بقلم د. محمود محيي الدين نقلا عن الشرق الأوسط _ الأزمات مقامات؛ والعالم اليوم يواجه ثلاث أزمات دفعة واحدة فيما تشبه العاصفة الكاملة. أزمة من المقام الأول تهدد حياة الناس وصحتهم من جراء انتشار العدوى بفيروس كورونا، وأزمة من المقام الثاني تعترض الاقتصاد بإيقاف مفاجئ في كثير من أنشطته وتباطؤ في أنشطة أخرى، وأزمة من المقام الثالث في البورصات وأسواق رأس المال.
والأزمات الثلاث وتداعياتها حول العالم تتشابك وتدفع بعضها بعضاً مسببة حالات تراوحت بين الصدمة والإنكار، والهلع والتجاهل، والفوضى والاستمراء في فن عمل لا شيء. وبين هذه المتناقضات في ردود الأفعال جاءت محاولات جادة لاحتواء الأزمات الثلاث والتعامل معها وفقاً لاعتباراتها ومقاماتها.
وقد أتت الأزمات الثلاث في وقت يعاني ضحاياها من أوضاع سيئة أصلاً بما جعل أثرها مضاعفاً والتعامل معها محدوداً متهافتاً. فأزمة العدوى بانتشار فيروس كورونا المستجد جاءت كاشفة لضعف استعدادات النظم الصحية في الدول، بما في ذلك المتقدمة منها، نظراً للتهاون في تطوير نظم الرعاية الصحية الأولية وتدني الاهتمام بالطب الوقائي ولغياب التطبيق الفعال للتأمين الصحي الشامل في كثير من البلدان. ويلاحظ المتابع تراجع الإنفاق الصحي كنسبة من الموازنات العامة في إطار برامج التقشف المالي التي اتبعت بعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008. وكان الإنفاق
العام على الخدمات العامة، بما في ذلك الرعاية الصحية من ضحاياها. وفي تقرير عنوانه «عالم معرض للمخاطر» صدر العام الماضي عن مجلس متابعة الاستعدادات العالمية، تبين أن كثيراً من التوصيات المحددة لتطوير قدرات التعامل مع الأمراض المعدية ومنع الأوبئة قد أُهملت أو طُبقت بسوء شديد.
وقد شُكل هذا المجلس رفيع المستوى، بمساندة من منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي، لمتابعة تنفيذ التوصيات واجبة الاتباع بعد تعدد الأوبئة، مثل إنفلونزا H1NI في عام 2009 والإيبولا في عام 2014 حتى عام 2016.
وأكد التقرير معاناة الناس حول العالم من تكرار دورات من الذعر ثم الإهمال مع كل تهديد وبائي. فنحن نحشد الجهود بانفعال مع كل تهديد محتمل ثم سرعان ما نتناسى الأمر برمته بعد انتهاء الأزمة وكأنها لم تكن. ويراجع التقرير مدى ما أنجز في توصيات سبعة تتعلق بما يأتي:
– الاستثمار في النظم الصحية والعاملين بها وبنيتها الأساسية وتجهيزاتها
– الالتزامات التمويلية على المستوى الدولي والإقليمي والوطني
– الكفاءة المؤسسية للنظام الصحي على المستويين المركزي والمحلي في كل دولة
– فاعلية التعاون الدولي في مجالات الصحة الوقائية والعلاجية وتطوير اللقاحات والأمصال وتوفيرها مع الأدوية المعالجة والتجهيزات الطبية
– تضمين الاستعدادات الصحية وما يرتبط بها من تكلفة في إطار سياسات إدارة المخاطر الاقتصادية
– توفير الحوافز لحشد تمويل الاستعدادات المطلوبة للتوقي من الأزمات الصحية العامة والأوبئة
– تدعيم فاعلية التنسيق الدولي فيما يتعلق بالاستعدادات للتوقي وللتعامل مع الطوارئ والأزمات الصحية والأوبئة على المستويين الإقليمي والعالمي
لعل هذه التوصيات السبع التي لم تلق اهتماماً مستحقاً تؤخذ اليوم بعين الاعتبار بعدما ظهر من عواقب لإهمالها. والأولى أن توضع هذه التوصيات في إطار جهود تطوير نظام متكامل للتأمين الصحي الشامل دون إبطاء. فهذه لحظة قيمة لكي تراجع فيها الدول وعموم الناس أولويات ومسارات الإنفاق، فمشافي العلاج الخاصة، بدرجات تميزها المختلفة، لن تكافح وحدها الأمراض المعدية في غياب من الطب الوقائي لعموم الناس.
كما أن نظم التأمين الصحي الخاص للقادرين، مع أهميتها، لن تحتوي الأوبئة إذا تفاقمت. وهذا حتماً ليس وقت التقشف فتمنع الموارد المطلوبة لحماية صحة الناس، كما أنه لا مجال للإنفاق العشوائي فيجب أن تكون الموارد المتاحة في إطار بناء متكامل للنظام الصحي وموازنته، وأن يتم الإعلان عن بنود الإنفاق وجهات الاستحقاق بشفافية.
أما الأزمة الثانية فهي تتعلق بالاقتصاد الحقيقي، فقد داهم فيروس كورونا قطاعات الاقتصاد العالمي وأوصاله وهو يعاني من هشاشة ويهدده الركود. ألم تسهم في هذا الوضع الهش حروب ونزاعات التجارة بين أميركا والصين، واستمرار ضعف اقتصاد أوروبا بعد الأزمة المالية وبتأثير بريكسيت، واستمرار الأداء الاقتصادي المنخفض في اليابان، وارتفاع تكلفة المخاطر الجيوسياسية والحروب وتراكم الديون والتخوف من عدم قدرة بعض المقترضين على السداد؟
في ظل هذه الأجواء، ومع فشل الاتفاق على سقف لإنتاج النفط، انخفضت أسعاره بحدة ليصل سعر البرميل إلى 34 دولارا عند كتابة هذه السطور، وقد كان سعره 69 دولارا تقريبا مع بداية العام.
