بقلم أحمد رضوان رئيس تحرير جريدة حابي _ ملخص ما تمر به الأسواق العالمية هو بوادر ركود ومساعٍ لتجاوزه وتقييده في أقل فترة زمنية ممكنة حتى لا يصل إلى ما هو أبعد، بكل ما يرتبط بهذا الركود من مشاكل اقتصادية على المستويين الكلي والجزئي، لها تأثيرها الأليم على واقع الناس ومستقبلهم.
البنوك المركزية ما زالت هي اللاعب الأكثر حيوية واجتهادًا في مواجهة التداعيات الاقتصادية لفيروس كورونا، أما على مستوى صناع السياسات المالية، فما زالوا أسرى بين آمال تعظيم الإيرادات، ومخاوف عجز الموازنة، يسيرون على نفس القضبان الكلاسيكية المعروفة. إذا ما نفدت أدوات السياسة النقدية (ونحن بالفعل على مشارف ذلك بعدما فعلت البنوك المركزية كل ما يمكنها فعله) دون تدخلات سريعة وواضحة وجريئة من وزراء المالية ومالكي مفاتيح الخزانة، فالوضع سيكون أكثر سوءًا، وربما لا نأخذ من جهود السياسات النقدية إلا العناء والتأثيرات الجانبية، سواء في سعر الصرف، أو انفلات الأسعار.
لنكن واقعيين، أقصى طموحات رجال الاقتصاد الآن هو تخفيف الألم، ثم الاستعداد للتعافي من هذه الفترة الحرجة شديدة الغموض والذعر. في زمن وحدود آخرى، ربما تكون نفس هذه الإجراءات مفتاحًا كبيرًا للرواج وجذب رؤوس الأموال، أما في هذه الظروف غير المقيدة بزمان ولا مكان، فكل الأمل هو تخفيف الألم، ثم نتحدث في مرحلة لاحقة – بعد التأكد من إتمام السيطرة على فيروس كورونا المستجد- عن العودة للانتعاش والتخطيط له.
ما تفعله البنوك المركزية الآن هو الحفاظ على تدفق الائتمان بسلاسة أكبر وتكلفة أقل بما يحفز القطاع الخاص والأفراد على النظر من نوافذ جديدة للأموال، وبالتبيعة قدرات أكبر للبقاء وربما التوسع فيما يتعلق بالشركات، يقابلها طلب أكثر من المستهلكين سواء لتغطية حاجات ضرورية أو غير ضرورية.
هذه السيولة ربما تخلق تضخمًا كبيرًا إذا لم يقابلها زيادة في المعروض من السلع والخدمات، وهذا المعروض لن ينمو على أكتاف الاستدانة، ولكن بسياسات حكومية مشجعة على العمل والإنتاج والتوظيف، وبحوافز ضريبية واضحة يشهد لها القطاع الخاص، وتلبي ولو بعضًا من مطالبه.
رفع القوة الشرائية للأفراد أيضًا لا يأتي فقط بفتح مجالات أوسع للاستدانة، هناك حزم إغاثة اقتصادية يجب أن يتم النظر إليها بعين الاعتبار وأن تكون مباشرة قدر المستطاع، نفس الشيء بالنسبة للمشروعات الصغيرة والمتوسطة التي تحتاج هي الأخرى إلى معاملة خاصة ترفع شهية أصحابها للنمو والتوظيف وبحماية كافية، وإذا كانت قرارات البنوك المركزية تأجيل القروض المستحقة على هذه المشروعات إيجابية في طريق الاستفادة من السيولة المتوفرة من إرجاء السداد، فإن توظيف هذه السيولة قد يكون في صورة سداد مرتبات وليس تنشيط وتطوير الإنتاج وتوفير الخامات، لذا فيجب التفكير في آلية دعم مباشر لهذا القطاع الحيوي سريع التأثر والتأثير.
فيروس كورونا لم يكن سببًا في استقرار أرقام الاستثمار الأجنبي المباشر عند مستويات متدنية، لأنه لم يكن موجودًا من الأساس، ولكن كانت هناك أسباب أخرى يجب التساؤل جيدًا.. هل هذه الأسباب ما زالت قائمة وبالتالي ستعطل خطط الوقاية من التداعيات الاقتصادية؟ أم أنه يتم العمل على حلها؟
ربما عانت أسواق المال في الكثير من الدول بالتداعيات الاقتصادية لفيروس كورونا، ولكن هناك أسواق كانت تهبط قبل كورونا ولم يستمع أحد لمشاكل المستثمرين بها، أو يقرأ أسباب تراجع ربحية شركاتها بعناية.
