الأرقام وأنصاف الحقائق

aiBANK

بقلم د. ماهر عشم رئيس شركة كومتريكس للتجارة الإلكترونية

يستحيل الاعتماد على كاميرا واحدة في أي عمل لمحترفين فأي فيلم أو برنامج يتم تصويره يحتاج على الأقل ثلاث كاميرات لتغطية المشهد أو الحدث من جوانب متعددة وهذا ما يمكن المخرج من توصيل ما يريده للمشاهد وكأنه مشارك معهم في الحدث.

E-Bank

أما عن التصوير الفوتوغرافي فهو بالمثل يمكن أن يكون خداعًا إن اعتمدنا على صورة واحدة لفهم مشهد معين وصفحات التواصل الاجتماعي مليئة بصور لحظية لا تعبر عن الموقف الحقيقي أو الحدث وتستخدم بكثرة في الفكاهة والتعليقات الساخرة.

إذًا هناك بعدان مهمان لفهم أي مشهد عن طريق التصوير التلفزيوني أو السينما؛ البعد الأول تعددي له علاقة برؤية المشهد من زوايا مختلفة والبعد الآخر زمني له علاقة بمدة زمنية يتم فيها التصوير ويكون فهم المشهد من خلال عدة صور تم التقاطها عبر مدة زمنية محددة.

تذكرت وأنا أكتب هذه السطور محاضرة عامة كنت أحضرها كطالب في الجامعة لرمز من رموز الخارجية والذي رحل عن عالمنا وقد سأله أحد الطلاب كيف أعددت نفسك لتكون مؤهلًا لمنصبك الرفيع والدقيق هذا.

أجاب الضيف لم أتوقع حصولي على المنصب لذا لم أعد نفسي لكن أهم نصيحة أتركها أن تقول الحقيقة دائمًا ولا تكذب أبدًا. هنا تعالت ضحكات الحاضرين وكأنهم غير مصدقين للضيف الذي أضاف البراعة هنا استخدام جوانب من الحقيقة للوصول لما تريد.

غمرتنا الأخبار والجرائد الأسابيع الماضية ببيانات وأرقام عالمية وإقليمية ومحلية خاصة بالاقتصاد وأسعار الفائدة والعملات وأسواق السلع من معادن وسلع استراتيجية وطاقة ومحروقات وأرقام كثيرة خاصة بمؤشرات الأداء الاقتصادي.

علق على الأرقام خبراء كثيرون ومسؤولون أكثر وبرامج عديدة ونجد دائمًا الرغبة عند مقدم المعلومة في إقناع المتلقي بوجهة نظره وأحيانًا باستخدام أرقام حقيقية أحادية الزاوية وقد تكون مقنعة وتتداولها الجماهير على صفحات التواصل الاجتماعي على أنها حقيقية واقعة.

ثم تأتي الآراء المعارضة لوجهة النظر الأولى بزاوية أخرى من الحقيقة وتحاول تغيير المفهوم الأول ويحاول مؤيدو الرأي الآخر تعظيم تلك الرسالة وترديدها ويجب أن نتعلم كيف نحكم على الصورة حكمًا صحيحًا حتى نحتفظ بالحقيقة مجردة من أي شوائب أو إضافات وحتى نتمكن من اتخاذ القرار الصحيح بشأن تلك الأرقام.

فعلى سبيل المثال حسب تقرير البنك المركزي عن تسعة أشهر هناك 11.2% نموًّا في الصادرات و8.2% نموًّا بالواردات في مصر وإن كانت الصادرات تنمو بمعدل أكبر من نمو الواردات ذلك يعني تحسنًا في الميزان التجاري لصالح مصر وهذه أخبار إيجابية لأنها تقف في صالح النمو الاقتصادي والتدفقات النقدية من العملة الأجنبية وقد تعني مزيدًا من فرص العمل ومعدلات أقل للبطالة.

حتى الآن نكون قد قمنا بمقارنة واحدة باستخدام البعد الزمني فقط أي بمقارنة المؤشرات بمثيلتها من تسعة أشهر وتوصلنا إلى تلك النتيجة ولكن لم نرَ الصورة إلا من كاميرا واحدة فدعونا ننظر على الكاميرات الأخرى في نفس التقرير ونفس الموضوع.

يذكر التقرير ذاته أن صادرات مصر البترولية زادت بمعدل 2.5 مليار دولار لتبلغ 8.5 مليار دولار بينما انخفضت واردات مصر البترولية 587 مليون دولار لتبلغ 8.8 مليار دولار وهذه الزاوية أيضًا ترينا صورة مشابهة للصورة الأولى ولكن الزاوية الثالثة تشير إلى أن للصادرات غير البترولية انخفضت 400 مليون دولار لتبلغ 12.4 مليار دولار بينما زادت الواردات غير البترولية 4.4 مليار دولار لتبلغ 41.9 مليار دولار.

فتلك الكاميرا الثالثة تسلط الضوء على تفصيلة في غاية الأهمية تعدل الحكم النهائي على الأرقام فيجب الانتباه إلى أن الميزان التجاري البترولي في تحسن لكن الميزان غير البترولي لا يسير في نفس الاتجاه وهو غالبًا القطاع الأكثر استخدامًا للعمالة والأكثر تأثيرًا على معدلات البطالة وفرص العمل فلا بدَّ من التركيز على دعم الصادرات غير البترولية وفهم الأسباب ومعالجتها وتحجيم الواردات بما يسمح به ميزان العملات الصعبة حتى لا ننزلق لتجربة الضغط على العملة المحلية مرة أخرى.

كان هذا مثالًا بسيطًا أردت أن أبين به أهمية التحليل البياني للأرقام وعدم الحكم على وجهة نظر واحدة فهناك دائمًا ما يبعث على التفاؤل بالصورة والإيمان بأن المستقبل أفضل والاعتراف بفضل وجهد القائمين على تلك المصالح وتحقيق تلك النتائج وهذا حق لكنه غير كامل لأن هناك أيضًا التحذيرات والدروس التي يمكن أن نستخرجها من تلك القراءة والتحليل حتى نتجنب وقوع مشاكل بالمستقبل وحتى نزيد من معدلات التحسن بالمؤشرات وهذا هو الجزء الأهم من الصورة الذي لا ينقد ولا ينتقص من قدر أحد على قدر كونه مكملًا للحقيقة وممكنًا للمسؤولين لأداء أفضل.

الرابط المختصر