محمود محيي الدين: أزمة كورونا مثل العاصفة.. بدأت من النهاية
استيعاب أزمة المديونية العالمية يتصدر خطة العمل الدولية.. قبل أن تصبح أكثر تعقيدا
ياسمين منير ورضوى إبراهيم _ كشف الدكتور محمود محيي الدين، مبعوث الأمم المتحدة لتمويل التنمية، في حوار استثنائي موسع مع جريدة حابي عقب إعلانه خطة عمل دولية من 6 محاور في اجتماع رفيع المستوى ضم أكثر من 50 من رؤساء دول وحكومات ومنظمات دولية، عن تقييمه لأسباب التفاوت الواضح في قدرة الدول على احتواء الأزمة الصحية العالمية، وفلسفة ومستهدفات خطة العمل التي سيتم البدء في تنفيذها الأسبوع الجاري في شكل ورش عمل مكونة من الدول الأعضاء بالأمم المتحدة، وبمشاركة من المؤسسات والخبراء المعنيين بكل محور.
اضغط لمتابعة جريدة حابي على تطبيق نبض
وتشمل المحاور الستة لخطة العمل الدولية: توفير السيولة العالمية والاستقرار المالي، إدارة الديون، مشاركة الدائنين من القطاع الخاص، التمويل الخارجي والنمو الشامل، علاوة على مكافحة التدفقات المالية غير المشروعة، وأخيرًا كيفية التعافي بشكل أفضل من أجل الاستدامة.
كما تطرق الحوار إلى التحولات الجوهرية التي تشهدها عدة قطاعات حيوية مثل السياحة والرعاية الصحية، وكذلك قطاع التأمين الذي بات يحمل فرصًا واسعة للنمو خاصة بالدول التي لديها اعتياد على الملاحقات القانونية والقضائية بهدف التعويضات، إلى جانب طبيعة الفرص الاستثمارية والقطاعات الأكثر جذبًا للاستثمار في ظل حالة عدم اليقين السائدة حاليًا.
واستعرض محيي الدين سيناريوهات التعافي المرتقب للاقتصاد العالمي، وعلاقتها بالمنحى الصحي والقدرة على السيطرة والتعايش مع تداعيات الوباء الصحية، ومدى الالتزام بالقواعد الرقابية التي ستفرضها الحكومات على منشآتها وعلى المصانع والمستثمرين وأرباب العمل تجاه العاملين لديهم وأيضًا تجاه المتعاملين معهم، وكذلك القواعد التي ستفرض على الأفراد، مؤكدًا أن هذه الأمور أصبحت جزءًا أساسيًّا في أي حديث عن تعافي الاقتصاد.
ولم يبخل محيي الدين في الحديث عن الوضع المصري وفرص الاستفادة من التغيرات العالمية الحالية، وكذلك إلقاء الضوء على توقعات مؤشرات الاقتصاد العالمي والتي من المرجح أن تشهد مراجعات جديدة خلال الفترة المقبلة.
حابي: في البداية نريد إلقاء نظرة عامة على تقييمك للأوضاع حاليًا وما تم اتخاذه من إجراءات لمواجهة جائحة فيروس كورونا.
محيي الدين: الوضع يبدأ بما يرتبط بالجانب الصحي منه لأنه هو المتسبب فيما نعاني منه الآن من مشاكل حياتيه، ووفقًا لآخر تقديرات لمنظمة الصحة العالمية يوجد حاليًا ما يقترب من 5 ملايين و400 ألف حالة إصابة بفيروس كورونا والأعداد ما زالت في تزايد، وللأسف يوجد نحو 340 ألف من الضحايا الذين فقدوا أرواحهم جراء هذه الجائحة، وإلى هذه اللحظة وفقًا للمصادر الطبية لم يستقر بعد على اللقاح وكذلك لم يستقر أيضًا على ما يمكن التعرف عليه بأنه العلاج الناجع لهذه الجائحة الصحية.
العالم يشهد تفاوتًا كبيرًا في التعامل مع الأزمة.. وتجارب فيتنام واليونان الأبرز رغم ضعف الموارد نسبياً
والعالم شهد قدرًا كبيرًا من التفاوت في قدرته على التعامل مع الأزمة، وقد رأينا تجارب كان لها التميز مثل تجربة دولة فيتنام التي استطاعت السيطرة على الأمر بشكل مبكر، ووفقًا لإمكانياتها استخدمت طريقة مختلفة عما تم استخدامه في كوريا على سبيل المثال التي اعتمدت على تقنية تكنولوجية عالية وذلك من خلال تكثيف الاختبارات.
