بقلم د. محمود محيي الدين النائب الأول لرئيس البنك الدولي نقلا عن الشرق الأوسط
كثير ما تترتب على القرارات الاقتصادية نتائج تناقض مقاصدها المعلنة، وفي أحوال متعددة تتجاوز هذه النتائج غير المقصودة ما يمكن اعتباره مجرد آثار جانبية حيث تتجاوز حجماً وضرراً ما كان مستهدفاً من إصلاح أو علاج.
ويتجدد الحديث في هذا الشأن مع توالي إجراءات تتعلق بالسياسات النقدية والأوضاع التجارية في ظل مناخ تخيم عليه مخاوف الركود الاقتصادي من ناحية، وتصاعد وتيرة النزاعات التجارية والإجراءات الحمائية بين أكبر اقتصادين على مستوى العالم. ويسود تخوف بأن كثيرا من هذه الإجراءات قد يأتي بنتائج عكسية، بعضها غير مقصود بدايةً.
ومن أمثلة النتائج غير المقصودة ما عانت منه لفترة قطاعات التجارة والبنية الأساسية بسبب إجراءات اتُّخذت بعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008، كان القصد منها وضع قواعد رقابية على التمويل لاحتواء الأزمة فأضرت بالتمويل قصير الأجل للتجارة والتمويل طويل الأجل لمشروعات البنية الأساسية.
وهي نتائج لم يقصدها صانع القرار الذي كان يستهدف وضع ضوابط على التمويل المنفلت الذي تسبب في فقاعات عقارية انفجرت في النهاية وتداعت لها الأسواق المالية وأخذت مع انهياراتها مدخرات واستثمارات وفرص عمل ودخول لملايين من البشر أُضيروا دون جرم اقترفوه.
كان من الإجراءات التالية على الأزمة ما جاء منفعلاً فأضرت وإن قصدت منع الأذى، ولولا الإنصات لصوت الناصحين بأن تُراجع الإجراءات التي أضرت بتمويل التجارة لكان أثر الأزمة أشد فتكاً بالاقتصاد وفرص العمل وحوّلت الأزمة المالية لكساد كما حدث من قبل في الثلاثينات من القرن الماضي.
ولولا الاستجابة، وإنْ جاءت متأخرة، لنداءات بعدم الإضرار بالتمويل طويل الأجل لمشروعات البنية الأساسية وغيرها لازداد عمق تأثير الأزمة المالية في قطاعات الاقتصاد الحقيقي وتراجعت معدلات النمو والتشغيل بشكل أكبر.
يذكر روبرت مرتون، الباحث في علم الاجتماع، في مقال نشره عام 1936 خمسة أسباب للوقوع في فخ النتائج غير المقصودة للقرارات، أحسبها تفسّر كثيراً من مثالب إجراءات وسياسات اقتصادية متبعة اليوم.
السبب الأول: الجهل بطبيعة المشكلة وأبعادها المتشابكة، وقد يكون ذلك لقصور البيانات أو ضلال المعلومات وتواضع القدرة على تشخيص المشكلة محل العلاج.
السبب الثاني: الخطأ في المعالجة لنقص في الخبرة أو لسوء اختيار التوقيت أو لعدم القدرة على توضيح الأهداف من القرار وتفاصيل تنفيذه للمعنيين به من عموم الناس، وقد تجتمع هذه الأسباب فيصبح الخطأ فادحاً.
السبب الثالث: الرغبة الملحّة في تنفيذ القرار بما يجعل صاحبه يتغاضى عمداً عن أي آثار قد يسببها اتخاذه، فيصبح كأنه قد قرر تجاهل أي أمر يسببه القرار مهما بلغ حجمه وضرره في سبيل إنجاز هذا القرار الذي تشبث به ظناً بنفعه، وقد لا يكون فيه نفع يُذكر إذا ما وضعنا النتائج السلبية في الحسبان.
السبب الرابع: يُرجعه مرتون إلى بعض المبادئ الأساسية التي قد تؤدي إلى نتائج عكسية إذا لم يتم وضعها في إطار من التوازن والاعتدال، وقد ضرب مثلاً بقيم حميدة مثل العمل الصارم والزهد التي قد تؤدي إلى نتيجة متناقضة بعد فترة من تراكم في الثروة والممتلكات، والتي تدفع بدورها إلى التراخي في العمل والإسراف.
