كلمة الدكتور محمود محيي الدين في احتفالية مرور 10 سنوات على تأسيس الرقابة المالية

aiBANK

حابي

قال الدكتور محمود محيي الدين النائب الأول لرئيس البنك الدولي، إن هناك حاجة إلى تقنية رقابية تتعامل مع متطلبات العصر الرقمي و الذكاء الاصطناعي وقواعد البيانات الكبرى في ظل انتشار أدوات ومؤسسات التقنية المالية.

E-Bank

وأضاف محيي الدين، خلال كلمة ألقاها أمام الاحتفالية التي أقامتها هيئة الرقابة المالية بمناسبة مرور 10 سنوات على تأسيسها، أن إصلاح القطاع المالي المصري، بشقيه المصرفي و غير المصرفي، والعلاج الناجع لمشكلاته الداخلية خير وقاية من مخاطر و شرور خارجية أشد نجمت عن الأزمة المالية العالمية في عام 2008.

وتنشر بوابة حابي جورنال كلمة الدكتور محمود محيي الدين:

“في شهر أكتوبر من عام 2008 وقعت مذكرة إيضاحية لمشروع قانون يؤسس هيئة جديدة تتمتع بالاستقلال المالي و الإداري وتقوم بمهام الرقابة على أسواق رأس المال و بورصات الأوراق المالية وبورصات العقود الآجلة وأنشطة التأمين و التمويل العقاري و التأجير التمويلي و التخصيم و التوريق؛ و الترخيص بمزاولة الأنشطة المالية غير المصرفية و التفتيش على الجهات العاملة بها؛ والإشراف على توفير و نشر المعلومات المتعلقة بالأسواق المالية غير المصرفية؛ و ضمان المنافسة و الشفافية و اتخاذ ما يلزم للحد من التلاعب و الغش في هذه الأسواق؛ و الإشراف على تدريب العاملين في هذه الأسواق و رفع كفاءتهم؛ و التعاون مع الهيئات النظيرة في الخارج و الاتحادات و المؤسسات الواقعة في نطاق عملها؛ و المساهمة في نشر الثقافة و التوعية المالية.

و قد كان الشهر الذي وقعت فيه المذكرة الإيضاحية المذكورة، أكتوبر 2008، شهراً مشهوداً. فقبله بأسابيع أُعلن في الأسواق المالية العالمية عن إفلاس بنك الاستثمار “ليمان براذرز”، و ما تبع ذلك معروف، خاصة في أسواق المال و الاقتصاد، من تداعيات لأزمة مالية عالمية كبرى. و لولا الإصلاحات المالية و الاقتصادية الشاملة التي تم اتخاذها في مصر في السنوات الأربع السابقة على الأزمة المالية العالمية لتعرضت البلاد لمخاطر وخيمة.

فقد كان إصلاح القطاع المالي المصري، بشقيه المصرفي و غير المصرفي، و العلاج الناجع لمشكلاته الداخلية خير وقاية من مخاطر و شرور خارجية أشد نجمت عن الأزمة المالية العالمية، التي طالت كافة اقتصادات الدول و تفاوتت في تأثيراتها وأضرت بها ضرراً بالغاً. و كانت الدول الأقل ضرراً هي التي تحصنت خلف إصلاحاتها المالية و الاقتصادية.

و قد سبق إعداد هذه المذكرة و مشروع القانون، الذي أرفقته بها ليأخذ مساره التشريعي، سنوات من الدراسة و البحث و المتابعة لتطورات أوضاع القطاع المالي المصري.

كما جاء هذا الإجراء في إطار برنامج متكامل لإصلاح و تطوير القطاع المالي بتدابير لعلاج مشكلات عاني منها القطاع المالي بشقيه المصرفي و غير المصرفي، واستلزمت جهودا متكاملة في إطار سياسات اقتصادية، وعمل مؤسسي و تنسيق متميز وفقا لجداول زمنية ومسئوليات محددة بين الحكومة و البنك المركزي المصري و الهيئات المعنية بالرقابة المالية.

