بقلم د. محمود محيي الدين، اقتصادي مصري – وقع الاقتصاد العالمي رسميا في حالة ركود تستلزم تدابير عاجلة للخروج منها على مستوى كل دولة مع ضرورة تفعيل كافة قنوات التعاون الدولي
بعد اجتماع لجنة السياسة النقدية و المالية لصندوق النقد الدولي، يوم أمس الجمعة (27 مارس 2020)، أعلنت مديرة الصندوق كريستالينا جورجيفا أنه تمت مراجعة تقديرات النمو الاقتصادي لعامي 2020 و 2021، و بات واضحًا أن الاقتصاد العالمي دخل في مرحلة ركود بذات سوء ما كان عليه الوضع في عام 2009 بعد الأزمة المالية العالمية، أو أسوأ.
وجدير بالذكر أن هناك طلبًا غير مسبوق من الدول الأعضاء لتسهيلات تمويلية من صندوق التقد الدولي لأغراض الطوارئ، حيث تقدمت 80 دولة بطلبات لسرعة مساعدتها لتدبير الاحتياجات العاجلة لمواجهة الوباء سريع التفشي و تبعاته.
مجموعة العشرين
و قد تابعنا إعلان مجموعة العشرين عن ضخها لحوالي 5 تريليون دولار في اقتصاداتها بما يعادل 6% مِن إجمالي الناتج المحلي العالمي.
هذا الإنفاق ضخم حقاً، و يعادل في بعض الدول نسبة 10% مِن ناتجها المحلي الإجمالي، إذ وافق الكونجرس الأمريكي على حزمة تمويل بمقدار 2 تريليون دولار، يمكن مساندتها بمثلها بآليات تمويل من بنك الاحتياطي الفيدرالي و القطاع المالي الأمريكي. حقاً تمثل دول العشرين 85% مِن الاقتصاد العالمي، و لكن تأثير هذا الإنفاق على الدول الأخرى يحد منه الآن عدم انسياب حركة التجارة و الاستثمار بفعل الأزمة الصحية و تداعياتها، فضلاً عن توقف تدفق حركة العمالة و السفر والنقل كآليات مساندة لتفعيل أثر مثل هذا الإنفاق عبر الحدود.
الدول النامية
في ظل هذا الوضع الاقتصادي يجب تفعيل آليات التعاون الدولي منعاً لزيادة الأوضاع سوءاً في الدول النامية و ذات الأسواق الناشئة.
تحتاج هذه الدول لما لا يقل عن 3 تريليون كحزم مالية متكاملة للمساندة. و بصفة عاجلة تحتاج الدول الأفريقية وحدها 150 مليار دولار تقريبًا للعون الصحي والتعامل مع مشكلات الديون، و هناك مطالبة بضرورة إرجاء دفع فوائد الديون الافريقية عن هذا العام و تقدر بحوالي ٤٥ مليار دولار متضمنة في الاجمالي وكذلك المعاونة في مساندة النشاط الاقتصادي و الخدمات الاجتماعية الحيوية.
على مستوى كل دولة
الأولوية في الإنفاق ستظل في الوقت الراهن لمساندة جهود قطاع الصحة في منع انتشار فيروس كورونا و التعامل مع تحدياته (و المطلوب في هذا المجال وفقا لمنظمة الصحة العالمية توفير أجهزة كشف و إمدادات طبية عاجلة لعلاج المرضى و توسيع القدرات الاستيعابية و أدوية و التعاون المعرفي لنقل خبرات الدول في التعامل مع الإصابات و علاجها و ذلك كله جنبا إلى جنب مع جهود تطوير اللقاح).
مع الركود في الاقتصاد العالمي يستدعى الأمر سرعة تحفيز قطاعات الانتاج و التوزيع تفادياً لاستمرار الركود و تحوله لكساد مع مراعاة أن إجراءات الأزمة المالية السابقة في 2008 غير مناسبة لنقلها حرفيًا لعلاج الأزمة الراهنة. (وفقا للمقارنات الدولية ستحتاج كل دولة في المتوسط تدبير التمويل لحزمة للمساندة الاجتماعية و الاقتصادية في حدود 5% مِن الدخل القومي يمكن تدبير جانب منها بإعادة ترتيب أولويات الإنفاق في ظل انخفاض أسعار الفائدة بما يحقق وفرًا في خدمة الدين يمكن إعادة توجيهه و يجب مراجعة الموازنات العامة و الخطط الاستثمارية إذا لم يتم إدراك هذا بعد
ليس هذا زمن إجراءات التقشف و لكنه وقت الإنفاق المنضبط لمساندة المجتمع و الاقتصاد. و يجب التعامل مع هذه الفترة كفترة حرب تراجع فيها أولويات الإنفاق – كما أنها فترة استثنائية تراجع فيها عمليات إدارة الدين العام و المؤشرات الحرجة للعجز و الدين العام بالتعاون مع المنظمات الحكومية الدولية و التجمعات الاقتصادية حتى يمكن الخروج من هذه الأزمة بسلام و حتى يكون التعافي منها متكاملا و لا يسبب علاج هذه الأزمة في أزمات أخرى بعدها.
