بقلم محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري نقلا عن الشرق الأوسط _ تتزايد أرقام المحاولات العلمية لتطوير لقاح ضد فيروس كورونا، حتى بلغت العشرات حول العالم، بجهود حثيثة تبذلها فرق من العلماء والمختصين، بدعم من الحكومات والمؤسسات الأكاديمية والشركات والمنظمات الخيرية.
إضغط لمتابعة جريدة حابي على تطبيق نبض
وقد عُقد مؤتمر للدول المانحة مطلع هذا الأسبوع في مدينة بروكسل، مستهدفاً تعبئة 8 مليارات دولار للمساهمة في تكلفة تطوير اللقاح وتصنيعه وتوزيعه، بعد إيجازه طبياً. وقد تتجاوز تكاليف اللقاح 25 مليار دولار، ورغم ضخامة التكلفة، لكنه لا يتجاوز خسارة يوم واحد في عالم سيتكبد 9 تريليونات دولار من إجمالي ناتجه المحلي جراء الجائحة.
وتحدد الدوائر الصحية عدداً يقترب من 100 من هذه المحاولات حتى الآن، باعتبارها الأكثر احتمالاً للاستمرار في جهودها، وصل 8 منها فقط لمرحلة الاختبارات الإكلينيكية على البشر.
وفي تقرير نشرته شبكة الأنباء «سي إن إن» أشار الدكتور أنتوني فاوتشي، مدير المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية بالولايات المتحدة الأمريكية، إلى احتمال توفر هذا اللقاح في غضون 18 شهراً.
وفي حين يذهب البعض إلى توفير اللقاح في فترة أقصر، يؤكد الدكتور بيتر هوتيز، عميد كلية طب البلاد الحارة في هيوستون، أن فترة الـ18 شهراً ستعتبر إنجازاً بطولياً إن حدثت. كما ذكر الدكتور ديفيد نابارو، المبعوث الخاص لهيئة الصحة العالمية صعوبة وتحديات تطوير اللقاح، بأننا لسنا بصدد التعامل مع نظم ميكانيكية، بل نظم حيوية، فالأمر كله يتوقف على كيفية استجابة الجسم للقاح، والتي تحددها نتيجة الاختبارات للفاعلية والأعراض الجانبية. ويذهب نابارو إلى احتمال آخر، وهو عدم تطوير لقاح على الإطلاق كما حدث مع فيروسات أخرى!
وبافتراض وجود إمكانية تصنيع هائلة لإنتاج العبوات المطلوبة من اللقاح، فور الموافقة عليه، وسريان قواعد كفؤة وعادلة لتوزيعه، فنحن بصدد 3 احتمالات بشأن اللقاح وفترات انتظاره؛ الاحتمال الأول تطوير اللقاح خلال 18 شهراً تقل أو تزيد عدة أشهر، والاحتمال الثاني زيادة المدة التي يستغرقها تطوير اللقاح عن ذلك بسنوات، والاحتمال الثالث ألا تنجح جهود تطوير اللقاح. فما العمل الواجب وفق هذه الاحتمالات عند صياغة وتنفيذ السياسات العامة؟
الأمر المشترك بين هذه الاحتمالات أن هناك فترة انتظار للقاح قد تقصر لشهور أو تطول لسنوات، وقد تمتد لأجل غير معلوم. في أثناء هذه الفترة، على كل المجتمعات في كل مكان، وفقاً لنابارو، أن تستعد لوضع يمكنها من الدفاع ضد فيروس كورونا كتهديد مستمر، وتتمكن في الوقت ذاته من ممارسة الحياة اجتماعياً واستئناف النشاط الاقتصادي، والفيروس بيننا.
ومع استمرار غياب اللقاح الذي يمكن تطعيم الناس به ضد الفيروس، تتزايد أهمية إجراءات الوقاية والتباعد الاجتماعي من ناحية، وتوفير العلاج المناسب، في إطار مساند للمنظومة الصحية في المجتمعات، من ناحية أخرى. وقد تواترت أخبار طبية طيبة عن أنواع من العلاج تخفف من آثار المرض بالفيروس، وتختصر من الفترات التي يقضيها المرضى في العلاج، ومنها ما تم إقراره مؤخراً من السلطات المختصة في الولايات المتحدة.
ولكي تمضي الحياة، يلزم التعايش بحزم وحرص مع الفيروس، بالحفاظ على الناس من مكارهه وإعانتهم على اكتساب المعيشة بما لا يعرض حياتهم للخطر، فليس هناك اقتصاد في التهلكة، بل هو كما قال شاعر النيل حافظ إبراهيم:
في الاقتصاد حياتُنا وبقاؤنا رغم المكابرْ
تربو به فينا المصانعُ والمزارعُ والمتاجرْ
لكن علينا إدراك أن ممارسة العمل في الصناعة والزراعة والتجارة وغيرها لم يعد من الممكن استمراره عملياً، إلا وفقاً لضوابط صحية صارمة وفعالة في هذا العالم شديد التغير.