تم اتخاذ منهج متدرج لتفعيل الاندماج بدأ بتشكيل لجنة برئاسة الوزير المختص للتنسيق بين الهيئات الثلاث القديمة المعنية بالرقابة على الخدمات المالية غير المصرفية، الهيئة العامة لسوق المال و الهيئة العامة لشئون التمويل العقاري و الهيئة المصرية العامة للتأمين و كذلك الهيئة العامة للاستثمار فيما يتعلق بإشرافها على نشاطي التأجير التمويلي و التخصيم.

و ظهر جلياً خلال هذه الفترة أهمية تبادل المعلومات بين جهات الرقابة المالية المختلفة، و ضرورة مواكبتها لتطورات المؤسسات المالية المتعاملة في الأسواق، و سد أوجه الخلل التي قد تترتب على عدم وضوح النطاق الرقابي، أو التي تستدعي تدعيماً للتعاون بين رقباء مختلفي التخصصات.

و تم تكليف مجموعة من المختصين بشئون المال و الاقتصاد و القانون للاطلاع على التجارب الدولية و استطلاع آراء ذوي الخبرة، في الداخل و الخارج، و إعداد تقارير بشأنها و عرضها في ورش عمل متعددة.

و عقدت اجتماعات مطولة لمناقشة الجوانب و الأبعاد المختلفة للأهداف المقترحة للهيئة الرقابية الجديدة و اختصاصاتها و شكلها التنظيمي و ما يلزمها للقيام بعملها في الإشراف على أسواق مالية و قطاعات مالية تتفاوت في مدى تطورها و انتشارها، و تتعلق بها حقوق و التزامات مختلفة للمدخرين و المستثمرين في الأوراق المالية و حملة وثائق التأمين و المتعاملين في نشاط التمويل العقاري الذي كان حديث النشأة، فضلاً عن الخدمات المالية غير المصرفية الأخرى و ارتباطاتها المتنوعة بأنشطة الاقتصاد و المال في داخل البلاد و خارجها.

كانت هناك رغبة في الاستفادة التنظيمية من التخصصات المتنوعة و المزايا النسبية للهيئات الرقابية الثلاث، بين التاريخ الأقدم في الرقابة على التأمين و الانتشار الأوسع لهيئة سوق المال و إشرافها على سوق الإصدار و بورصة الأوراق المالية، و خبرة التأسيس الأحدث لهيئة التمويل العقاري، مع ضمان التخصص القطاعي للأدوات و الأوعية المالية و مؤسساتها و الارتكاز إلى الأحكام و القواعد التي نظمتها التشريعات ذات العلاقة بأنشطتها، و التي كانت محل مسار آخر من التحديث و التطوير.

و من خلال الاجتماعات التحضيرية تم تأكيد ضرورة البناء بكفاءة على القواعد و الخبرات الوطنية المكتسبة و المتراكمة التي ذخرت بها الهيئات القائمة وقتها و أن يتم الدفع بكوادر جديدة تتواصل معها لضمان الاستفادة المثلى من مزايا الاستقرار و التجديد في إطار متكامل لتبادل الخبرات و الرؤى.

و قد ظهرت مزايا التعرف على التجارب الدولية، و عدم إعادة اختراع العجلة، في الاستئناس بتجربة أستراليا على سبيل المثال التي تتوحد لديها الرقابة على الخدمات المالية غير المصرفية، و عدم تحبيذ التجربة البريطانية التي جمعت كل جهات الخدمات المالية، مصرفية و غير مصرفية، تحت رقابة هيئة واحدة.

كما أظهرت دراسة التجارب مزايا تتحقق بالتطبيق و الممارسة الكفؤة فيما يتعلق بإدارة الموارد البشرية و تطوير الكفاءات، و تحقيق وفورات مادية من خلال دمج الخدمات المساعدة و المساندة و عمليات التأمين و غيرها.

