراق المالية الحكومية لتعزيز سيولة السندات. حيث تساهم سيولة السوق الثانوية في تخفيض تكلفة تلك الأوراق من خلال خفض عائد الإصدار. هذا بالإضافة إلى إعادة النظر في نظام طرح العطاءات (Uniform vs. Competitive auctions) ونظام التداول بالسوق الثانوية.