التحديات الداخلية
لم يكن الاقتصاد المصري بعيدًا عن التأثيرات السلبية التي يمر بها العالم في الأزمة المشتعلة حاليًا أو ما سبقها من أزمات، لكنه للأسف كان بعيدًا وفي أوقات كثيرة عن مواسم الطفرات.
مر الاقتصاد المحلي بواحدة من أقوى وأصعب عمليات الإصلاح، شهدت الكثير من التفاصيل والجدل والتحديات، لكنها مرت بسلام إلى حد كبير، واستقرت الأوضاع على واقع سمح بتحقيق معدلات نمو جيدة أعلى من 5%، وامتصاص جزء كبير من البطالة، وهبوط معدلات التضخم إلى أرقام أحادية، وبناء احتياطي نقد أجنبي متنامٍ ومدعوم باستعادة بريق السياحة وتحويلات المصريين بالخارج وانتعاش الصادرات البترولية. ولكن، كانت هناك علامات استفهام كبيرة في ملفي الصادرات غير البترولية والاستثمار الأجنبي المباشر، ونظرة القطاع الخاص لوضع المنافسة محليًّا.
التأثير السلبي لفيروس كورونا سيكون واضحًا على إيرادات السياحة التي كانت قد تجاوزت منطقة 12 مليار دولار سنويًّا، وربما أيضًا على تحويلات المصريين في الخارج والتي تدور حول 26 مليار دولار سنويًّا، وبكل تأكيد هناك تأثير مباشر آخر على العاملين في القطاع السياحي وما يرتبط به من مجالات عمل، وأيضًا على الاستثمارات الأجنبية في سوق الدين المصرية.
هل جاءت قرارات البنك المركزي معبرة عن هذه الصورة ومعالجة لها؟ نعتقد أن الإجابة نعم، وأن الرهان سيكون أولًا وثانيًا وعاشرًا على ملف التصدير لتعويض جانب من موارد النقد الأجنبي المرتقب فقدها، إلى جانب إنعاش الطلب المحلي.
قبل الإسهاب في تحليل الفقرة السابقة، يجب الإشارة إلى أن السنوات الأخيرة شهدت تأخيرات في صرف مستحقات المصدرين من برنامج رد أعباء التصدير أو ما اصطلح على تسميته ببرنامج دعم الصادرات، بالتأكيد دفعت وزارة المالية جانبًا معتبرًا من هذه المستحقات، ولكن جزءًا منها كان مشروطًا بإعادة استثمار الشركات لهذه الأموال أو بمقاصات ضريبية.. وعلى أي حال، الجميع يعلم أهمية السيولة في تسهيل وتنفيذ خطط عمل أي شركة خاصة في الأوقات الحرجة.
تحركات الحكومة تناغمت إلى حد كبير مع رهان التصدير، فأعلنت عن وضع حزمة من الإجراءات التحفيزية العاجلة لزيادة معدلات الإنتاج والتصدير، ولكن رؤساء المجالس التصديرية طلبوا برنامجًا استثنائيًّا لتحفيز الصادرات، وأيضًا بسرعة رد مستحقاتهم المتأخرة، وتأجيل الأقساط الضريبية لفترة محددة وبدون فوائد، وخفض أسعار الشحن عبر شركة مصر للطيران.. هذه المطالب لم تتحقق حتى الآن.
نعود إلى إجراءات البنك المركزي التي جاءت سريعة ومتعاقبة واستهدفت بجانب حماية القطاع المصرفي، إنعاش السيولة في الأسواق، والبناء على المبادرات الداعمة لمجتمع الأعمال وللطلب المحلي.
