بقلم د. ماهر عشم رئيس شركة كومتريكس للتجارة الإلكترونية
الحادي عشر من سبتمبر تاريخ ذكراه غير محببة للعالم لارتباطه بالهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة والذي اختلفت من بعده أشياء كثيرة، ولم تعد كما كانت قبل ذلك اليوم من أبسطها الإجراءات الأمنية في المطارات مثلًا.
تختلف تمامًا أهمية ذلك التاريخ لدينا في مصر فهي تمثل نهاية السنة في أول تقويم شمسي عرفته الإنسانية ويرجع إلى عام 4242 قبل الميلاد. هذا التقويم موجود لدينا من 6261 سابقًا لأي تقويم غربي بأربعة آلاف سنة.
قسم التقويم شهور السنة إلى اثني عشر شهرًا كاملًا كل منها مقسم إلى ثلاثة أقسام طولها عشرة أيام. كما أضاف الفراعنة شهرًا صغيرًا مدته خمسة أيام لتكتمل السنة 365 يومًا.
عرف الفراعنة الفرق بين السنة البسيطة والكبيسة وارتبط التقويم العبقري ارتباطًا وثيقًا بحالة النيل شريان الحياة وحالة الزراعة التي كانت آنذاك سلة غذاء العالم. سطر الفراعنة معلومات عن ذلك التقويم على جدران المعابد وأشهرها النتيجة الشهيرة على جدران معبد إدفو بصعيد مصر.
حافظت الكنيسة القبطية “المصرية” على ذلك التقويم والذي يحتفل به الأقباط في مناسبة عيد النيروز وهو رأس السنة القبطية “المصرية” مؤرخة لعصر الاستشهاد وصمود المؤمنين في مصر أمام الاضطهاد الوثني الذي قامت به الإمبراطورية الرومانية ضد المسيحيين في العصور الأولى للمسيحية.
احتلفت الكنيسة ببداية العام 1736 حسب التقويم القبطي منذ يومين ولا تخلو الاحتفالات من الطقوس الكنيسة والصلوات التي ترفع من أجل بلدنا الحبيبة وزرعها ونيلها طلبًا للبركة جنبًا إلى جنب مع الاحتفالات والمأكولات المرتبطة بذلك التاريخ كالبلح والجوافة.
امتزج الفلكلور المصري بذلك التقويم وعبرت الأمثال الشعبية بفصاحة عن دقة التقويم في تحديد العوامل الجوية الهامة للزراعة عماد الحياة في ذلك الوقت فمن أمثالنا الشعبية: مثلًا كثير منا يعرف المثل “برمهات روح الغيط وهات” تعبيرًا عن شهر برمهات الذي يعتبر موسمًا للحصاد بعد البرد والشتاء ويشتهر بالقمح على وجه الخصوص، ومن منا لا يعرف شهر طوبة أبرد شهور السنة من المثل القائل “طوبة يخلي الشابة كركوبة”.
لا أعرف لماذا تتجاهل قنوات الإعلام المصرية مع تنوعها أو تعدد وسائطها تلك الأعياد وذلك الفلكلور المصري الأصيل المرتبط بأغلى ما لدينا من موارد ومن سبل حياة النيل والأرض.
ولا أعرف لماذا أهملنا تاريخنا وتراثنا وهويتنا حتى صارت مرحبة بتأثيرات بدوية غير أصيلة وليست نتاج حضارة مثل حضارتنا الأعرق على الإطلاق. تأثيرات لا علاقة لنا بها لم ترتقِ بفكرنا وعقولنا وذوقنا العام بل أثرت بالسلب على كل شيء حتى زيّ الفلاحين والفلاحات المبهج واستبدلته بأزياء كانت غريبة علينا وصارت طبيعية.
قرأت نشرة صغيرة على موقع سفارتنا بواشنطن عن رأس السنة المصرية وأثلجت صدري هي وكل الأصدقاء الذين أعادوا نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي بفخر مستحق.
تمامًا كما وفقت مصر في إعادة النماذج المرتبطة بحضارتها والمتماثلة في تميمة كأس الأمم الإفريقية الذي شرفت مصر باستضافته. نحتاج إلى جهود أكبر وأكثر تهدف إلى إعادة تسليط الأضواء على هويتنا الحقيقية وحضارتنا الأعرق وتاريخنا. نحتاج إلى الاعتراف بأهميتها لأن في ذلك فوائد عظيمة تصب في صالح الواقع المصري واقتصاده وأسرد بعض تلك الفوائد في السطور التالية:
أولًا: السياحة، مع زيادة أهمية سياحة الشواطئ والولع بها ما زالت السياحة التاريخية لها مكانتها ومحبوها خاصة التاريخ الفرعوني. فلتاريخنا القديم سفراء في كل متحف رئيسي في العالم يحكون للزوار عن عظمة الأجداد وسبقهم في أهم العلوم الإنسانية والعلمية والتي بُني عليها العالم لاحقًا.
