محمود محي الدين يكتب لجريدة حابي: القصة الكاملة لتأسيس هيئة الرقابة المالية

aiBANK

حابي

تحتفل الهيئة العامة للرقابة المالية بمرور عشرة أعوام على تأسيسها وتستدعي هذه المناسبة إلى الذاكرة أسباب التوجه إلى تأسيس هيئة موحدة تختص بالإشراف الرقابي على كافة الأنشطة المالية غير المصرفية وأسواقها وأدواتها. ففي شهر أكتوبر من عام 2008 وقعت مذكرة إيضاحية لمشروع قانون يؤسس هذه الهيئة، تضمنت المذكرة دوافع إنشاء الهيئة الجديدة لتحل محل كل من الهيئة العامة لسوق المال والهيئة العامة لشؤون التمويل العقاري والهيئة المصرية العامة للتأمين وكذلك الهيئة العامة للاستثمار فيما يتعلق بإشرافها على نشاطي التأجير التمويلي والتخصيم.

E-Bank

وقد سبقت هذا الإجراء سنوات من الدراسة والبحث والمتابعة لتطورات أوضاع القطاع المالي المصري، كما جاء هذا الإجراء في إطار برنامج متكامل لإصلاح وتطوير القطاع المالي على فترتين أولاهما امتدت للسنوات من 2004 حتى 2008. وشملت تدابير وإجراءات جذرية لعلاج مشكلات عانى منها القطاع المالي بشقيه المصرفي وغير المصرفي، واستلزمت جهودًا متكاملة في إطار سياسات اقتصادية، وعمل مؤسسي وتنسيق متميز وفقًا لجداول زمنية ومسؤوليات محددة بين الحكومة والبنك المركزي المصري والهيئات المعنية بالرقابة المالية.

تم اتخاذ منهج متدرج لتفعيل الاندماج بين الهيئات بدأ بتشكيل لجنة للتنسيق بين الهيئات الثلاث القديمة المعنية بالرقابة على الخدمات المالية غير المصرفية، بعدما تم توحيد سياساتها تحت مظلة وزارة واحدة تم تأسيسها في عام 2004. وظهر جليًّا خلال هذه الفترة أهمية تبادل المعلومات بين جهات الرقابة المالية المختلفة، وضرورة مواكبتها لتطورات المؤسسات المالية المتعاملة في الأسواق، وسد أوجه الخلل التي قد تترتب على عدم وضوح النطاق الرقابي، أو التي تستدعي تدعيمًا للتعاون بين رقباء مختلفي التخصصات.

وتم تكليف مجموعة من المختصين بشؤون المال والاقتصاد والقانون بالاطلاع على التجارب الدولية واستطلاع آراء ذوي الخبرة، وإعداد تقارير بشأنها وعرضها في ورش عمل متعددة. وعقدت اجتماعات مطولة لمناقشة الجوانب والأبعاد المختلفة للأهداف المقترحة للهيئة الرقابية الجديدة واختصاصاتها وشكلها التنظيمي وما يلزمها للقيام بعملها في الإشراف على أسواق مالية وقطاعات مالية تتفاوت في مدى تطورها وانتشارها، وتتعلق بها حقوق والتزامات مختلفة للمدخرين والمستثمرين في الأوراق المالية وحملة وثائق التأمين والمتعاملين في نشاط التمويل العقاري الذي كان حديث النشأة، فضلًا عن الخدمات المالية الأخرى وارتباطاتها المتنوعة بأنشطة الاقتصاد والمال في داخل البلاد وخارجها.

كانت هناك رغبة في الاستفادة التنظيمية من التخصصات المتنوعة والمزايا النسبية للهيئات الرقابية الثلاث التي كانت قائمة وقتها، بين التاريخ الأقدم في الرقابة على التأمين والانتشار الأوسع لهيئة سوق المال وإشرافها على سوق الإصدار وبورصة الأوراق المالية، وخبرة التأسيس الأحدث لهيئة التمويل العقاري، مع ضمان التخصص القطاعي للأدوات والأوعية المالية ومؤسساتها والارتكاز إلى الأحكام والقواعد التي نظمتها التشريعات ذات العلاقة بأنشطتها، والتي كانت محل مسار آخر من التحديث والتطوير.