يمكن شراء المنتجات البترولية انتفاعاً بأسعار النفط المنخفضة بعقود طويلة الأجل و ضرورة العمل على تخفيض أسعار الطاقة للصناعة و المنازل جانب هام من الحزمة الاقتصادية و المالية يجب أن يوجه لتوسيع شبكة الضمان الاجتماعى و الدعم النقدي و تدعيم عاجل للمتضررين من تعطل الأنشطة الاقتصادي و الفقراء و تغذية الأطفال خاصة الذين كانوا يعتمدون على التغذية المدرسية
برز الاحتياج لتأسيس نظام متكامل لتطبيق نظم فعالة للمساندة الاجتماعية من خلال تفعيل شبكات الضمان، و يجدر تطبيق نظام للدخل الأساسي الشامل للكافة و هناك دول تستخدمه الآن في وقت الأزمات فقط كدفعة واحدة أو أكثر نقداً للمتضررين، يجدر تفعيله اليوم كنظام مستمر بعد صدمة الأزمة العالمية الكبرى.
فسيحتاج العاملون في القطاع الخاص و العمل الحر ضماناً للوفاء باحتياجاتهم الضرورية إذا تعطلوا عن العمل فجأة، و وجود دخل ثابت مستمر يساوي الحد الأدنى للأجور يسهم في تخفيف الأعباء، خاصة أن هناك تحديات مختلفة تصادف أسواق العمل متسببة في بطالة نعيش بعضها الآن. هذا النظام للدخل الأساسي يجب تفعيله مع باقي نظم الضمان الاجتماعي و الإعانة ضد البطالة و عناصر شبكة التكافل الأخرى، و هناك خبرات دولية متنوعة في تطبيقه.
من القطاعات المستفيدة إيجابيًا و التي يجب مساندتها في التطور و النمو الخدمات الصحية، و القطاعات المرتبطة به، و كذلك إعادة الاعتبار لأهمية الطب الوقائي ومساندته من خلال نظم التأمين الصحي الشامل، الذي يجب الإسراع في تطبيقه.
كما ستعجل الأزمة الراهنة بالتحول الرقمي و قطاع تكنولوجيا المعلومات و نظم الاتصالات وأجهزتها و ستحل محل طرق تقليدية للتعليم و إنجاز الأعمال، بل و في كيفية إدارة العمل الحكومي و تنفيذ السياسات العامة مستقبلاً. ستسبب مستحدثات التقنية المالية و تكنولوجيا المعلومات في تشكيل طرق الانتاج و تقديم الخدمات و أساليب عمل القطاع المالي و الاستثمار و الشركات و عمليات التجارة المحلية و الدولية.
ستزداد أهمية توطين التنمية و يجب استخدام الحزم الاقتصادية و المالية المساندة من أجل الاستثمار في المجتمع المحلي و خدماته التعليمية و الصحية كحق لكافة المواطنين، و تدعيم بنيته الأساسية بما فيها المواصلات و الصرف الصحي و التعامل بيئيًا مع المخلفات و النظافة و توفير مقومات البنية التكنولوجية الأساسية الجديدة.
هذه الأزمة العالمية الكبرى كاشفة و منشئة؛ فهي كاشفة لمدى استعداد النظم و المؤسسات و قدراتها على التعامل مع الأزمات و كاشفة لطبيعة البشر و علاقاتهم بين بعضهم البعض و بيئتهم المحيطة بهم، كما أنها منشئة لترتيبات جديدة في المجتمعات و اقتصاداتها و علاقاتها الداخلية و الخارجية، نتناولها في حينها.
المقال منشور على حساب د. محمود محيي الدين بموقع التواصل الاجتماعي لينكد إن