ولندرك أيضاً أن اقتصاديات الواقع الجديد لها مقوماتها وروادها. والدروس المستفادة تتوالى من دول الشرق؛ ومنها كوريا الجنوبية التي تبنت مبكراً نظاماً محكماً للكشف عن الحالات المصابة بالتوسع في الاختبار، سواء من ظهرت عليهم أعراض المرض ومن لم تظهر؛ وكذلك التتبع لمخالطي المرضى وأماكن وجودهم باستخدام وسائل تكنولوجية متقدمة، وعزلهم بإحكام، وعلاجهم بإتقان.
كما أصدرت الحكومة أمراً عاماً بارتداء الكمامات الصحية الواقية والالتزام بقواعد التباعد الاجتماعي الذي طبّقه المواطنون بحرص وتجاوب، مع ممارستهم أنشطتهم دون انقطاع، كما انعقدت الانتخابات البرلمانية في موعدها وحقّق فيها حزب الرئيس نجاحاً ملحوظاً بأغلبية ستمكنه من استكمال برنامجه الاقتصادي.
ورغم فارق الإمكانات بين كوريا وفيتنام، فإن الأخيرة قد نجحت بتميز في السيطرة على العدوى ومنع انتشارها، فلم يصب بأذاها إلا 271 مريضاً حتى تاريخه، من دون حالة وفاة واحدة، في بلد تجاوز تعداد سكانه 95 مليوناً، وذلك من خلال تطبيق فعال لخطة إدارة أزمات، بالإغلاق والحظر الكاملين، بلا تهاون أو إهمال، في عموم البلاد. وقد مكّن هذا من إعادة الفتح التدريجي للنشاط وتخفيف مدروس للقيود، وقد ساعدهم ذلك أيضاً على تحجيم الآثار السلبية للأزمة.
وأرى مثالاً في الغرب يحاول الاستفادة من التجارب الدولية، تسعى لتطبيقه ولاية بنسلفانيا الأميركية، الواقعة في دولة فقدت أكثر من 68 ألفاً ضحايا لفيروس كورونا في أسابيع، وهو أكثر مما سقط من القتلى من أبنائها في سنوات حربها في فيتنام. وبلغ عدد الإصابات في بنسلفانيا 55 ألفاً، ووضعت جميع مقاطعاتها، البالغ عددها 67، تحت أمر البقاء بالمنزل بعلامة إنذار حمراء.
وقررت مؤخراً تحويل 24 مقاطعة إلى مرحلة ثانية أخفّ قيداً، بعلامة إنذار صفراء، اعتباراً من الأسبوع المقبل، لمعاودة الأنشطة الاقتصادية الأساسية عملها، مع قيود على التجمعات والالتزام التام باللوائح الصحية والتباعد الاجتماعي واستمرار إغلاق المدارس والجامعات وأماكن الخدمات والترفيه.
ولم يعلن بعد عن تاريخ العمل بالمرحلة الثالثة الخضراء التي أطلق عليها مرحلة العودة إلى «الواقع الجديد» وإن وُضعت لها إجراءات صحية وإدارية ملزمة، ستشكل مع غيرها معالم هذا الواقع الجديد.
وقد وضعت الولاية 6 إجراءات واجبة الاتباع تُطبقها على المقاطعات والأحياء السكنية، ولا يمكن السماح بالفتح التدريجي من دونها، على النحو الآتي:
– الاعتماد على الأدلة الرقمية في منهج العمل التنفيذي، فيمكن للمقاطعة التدرج في الفتح إذا كانت حالات الإصابة فيها تقل عن 50 حالة لكل 100 ألف نسمة.
– توفر الاحتياجات واللوازم الصحية، مثل الأجهزة ومعدات الاختبار والأدوية والملابس الواقية.
– فرض قيود على التجمعات بما لا يزيد على 25 فرداً ووفقاً لقواعد التباعد الاجتماعي المتعارف عليها.
– الالتزام باللوائح الجديدة في أماكن العمل سواء ما يخص أصحاب العمل أو المديرين أو العاملين، وتنفيذ ما أتى فيها من إجراءات تتعلق بالواجبات والحقوق.
– حماية الأكثر عرضة للعدوى في المجتمع.
– استمرار إجراءات المتابعة والإشراف بما يمكن من التدخل السريع.
ووفقاً لخبرات الدول التي نجحت في التعامل مع تداعيات الفيروس الصحية، وتلك التي عانت من أوجه قصور وتقصير في التصدي لها، تتجلى أهمية إجراءات الوقاية وتوفير العلاج. ومع الأهمية القصوى لاستمرار جهود تطوير اللقاح وأهمية تدعيمها بكل السبل، فاللقاح لن يغني عن سبل المقاومة الأخرى، وليس بديلاً للعلاج لمن مرض.
ويجب ألا يكون الناس مع اللقاح في حالة من ينتظر ما قد لا يأتي. وإلا أصبح حالهم على ما وصفه الروائي الآيرلندي صمويل بيكيت، في مسرحيته الرائعة «في انتظار جودو» في حوار بين بطليه إستروجان، الضجر الملول، وفلاديمير، الفيلسوف الحكيم، إذ قال الأول؛ لا أستطيع الاستمرار هكذا، فردّ صاحبه؛ هذا ما تظن!