بقلم د. محمود محيي الدين النائب الأول لرئيس البنك الدولي نقلا عن الشرق الأوسط
لم تكن مصادفة أن يتصدر موضوع تطور استخدامات الذكاء الصناعي وآثارها غلافي عددين صدرا مؤخراً، الأول لمجلة «الإكونوميست» البريطانية تحت عنوان «سادة الكون» وتقصد به الماكينات الذكية، والآخر لمجلة فصلية متخصصة في العلوم الإنسانية حاولت فيه الرد على سؤال حول ما إذا كانت هذه التكنولوجيا الجديدة ومستجداتها ستسهم في مزيد من الحريات، أم أنها ستقيد ما تبقى منها؟ وتركتنا الأخيرة دون إجابة مطمئنة. وما هذان الإصداران، وكثير من الكتابات العلمية والاقتصادية الحديثة؛ مما أطلقت عليه في مقالات سابقة مصطلح «المربكات الكبرى»، إلا تذكرة بأنه في عالم شديد التغير لن تفلح السياسات والاستراتيجيات التقليدية في مواجهة التحديات والمعارك الجديدة.
يؤكد أرباب علوم إدارة المخاطر أنه لا يصح أن تستعد للتحديات والأزمات الجديدة بأساليب إدارة التحديات والأزمات القديمة. ويسوقون في هذا أمثلة كثيرها، منها ما هو مستعار من الحروب والعلوم العسكرية كقيام فرنسا بعد الحرب العالمية الأولى بتشييد «خط ماجينو»، وتعزيزها تحصيناته لسحق أي هجوم ألماني محتمل استناداً إلى خبرة الحرب السابقة، فما كان من الألمان إلا أن داهموا الحدود الفرنسية عبر اختراقهم حدودها مع بلجيكا، ملتفين حول الخط الحصين بتكنولوجيا متقدمة طورت مدرعاتهم وطائراتهم وساعدتهم على غزو فرنسا ثم احتلالها.
وهكذا تستوجب التكنولوجيا الجديدة استعدادات مناسبة وأساليب رقابية متطورة وأن تستعين مؤسسات الدولة والمجتمع بسياسات وأدوات مواكبة للتطور التكنولوجي. هذا لكي يستفيد من مستحدثات التكنولوجيا عموم الناس، فلا تحتكر منافعها القلة بينما يدفع تكلفتها سائر المجتمع.
وفي هذا الصدد نسوق أمثلة تظهر بأن أساليب التوقي من الأزمات الاقتصادية والمالية عليها أن ترتقي بقوانينها ومؤسساتها وتدريب العاملين بها وسياسات المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية لحماية الاقتصاد وسائر المستخدمين للخدمات المالية.
فما جعل مجلة «الإكونوميست» الرصينة تصف في تقريرها الحواسب الآلية الذكية بسادة الكون هو تزايد سيطرتها على الأسواق المالية، فهذه الماكينات التي تديرها برامج عالية التقنية وفقاً لقواعد وأكواد وضعها مديرو المحافظ المالية أصبحت مسؤولة عن 60 في المائة من نشاط التعامل في البورصات الأمريكية، وأن الجيل الأحدث من البرامج المعتمدة على الذكاء الاصطناعي أصبحت تكتب لنفسها قواعد الاستثمار والبيع والشراء، وبما يتجاوز قدرة مشغليها من الآدميين على الفهم الكامل لها. وأن الصناديق الرقمية للتحوط المالي المستخدمة برامج ذات لوغاريتمات معقدة أصبحت ذات تأثير ضخم على حركة الأسواق وحجم التداول.
ووفقاً لهذا التقرير فقد أصبحت عملية جمع البيانات باستخدام هذه الماكينات الذكية عن الشركات المتداولة في البورصات متعددة المصادر بما لا تكفي معها القواعد التقليدية لحماية الأسواق، ويحتم مراجعة معايير حوكمة الشركات المتداولة والشفافية وأسس استخدام المعلومات الداخلية وحماية النشطة الاقتصادية من تعارض المصالح. فقد أصبح في إمكان بعض صناديق الاستثمار التعرف على معلومات عن الشركات التي يستثمرون فيها قبل معرفة مديريها أنفسهم بها، وقبل أن يهمّون بالإفصاح عنها لكافة المستثمرين وجهات الرقابة عليها بما يخل بمبادئ المنافسة العادلة وفاعلية الرقابة المالية.