وقد انخفضت معدلات النمو الاقتصادي العالمي من أرقامها المتدنية التي كانت تحوم حول متوسط 3 في المائة منذ عامين إلى 2.4 في المائة في العام الماضي وكان يرجى أن تصل إلى 2.9 في المائة هذا العام، ولكن التقديرات الجديدة، بعد أزمة الفيروس، كتلك الصادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تطيح بنصف هذا النمو بما يعد أكبر تهديد شامل للاقتصاد العالمي منذ الأزمة المالية التي اندلعت منذ أكثر من عشر سنوات.
ودعم هذا التقدير المنخفض للنمو ما صدر عن منظمة التجارة العالمية من تحذير من تأثير سلبي كبير على التجارة العالمية، وكذلك ما حذرت منه منظمة الأنكتاد من تأثير يتراوح بين 5 في المائة على 15 في المائة من التراجع في الاستثمار الأجنبي مقارنة بتقديراتها السابقة.
إذا كان هذا وضع عاملي الاستثمار والتجارة الذي يستند إليهما النمو، فماذا عن العامل الثالث والأخير في دفع النمو وهو الاستهلاك؟
نحن بصدد تراجع للطلب تشهده بالخصوص قطاعات السياحة والنقل والترفيه، وتعيق اضطرابات قطاعات اللوجيستيات والخدمات المساندة تلبية الطلب على السلع الزراعية والصناعية.
كما أن حالات الغلق الكلي والجزئي لبعض المنشآت وحث الموظفين والعمال على البقاء في منازلهم أو العمل بالتناوب له تأثير سلبي على الطلب، خاصة مع انخفاض أجور العمالة المؤقتة والموسمية.
ويرجح هذا أن يأخذ الاقتصاد فترة أطول للتعافي حتى مع افتراض تحقيق ما نأمله من سرعة إيجاد علاج ووقاية طبية من فيروس كورونا. فركود الاقتصاد هذه المرة، التي تتزايد احتمالات حدوثه مع مرور الوقت، يرجع إلى تشابك جانب العرض وسلاسل الإمداد والإنتاج من ناحية، مع جانب الطلب وقصوره خاصة فيما يتعلق بالاستثمار الجديد والاستهلاك للسلع غير الضرورية.
ويزيد من ذلك حالة عدم اليقين وهي العدو الأكبر للمستثمر الذي يحاول جاهداً التعرف على التكلفة والعائد، وكذلك المستهلك الذي يخشى الإنفاق وهو قلق على مستقبل دخله.
هذا يتطلب دوراً أكبر للحكومات في بث الثقة بإتاحة المعلومات بدقة عن أوضاع الاقتصاد وتوجهاتها حيال مستجداته والدفع بآليات تحفيز الطلب المحلي وتيسير التجارة والاستثمار بإنهاء العوائق البيروقراطية البالية والتخلص من تلك الرسوم والأعباء المفروضة وكأنها إتاوات على الاستثمار وعقوبات على القيام بالعمل.
أما عن الأزمة ذات المقام الثالث فهي أزمة أسواق رأس المال والبورصات، فقد رأينا البورصات في صعود مستمر على مدار فترة طويلة دون انقطاع غير مبالية بأداء اقتصادي كلي أو متانة الشركات أو أحداث سياسية كان من الطبيعي أن تعكسها لولا أنها مدفوعة بسيولتين: سيولة من شركات غزيرة الفائض النقدي خاصة شركات التكنولوجيا الكبرى، وسيولة مقترضة من قبل مؤسسات منتفعة بانخفاض أسعار الفائدة.
فجاء أزمة فيروس كورونا وتداعياته لتذكر الأسواق بما فاتها من واجب التصحيح. وكانت السمة الغالبة هي التقلب الشديد فعند متابعة الأشكال البيانية على الشاشات قد تظن أنك تتابع الأداء على مدار شهر أو أسبوع ولكنه في الحقيقة ليوم واحد من التقلب الشديد بين خوف المستثمرين والمضاربين، من استمرار الأزمة ورجائهم في إجراء حكومي يقلل من آثارها، أو في اختراع طبي يعجل بالتعامل مع الفيروس الخطير.
ومع لجوء المستثمرين للملاذات الآمنة ينخفض العائد على السندات الأميركية وترتفع أسعار الذهب. ويقلب المستثمرون بين محافظ الأوراق المالية متخلصين من تلك التي ترتفع مخاطرها أو شديدة الارتباط بمراكز الأزمة، وفي أحوال أخرى قد يضطرون لبيع أوراق جيدة لتعويض خسائر أو بسبب حمى البيع تنتاب الأسواق غير مفرقة بين غث وسمين. ورغم محاولات تهدئة الأسواق من قبل البنوك المركزية في الاقتصادات الغنية بتخفيضات سعر الفائدة إلا أن البورصات استمرت بين تقلب وانخفاض.
وفي تقديري أن أسواق المال ستتماثل للهدوء مع استشرافها احتواء ناجعاً للأزمتين الأكبر مقاماً، فالأولوية الآن يجب أن تكون لحماية حياة الناس وصحتهم، ثم للاقتصاد الحقيقي إنتاجاً وتجارة واستثماراً واستهلاكاً، ثم لأسواق المال التي ستعكس بالتبعية هذه المستجدات بقدر تمثيلها للاقتصاد.