ومن خلال الاجتماعات التحضيرية تم تأكيد ضرورة البناء بكفاءة على القواعد والخبرات الوطنية المكتسبة والمتراكمة التي ذخرت بها الهيئات القائمة وقتها وأن يتم الدفع بكوادر جديدة تتواصل معها لضمان الاستفادة المثلى من مزايا الاستقرار والتجديد في إطار متكامل لتبادل الخبرات والرؤى.

وقد ظهرت مزايا التعرف على التجارب الدولية، وعدم إعادة اختراع العجلة، في الاستئناس بتجربة أستراليا التي تتوحد لديها الرقابة على الخدمات المالية غير المصرفية، وعدم تحبيذ التجربة البريطانية التي جمعت كل جهات الخدمات المالية، مصرفية وغير مصرفية، تحت رقابة هيئة واحدة، وإن كانت قد أعادت الرقابة على البنوك إلى البنك المركزي مرة أخرى بعد الأزمة المالية العالمية. كما أظهرت دراسة التجارب مزايا تتحقق بالتطبيق والممارسة الكفؤة فيما يتعلق بإدارة الموارد البشرية وتطوير الكفاءات، وتحقيق وفورات مادية من خلال دمج الخدمات المساعدة والمساندة وعمليات التأمين وغيرها.

وبعد جلسات التشاور المكثفة، خاصة مع المجموعة الوزارية الاقتصادية والبنك المركزي المصري، تم الاتفاق على المبادئ الأساسية وتم إعداد مشروع قانون من خلال لجنة بوزارة الاستثمار، وراجعت مشروع القانون إدارة التشريع بوزارة العدل واللجنة الوزارية التشريعية وتمت مناقشته بمجلس الوزراء قبل إرساله للبرلمان الذي أقره بعد مناقشة مستفيضة في لجانه المشكلة بغرفتيه حتى صدر القانون المعمول به الآن، برقم 10 لعام 2009، لتبدأ الهيئة عملها في الأول من يوليو 2009.
وفي تقرير، كتبت مقدمته عن العام المالي 2008/2009، ذُكر فيه أن الهيئة الجديدة ستتمتع وفقًا للقانون بالاستقلال المالي والإداري وتتمثل أهم اختصاصاتها فيما يأتي:

• الإشراف والرقابة على أسواق رأس المال وبورصات الأوراق المالية وبورصات العقود الآجلة وأنشطة التأمين والتمويل العقاري والتأجير التمويلي والتخصيم والتوريق.

• الترخيص بمزاولة الأنشطة المالية غير المصرفية والتفتيش على الجهات العاملة بها.

• الإشراف على توفير ونشر المعلومات المتعلقة بالأسواق المالية غير المصرفية.

• ضمان المنافسة والشفافية واتخاذ ما يلزم للحد من التلاعب والغش في هذه الأسواق.

• الإشراف على تدريب العاملين في هذه الأسواق ورفع كفاءتهم.

• التعاون مع الهيئات النظيرة في الخارج والاتحادات والجمعيات التي تنظم عملها.

• المساهمة في نشر الثقافة والتوعية المالية.

وقد كان الشهر الذي وقعت فيه المذكرة الإيضاحية المذكورة، أكتوبر 2008، شهرًا مشهودًا. فقبله بأسابيع أُعلن في الأسواق المالية العالمية عن إفلاس بنك الاستثمار «ليمان براذرز»، وما تبع ذلك معروف، خاصة في أسواق المال والاقتصاد، من تداعيات لأزمة مالية عالمية كبرى. ولولا الإصلاحات المالية والاقتصادية الشاملة التي تم اتخاذها في مصر في السنوات الأربع السابقة على الأزمة المالية العالمية لتعرضت البلاد لمخاطر وخيمة.

فقد كان إصلاح القطاع المالي المصري، بشقيه المصرفي وغير المصرفي، والعلاج الناجع لمشكلاته الداخلية خير وقاية من مخاطر وشرور خارجية أشد نجمت عن الأزمة المالية العالمية، التي طالت كافة اقتصادات الدول وتفاوتت في تأثيراتها وأضرت بها ضررًا بالغًا. وكانت الدول الأقل ضررًا هي التي تحصنت خلف إصلاحاتها المالية والاقتصادية، وقد تناولت هذا الأمر في مواضيع أخرى.