وفي العدد المشار إليه من مجلة «الإنسانيات» الفصلية حوار مع البروفسور ماركوس دي سوتوي، أستاذ الرياضيات بجامعة أكسفورد، عن أثر التوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي على المجتمع، فكان رأيه أننا اليوم نرى الكود وهو يتخذ قرارات تتعلق مثلاً بطلبات الالتحاق بالعمل أو الحصول على قرض للتمويل العقاري.
لكننا لا نعرف بالضرورة لماذا يتخذ الكود أو الآلة الذكية هذه القرارات تحديداً بذات صعوبة فهمنا عملية اتخاذ القرارات من قبل البشر. وببساطة، فإن هذا يعني أن عملية اتخاذ القرار من قبل الماكينات الذكية أصبحت معقدة، وأنها غير خالية من تحيزات قيمية، وأنها أصبحت ذاتية التعلم وبسرعة أكبر وبقدرة تساندها بيئة سخية بالبيانات المتاحة.
المعضلة في تقديري أن هذه البيانات الشخصية والسلوكية هي ملك في الأصل لأصحابها ويتنازلون عنها في كل تصرف يقومون به عند استخدامهم تطبيقات الحاسب وشبكات المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي، وعند تعاملهم من خلال المنصات الإلكترونية بيعاً وشراءً، أو حتى عند مجرد تصفحهم أو بحثهم عن معلومة. كما أن شبكة المعلومات الإنترنت ذاتها طورت من خلال استثمارات وابتكارات عامة.
وبالتالي، فوفقاً لاعتبارات العدالة واحترام حقوق الملكية، وكذلك مساندة الابتكار نحتاج إلى نهج متوازن يدعم التطور ولا يعرقل خطى التقدم، ويواجه في الوقت ذاته ما يترتب على المراكز الاحتكارية التي تتمتع بها شركات التكنولوجيا المالكة للمنصات والشبكات الرقمية، أو ما أطلقت عليه الاقتصادية ماريانا مازوكاتو «الإقطاع الرقمي».
فالإقطاعيون الجدد يتمتعون بريع احتكاري ككبار ملاك الأراضي في العصور الوسطى، لكن التعامل معهم يستوجب نهجاً مختلفاً عن دعاوى المصادرة والتقسيم وتفتيت الحصص. فمنع ممارسة الاحتكارية وضبط السلوك الذي تتبعه هذه الشركات أهم من تقليص الحصة السوقية، وسياسة تحفيز المنافسة في هذا القطاع يجب أن تميز بين الأنشطة ذات القيمة الاقتصادية والمجتمعية المضافة، وتلك التي تستغل البيانات والمعلومات استغلالاً ضاراً أو تتلاعب بها كما حدث في الحالة الشهيرة لكمبردج أناليتيكا والتلاعب في العمليات الانتخابية.
وهناك ثلاثة أمور يمكن تبنيها في العالم العربي لتحقيق الاستفادة من منافع ثورة تكنولوجيا المعلومات لزيادة القيمة المضافة ورفع التنافسية وتخفيض تكلفة المعاملات وتطوير أسواق العمل والتجارة ورأس المال.
الأمر الأول يتمثل في تطبيق سياسة متكاملة للبيانات وتأمينها وحماية حقوق ملكيتها، بما في ذلك حقوق الأفراد الأدبية والمالية عند استخدام بياناتهم. كما أن لمدينة برشلونة الإسبانية تجربة مهمة في توطين استخدام قواعد بياناتها بالتعاون مع ثلاث عشرة جهة أخرى لضمان حوكمة البيانات وإعطاء مواطنيها السيطرة الكاملة على بياناتهم. هذا فضلاً عن تطوير نظام عام لحماية البيانات والرقابة عليها كما هو معمول به في أوروبا منذ مايو (أيار) 2018.
الأمر الثاني يتمثل في تطوير البنية الأساسية لتكنولوجيا المعلومات من شبكات ومنصات رقمية ووسائل حفظ البيانات وتأمينها ومواكبة التقدم العلمي الهائل في تطويرها ودعم نطاقاتها الاستيعابية وسرعاتها. وهو ما يحتاج إلى استثمارات ضخمة بالمشاركة بين القطاعين الخاص والحكومي.
أما الأمر الثالث، وهو الأهم والأولى فيتمثل في الاستثمار في البشر تعليماً وتدريباً وتوعيةً وتثقيفاً بمتطلبات العالم الجديد وإتقان علومه، بما في ذلك علوم الذكاء الاصطناعي. بمثل هذه الإجراءات، التي يجب أن توضع في إطار سياسة متكاملة للتنمية والتقدم، يمكن مواكبة الخطى المتسارعة للثورة الصناعية الجديدة.