وفي المناهج الدراسية في معظم بلدان العالم لنا سفراء ينقشون مبادئ تلك الحضارة في عقول الأطفال . هذا بالإضافة إلى السفراء بالمكتبات والأفلام والأعمال الأدبية المعاصرة المستندة إلى التاريخ تارة والخيال المبني على قصص التاريخ المثيرة تارة أخرى جعلت الكل ملمًّا بمعلومات عن حضارتنا ومشتاقًا للمزيد.
يمكننا استغلال مناسبة مثل رأس السنة المصرية وإعادة إحياء الفلكلور والاحتفالات المصاحبة لها والدعاية السياحية لكل ذلك. لا شك في أن النتيجة ستكون مؤثرة على الجذب السياحي فلا توجد دولة في العالم تحتفل بعام 6261 إلا مصر. والسياحة ورواجها لها عظيم الأثر في نمو إجمالي الناتج المحلي وزيادة مواردنا من العملة الصعبة وهي سند رئيسي لعملنا واقتصادنا لا شك في ذلك.
ثانيًا: الهوية، الهوية هي أساس التكوين الفكري والوجداني لأي شخص وأي شعب. منها يستمد الشعب ثقافته ومنها يكون حاضره ومستقبله وأتذكر بيت شعر لشاعر النيل حافظ ابراهيم يقول: “عار على ابن النيل سباق الورى مهما تقلب دهره أن يسبق” فإن تعلمنا عن تاريخنا وعظمته وكم هو عظيم وكم كان سابقًا للحضارات والثقافات يكون ذلك محفزًا لعدم الرضا بالواقع ومحاولة إحياء تلك الريادة.
للأسف ضعف تعليم التاريخ وإحياء تلك المناسبات أضعف تأثيرها في تكوين هوية الشباب فالشاب المصري حائر بين انتماءات منها ما هو غير أصيل وحضاري وغير مرتبط بتاريخه وأن تغيير ذلك كان محفزًا لرغبة في تغيير الواقع المصري إلى كل ما هو أعظم وأرقى. فالهوية تعمق الشعور الحقيقي بالانتماء وهذا الشعور إن كان حقيقيًّا تعبر عنه الأفعال لا الأقوال، الأفعال التي تتجه للحفاظ على النظافة العامة والتي تعبر عنها مفردات اللغة الحديثة والذوق العام والسلوك والآداب… إلخ.
ثالثًا: البهجة، نحن شعب يحب الفرح والضحك وإن كانت الفكاهة شبهة تباع لكننا من أغنى دول العالم وشعوب الأرض ولكننا نفتقر إلى البهجة وسط ضغوط الحياة وثقافة الزحام ومعاناة وكفاح المواطن اليومية لكسب قوته. تلك الأعياد الفلكلورية وإعادة إحيائها بتقاليدها واحتفالاتها بلا شك تصب في كفة البهجة والعادة التي هي دائمًا إلى فوق في ميزان الحياة لكثير من المصريين.
رابعًا: الإبداع، كنا ولا نزال شعبًا مبدعًا وقدمنا ثورة الثقافة العربية في مطلع القرن الماضي وكان لا بدَّ لكل فنان ومبدع عربي أن ينطلق من مصر أرض الإبداع. تراجعت تلك القدرات ولا شك أن تاريخنا وثقافتنا وهويتنا تشكل مصدرًا غنيًّا وملهمًا للمبدعين في مختلف الآداب والفنون والصناعات. حتى المحتوى الرقمي والإبداع في تلك المجالات يمكن أن يكون مدعومًا بهويتنا المصرية القديمة.
أتمنى أن يأتي علينا العام القادم عام 6262 ونكون قد أحرزنا تقدمًا كبيرًا على إعادة إحياء التاريخ والفلكلور المصري القديم بعاداته واحتفالاته واستغلالها بالطريقة المثلى التي تصب في مصلحة ثقافتنا وهويتنا وبهجتنا واقتصادنا وكل عام وأنتم بكل خير وسعادة.