و بعد جلسات التشاور المكثفة، خاصة مع المجموعة الوزارية الاقتصادية و البنك المركزي المصري، تم الاتفاق على المبادئ الأساسية، و تم إعداد مشروع قانون من خلال لجنة بوزارة الاستثمار، و راجعت مشروع القانون إدارة التشريع بوزارة العدل و اللجنة الوزارية التشريعية و تمت مناقشته بمجلس الوزراء قبل إرساله للبرلمان الذي أقره بعد مناقشة مستفيضة في لجانه المشكلة بغرفتيه حتى صدر القانون المعمول به الآن، برقم 10 لعام 2009، لتبدأ الهيئة عملها في الأول من يوليو 2009.

و اليوم، و بالرغم من كثرة الإجراءات التي اتخذتها الدول و المؤسسات الرقابية على مدار عشر سنوات في أعقاب الأزمة، لا يمكن الجزم بأن القطاع المالي دولياً محصن من الاضطرابات و الأزمات، خاصة في ظل عالم شديد التغير يشهد مربكات جيوسياسية و مناخية و تكنولوجية و ديموجرافية كبرى بما يستدعي دوام اليقظة و الحرص و دقة المتابعة من قبل جهات الرقابة المالية. فبالتمويل تدور محركات الاقتصاد حقاً، و لكن ليس من السهل توقع زمن و كيفية حدوث اضطرابات التمويل و مشكلاته و أزماته، لأن أنشطته تتضمنها و تحيط بها مخاطر متنوعة. و دور الرقيب الحصيف أن يقلل من احتمالات حدوث المشكلات و الأزمات المالية و أن يحجم من حدتها و آثارها إن حدثت.

و لتطوير عمل الرقيب و تيسير أنشطة المؤسسات المالية العاملة في السوق تأتي أهمية العمل في إطار سياسة عامة للتمويل ترتبط ببرامج متكاملة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، و جدير بالرقيب الحصيف أن يكون له “دليل” يهتدي به و أن يتعاون مع الحكومة و أجهزة الدولة و المؤسسات المالية العاملة بالسوق في تنفيذه. و لما كانت معايير النشاط المالي دوليةً و أدواتُه و خدماتُه عابرةً للحدود، فإن التعاون الدولي في مجالاته يعد من الأمور البديهية.

و في مقدمة هذا الدليل أرى أهمية لإنعاش الذاكرة بأسباب و آثار المشكلات المالية لمنع تكرارها، و ضرورة التواصل مع عموم الناس لتعريفهم بحقوقهم و بمزايا و عوائد و تكلفة الخدمات المالية المختلفة.

و أجد هذا الدليل متضمناً سبل الاستعداد للمخاطر بأدوات و تدابير جديدة. فمع انتشار أدوات و مؤسسات “التقنية المالية” هناك حاجة إلى “تقنية رقابية” تتعامل مع متطلبات العصر الرقمي و الذكاء الاصطناعي و قواعد البيانات الكبرى.

و بدون تقنية رقابية فعالة ستتعثر التقنية المالية حتماً مهما بلغ أصحابها من العلم أو المال، فسلطات الرقيب قد تعوق النشاط أو تحجمه أو تمنعه من الوجود، أو أن تسانده و تدفع به دفعاً و هو المتوقع من الرقيب الحصيف للصالح العام. و مع التقنيتين المالية و الرقابية لابد من تقنية ترتقي بالأداء الحكومي، فلن يستقيم الأمر و قطاع المال و الرقابة عليه ينطلقان بسرعات فائقة و دواوين الحكومة تتعثر في عوائق بيروقراطية متقادمة. و في العصر الرقمي لا مجال لحديث عن خدمات حكومية دون بطاقات ذكية بأرقام موحدة و خدمات متنوعة تساندها بنية أساسية و تأمين لنظم المعلومات التي تشمل شئون الناس الحياتية و العملية.