واليوم، وكما ذكرت في مقال نشرته صحيفة الشرق الأوسط الأسبوع الماضي، فبعد أكثر من عشر سنوات من الأزمة المالية العالمية ورغم كثرة الإجراءات التي تم اتخاذها على مدار عشر سنوات في أعقاب الأزمة، لا يمكن الجزم بأن القطاع المالي عالميًّا قد تجاوز تحديات تواجه استقراره، أو أنه أصبح أكثر قدرة على القيام بدوره الذي وجد من أجله لتعبئة المدخرات وتمويل الاستثمارات ودفع النمو؛ بما يستدعي دوام اليقظة والحرص ودقة المتابعة من قبل جهات الرقابة المالية.

وفي عالم شديد التغير يشهد مربكات كبرى هناك ضرورة ملحة لوجود سياسة عامة للتمويل ترتبط ببرامج متكاملة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وفي إطارها جدير بالرقيب الحصيف أن يكون له «دليل» يهتدي به وأن يتعاون مع الحكومة وأجهزة الدولة والمؤسسات المالية العاملة بالسوق في تنفيذه. ولما كانت معايير النشاط المالي دولية وأدواته وخدماته عابرة للحدود، فإن التعاون الدولي في مجالاته يعد من الأمور البديهية.

وفي مقدمة هذا الدليل أرى أهمية لإنعاش الذاكرة بأسباب وآثار الأزمات والمشكلات المالية السابقة لمنع تكرارها، وضرورة التواصل مع عموم الناس لتعريفهم بحقوقهم وبمزايا وعوائد وتكلفة الخدمات المالية المختلفة.

وأجد هذا الدليل متضمنًا سبل الاستعداد للمخاطر بأدوات وتدابير جديدة. فمع انتشار أدوات ومؤسسات «التقنية المالية» هناك حاجة إلى «تقنية رقابية» تتعامل مع متطلبات العصر الرقمي والذكاء الاصطناعي وقواعد البيانات الكبرى.

كما تستوجب التغيرات في عالم اليوم استعدادًا خاصًّا لمؤسسات الرقابة المالية للتعامل مع متطلبات الاستعداد لتغيرات المناخ والمخاطر الجيوسياسية وتطورات التركيبة العمرية للسكان؛ وزيادة قدرات التوقي من المخاطر الجديدة الناجمة عن مربكات تؤثر على قطاع الأعمال والنشاط الاقتصادي بتحديث النظم الرقابية والإشرافية وتأمين نظم المعلومات وقواعد البيانات وأساليب تداولها.

بالتمويل تدور محركات الاقتصاد، ولكن ليس من السهل توقع زمن وكيفية حدوث اضطرابات التمويل ومشكلاته وأزماته، لأن أنشطته تتضمنها وتحيط بها مخاطر متنوعة. ودور الرقيب الحصيف أن يقلل من احتمالات حدوث المشكلات والأزمات المالية وأن يحجم من حدتها وآثارها إن حدثت.

وهناك دور حيوي للمؤسسات المالية تتطور طبيعته وأساليبه من أجل توطين التنمية المستدامة، ومساندة الاستثمار المؤثر إيجابيًّا في النمو والتشغيل، خاصة من خلال المشروعات الصغيرة والمتوسطة، ومساندة الدور الاقتصادي للمرأة، وزيادة القيمة المضافة دون إضرار بالبيئة، والارتقاء بالحوكمة والأثر الاجتماعي للمشروعات، وتقديم البرامج التمويلية المحفزة على تبني تقنيات متطورة وإتاحة التمويل طويل الأجل لمشروعات حيوية كالبنية الأساسية والطاقة المتجددة وممكنات التحول الرقمي.

ولكي يقوم الرقيب المالي بدوره في مساندة التنمية وزيادة النفع من أدوات تمويلها وتحجيم مخاطرها، فعليه أن يكون ملمًّا بكل مستجدات الاقتصاد والتمويل وعلومه وأسواقه وتطوراتها وما يؤثر فيها. ولا سبيل لتحقيق ذلك إلا بالاستثمار في الكفاءات والكوادر البشرية لمؤسسات الرقابة وإتاحة ما يمكنها من تفعيل أدواتها والقيام بدورها بفاعلية في سبيل تحقيق التقدم والنفع لعموم الناس.

الرابط المختصر