السبب الخامس: يعود إلى توقعات تولِّد ذاتياً ما يهزمها فيصبح الواقع مختلفاً عما تنبأت به، مثل ذلك ما كان من شأن توقعات بأن زيادات معدلات السكان عالمياً سوف تؤدي إلى مجاعات، فكثف هذا من الاستثمار في عمليات البحث والتطوير في قطاع الزراعة والغذاء بما حقق طفرات في الإنتاجية الزراعية بما دحض حجة التنبؤ بمجاعات وكان مقصدها أصلاً السيطرة على زيادات معدلات النمو السكاني، فاستمر السكان في زيادتهم وما تغير حقاً هو زيادة الناتج الزراعي عالمياً. قد تكون النتيجة إيجابية في هذه الحالة، ولكنها لم تكن مقصودة.
أحد أسباب الاختلاف في تقييم توجهات السياسات الاقتصادية وآثارها يرجع إلى حدود إدراكهم للصورة الكلية ومدى أخذ النتائج غير المقصودة في الاعتبار.
ولنتابع نتائج بحث عن «الأفكار والسياسة الاقتصادية» قمت بإعداده مع الاقتصادية رنا هندي وتمت مناقشته في المؤتمر السنوي الأخير لمنتدى البحوث الاقتصادية الذي عُقد بالكويت في شهر مارس الماضي.
شمل البحث استقصاء رأي لاقتصاديين بلغ عددهم 163 من الذين يعملون في مجال منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتي تتضمن الدول العربية.
سألناهم عن آرائهم في إجراءات اقتصادية جاءت في ثلاثة عشر سؤالاً. أذكر من إجاباتهم، في إطار هذا المقال خمسة أمثلة تتعلق بالتضخم والبطالة والدعم وأسعار الصرف والموازنة العامة للدولة:
– أن 46% من إجابات أغلبية الاقتصاديين جاءت معارِضة لفرض أسعار إدارية للسلع والخدمات لمكافحة التضخم، وأن 38% منهم رأوا أن فرضها يتوقف على الوضع الاقتصادي وأقلية منهم استحسنوا فرضها.
– أن 40% من الاقتصاديين رأوا أن فرض حد أدنى للأجر لن يزيد من البطالة، و30% كان رأيهم أن البطالة ستزيد بفرضها و30% آخرين ذكروا أن الأمر يعتمد على ظروف وأوضاع مختلفة.
– أن 47% من الاقتصاديين حبذوا استخدام الدعم النقدي بدلاً من العيني لمساندة الفقراء وأقلية فضّلت الدعم العيني وأن ثلثهم رأوا أن الأمر يتوقف على عوامل متعددة.
– أن 50% منهم فضّلوا أسعار الصرف المرنة للمساهمة في تحقيق استقرار اقتصادي وتنمية، و19% فضّلوا أسعار الصرف الثابتة، و31% من الاقتصاديين رجحوا أن الاختيار يعتمد على سياقات مختلفة.
– أن 54% من الاقتصاديين رأوا ضرراً في ارتفاع عجز الموازنة العامة للدولة، وأقلية لم تتجاوز 9% وجدوا أن ارتفاع عجز الموازنة لا ضرر منه، و37% رأوا أن الحكم بالضرر من عدمه يتعلق بأمور شتى.
توضح هذه الأمثلة أنه رغم الاتجاه إلى الاتفاق بين المتخصصين على آثار ونتائج لإجراءات اقتصادية بعينها، فإنه لا يوجد إجماع بينهم، وأن نسبة كبيرة منهم تعلق رأيها اعتماداً على افتراضات وتصورات تتغير مع تغير الأوضاع والملابسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
وقد أوضح البحث المذكور أسباب الاتفاق والاختلاف بين الاقتصاديين منها ما يرجع إلى طبيعة العلم ومنها ما يرجع إلى أبعاد الظواهر والمشكلات التي يتصدى لها.
وما يعنينا هنا هو التحديد المبكر لأثر النتائج غير المقصودة في نجاح أو فشل السياسات المتّبعة، وأهمية تقدير حجمها والتحوط لها والتخفيف من آثارها، ففي نهاية الأمر، وبعد البحث والنقاش، لا بد لمتخذي القرار أن يحسموا الأمر في اتجاه محدد والتعريف به، وإلا بقي الناس في حيرة من أمرهم واضطربت أمور حياتهم.