و مع التقنيات الثلاث يأتي ما هو أهم، و أطلق عليه التقنية المجتمعية، بمعنى مدى الاستثمار في البشر تعليماً و تثقيفاً و تدريباً لكي يكون المواطنون و مجتمعاتهم مؤهلين للاستفادة من مستجدات العصر الرقمي و منتجات تكنولوجيا المعلومات و الخدمات المالية الجديدة. و هنا تنبري أهمية توطين التنمية و دور المجتمعات و السلطات المحلية في ادماج عموم الناس في منظومة متكاملة ذات فرص عادلة للحياة و التقدم، و حمايتهم من الاستغلال بداية من احترام خصوصية بياناتهم و تمكينهم من أسباب التطور في عصر شديد التنافسية.

و هناك دور حيوي للمؤسسات المالية تتطور طبيعته و أساليبه الجديدة للشمول المالي من أجل توطين التنمية المستدامة، بما في ذلك تعبئة المدخرات و مساندة الاستثمار المؤثر إيجابياً في النمو و التشغيل، خاصة من خلال المشروعات الصغيرة و المتوسطة، و مساندة الدور الاقتصادي للمرأة، و زيادة القيمة المضافة دون إضرار بالبيئة، و الارتقاء بالحوكمة و الأثر الاجتماعي للمشروعات، و تقديم البرامج التمويلية المحفزة على تبني تقنيات متطورة و إتاحة التمويل طويل الأجل لمشروعات حيوية كالبنية الأساسية و الطاقة المتجددة و ممكنات التحول الرقمي.

و مع الاستبشار بانتشار الحديث عن المعايير البيئية و المجتمعية و الحوكمة و الاستثمار المؤثر و الاستدامة أذكر بأن البورصة المصرية كانت رائدة بتطوير مؤشر لهذه المعايير بالتعاون مع مركز المديرين و مؤسسة ستاندارد آند بورز منذ عشر سنوات. و اليوم هناك أهمية لتعميم معايير الاستدامة المستند إليها لكافة الأنشطة المالية و الاستثمارية بما في ذلك قواعد التصنيف و إعداد التقارير و نظم الإفصاح.

و من الأهمية بمكان أن توضع القواعد العادلة لممارسة النشاط الاقتصادي و ألا يسمح بوجود تفاوت رقابي، و أذكر أهل الرقابة المالية بقانون جودهارت و كذلك عدم إيجاد حالة من التفاوت الرقابي تؤدي إلى مراجحات غير موفقة و مكلفة للاقتصاد الوطني. و مع السعي لدمج الأنشطة غير الرسمية في الاقتصاد الرسمي لن يتحقق ذلك إلا بأن ترتفع كفاءة و تنافسية القطاع الرسمي نفسه بتخفيض تكلفة معاملاته و القضاء على معوقات ممارسة الأعمال و ألا يكون التعامل مع أجهزة الحكومة مركزية أو محلية مدعاة للنفور و الانزعاج و إضاعة الوقت و إهدار المال و ووأد الفرص و الأفكار الخلاقة و هروب المشروعات إلى القطاع غير الرسمي أو إلى خارج الديار. و لعل في التحول الرقمي إسهامات في سبيل تطوير مأمول.

و لكي يقوم الرقيب المالي بدوره في مساندة التنمية و زيادة النفع من أدوات تمويلها و تحجيم مخاطرها، فعليه أن يكون ملماً بكل مستجدات الاقتصاد و التمويل و علومه و أسواقه و تطوراتها و ما يؤثر فيها. و لا سبيل لتحقيق ذلك إلا باستمرار الاستثمار في الكفاءات و الكوادر البشرية لمؤسسات الرقابة و إتاحة ما يمكنها من تفعيل أدواتها و القيام بدورها بفاعلية. فصناعة المال عمادها البشر و تتطور بالثقة في قدراتهم و كفاءاتهم و تنفيذ القواعد العادلة في أداء الحقوق و حمايتها، و في إطار من السعي المستمر لتحقيق التقدم و النفع لعموم الناس”.

الرابط المختصر