أقر البنك المركزي خفضًا قياسيًّا واستثنائيًّا بواقع 3 نقاط مئوية دفعة واحدة في اجتماع طارئ ومفاجئ لغالبية المحللين، هذا الخفض «نظريًّا» من شأنه إنعاش الاستثمار وتحريك الأموال باتجاه قنوات أخرى بخلاف الوادئع، وتنشيط سوق المال وتحفيز القطاع الخاص على التوسع، ليس هذا فحسب، بل من شأنه أيضًا منح فرصة كبيرة للحكومة لخفض تكلفة الدين ومقاومة التحديات الجديدة على الموازنة، والتي -ولحسن الحظ- ستجد دعمًا كبيرًا أيضًا من التراجع المفاجئ في أسعار البترول.
ببساطة، وضع البنك المركزي رهانه بالكامل على السوق المحلية، بشقيها الإنتاجي والاستهلاكي، «اقترضوا للاستثمار والتوسع»، «واقترضوا للشراء». سياسة توسعية واضحة لها تأثيراتها الجانبية بكل تأكيد، ولكن عكس ذلك سيكون أكثر إيلامًا وبلا مكاسب.
فتح البنك المركزي مجالًا لتعطيل سداد قروض الأشخاص والشركات لمدة 6 شهور، وشجع البنوك على تمويل رأس المال العامل، وبعدما قدم حلولًا للشركات والمصانع المتعثرة، بادر أيضًا بطرح حلول ومزايا للأفراد الطبيعيين المحظور تعاملهم مع البنوك، كل ذلك في وقت يوجد على الأرض بالفعل مبادرات أخرى لتنشيط قطاعات بعينها في مقدمتها القطاع العقاري.
أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي عن تخصيص البنك المركزي 20 مليار جنيه للاستثمار ودعم البورصة، وهي خطوة لاقت صداها الإيجابي على مؤشرات السوق خاصة مع تزامنها مع بدء بنكي الأهلي ومصر ضخ 3 مليارات جنيه في شراء أسهم متداولة، وكان للإجراءات المصرفية رد فعل أكثر إيجابية من حسم ملف منظومة ضرائب البورصة.
ماذا بعد؟
هناك سيناريوهان لا ثالث لهما، الأول هو تماسك الاقتصاد المصري والإعداد للتعافي لما بعد كورونا، ولا نقصد بالتماسك هنا الاستقرار حول المؤشرات الكلية الراهنة، ولكن حدوث خسائر غير مؤلمة، تظهر في صورة تراجع محدود في معدلات النمو، وارتفاع غير كبير في البطالة، وتراجع ربحية الشركات لفترة محدودة (ربعين متتاليين على الأكثر)، وأن تتركز الخسائر الكبيرة في القطاعات المرتبطة بالنشاط السياحي والسفر، وأن ينعكس ذلك على سعر صرف الجنيه بصورة لا تعيد الدولار إلى مستويات أعلى من 16.5 جنيهًا، وأن تقل حدة تراجعات سوق المال.
هذا السيناريو وسط ما يمر به العالم سيكون انتصارًا كبيرًا، ولكن من الصعب تحقيقه دون شروطه الموضوعية الأخرى، وفي مقدمتها منح حوافز أكبر وأكثر سلاسة ووضوحا للمستثمرين والنظر في تحدياتهم الواقعية سواء مع السياسات الحاكمة لمناخ الاستثمار، أو لطبيعة التحركات الواجب اتخاذها في الوقت الراهن، لا يجب أن تتحرك الحكومة بمعزل عن القطاع الخاص وهي طالما نادت بأنه هو مفتاح النمو ورهان خطط الدولة. أضف إلى ذلك ضرورة تحرك السياسة المالية تجاه تحفيز القطاع الخاص والمشروعات الصغيرة والمتوسطة، وأي تكلفة ستتحملها الموزانة في هذا الوقت من أجل تحقيق هدف إنعاش القطاع الخاص وامتصاص مشاكله وتحدياته، فهي تكلفة لها عائد كبير ومهم، إن لم يضمن تنشيط الاستثمار المحلي، فهو على الأقل يعمل على استمرارية الشركات ويحافظ على العمالة.
أما السيناريو الثاني هو المجهول، ربما يكون هذا المجهول أفضل وربما يكون أسوأ، لكنه سيظل في خانة (ربما) التي تعني عدم اليقين وهو أكثر ما يكرهه المستثمرون.
رسالة إلى القطاع الخاص.. لا يوجد ما هو أهم من الحفاظ على الكوادر وهو نجاح في حد ذاته إن لم يكن أهم نجاح.