وتتسم هذه الدول وكذلك الدول المحيطة بها بأنها تتميز بالتنظيم العالي والالتزام الشديد بالقواعد، كما أنها تعرضت من قبل لمشكلات صحية مثلما حدث في أنفلونزا الطيور وH1N1 وسارس، لذلك لديها خبرة سابقة في التعامل مع هذه الأزمات، وقواعد جيدة للتباعد الاجتماعي ودرجة عالية من الالتزام في اتباع القواعد الصحية المنصوص عليها.
وبالانتقال من قارة آسيا الى أوربا، فنجد أن اليونان من الدول المتميزة، فقد سمعت نقاشًا لرئيس الوزراء اليوناني نهاية الأسبوع عن تجربتهم المتميزة، وبالفعل استطاعت اليونان بالمقارنة بالدول الأوربية الأخرى رغم ضعف مواردها نسبيًّا عنهم، أن تقوم بعمل جيد في هذا الشأن.
حابي: هل ترى أن التفاوت بين قدرات الدول في التعامل مع الأزمة يرجع إلى طبيعة الإجراءات التي اتخذت أم درجة الالتزام بها؟
محيي الدين: الإجراءات متعارف عليها ومتاحة على شبكة الإنترنت ولكن العبرة في درجة الالتزام بتنفيذ هذه الإجراءات.
وهذا ينقلنا إلى نقطة هامة للغاية، فنحن حاليًا مقدمون على عالم سوف تحركه اللوائح والإجراءات.
إجراءات احتواء الجائحة متاحة على الإنترنت ولكن العبرة بدرجة الالتزام في التنفيذ
وما لفت نظري في حديث رئيس الوزراء اليوناني عن التجربة هو أنه لم ينتظر حدوث إصابات في بلده حتى يبدأ في اتخاذ الإجراءات، كما أنه جعل المتحدث الرسمي الوحيد في هذا الشأن هو المسؤول عن الصحة والقائم بأعمال المستشار الطبي للحكومة، فهو شخص متخصص في هذا المجال ومتخرج من جامعة هارفرد، مما يشير إلى وجود الالتزام الصارم بالقواعد الطبية في اليونان.
هذا وقت العلم والخبرة والالتزام بالقواعد الطبية الصادرة عن جهة رسمية ذات كفاءة ومصداقية
كما أن هناك تجارب جيدة أخرى مثل النمسا، وكذلك ألمانيا تعتبر من التجارب الجيدة، وقد رأينا المستشارة الألمانية تتحدث بشكل علمي في تصريحاتها.
فهذا وقت العلم والخبرة والالتزام بالقواعد الطبية الصادرة عن جهة رسمية ذات علم ومصداقية.
في حين أن الوضع في غرب العالم سواء في أمريكا الشمالية أو الجنوبية ليس جيدًا على الإطلاق، كما بدأنا مؤخرًا نشهد تزايدًا في عدد الحالات بإفريقيا.
أي حديث عن التعافي الاقتصادي يرتبط بمدى القدرة على السيطرة والتعايش مع تداعيات الوباء الصحية
والسبب وراء ما أقول هو أن أي حديث عن التعافي الاقتصادي هو مرتبط أساسًا بمدى القدرة على السيطرة والتعايش مع تداعيات الوباء الصحية، وإلى أي مدى سيكون هناك التزام بالقواعد الرقابية التي ستفرضها الحكومة على منشآتها، بمعنى عدم القدرة على دخول أي منشأة حكومية دون الالتزام بالتباعد الاجتماعي ولبس الكمامة وغيرها من الإجراءات الوقائية.
كما سيتم فرض التزامات على المشغلين والمصانع والمستثمرين وأرباب العمل، تجاه من يعمل لديهم وأيضًا تجاه من يتعامل معهم بما في ذلك مستهلكو بضائعهم وخدماتهم، وفي كل هذه الأمور يوجد لوائح وقواعد تفصيلية.
وكذلك سيتم فرض لوائح على الأفراد في ممارسة حياتهم العامة، سواء في ركوب المواصلات أو ارتياد الأماكن المفتوحة أو غير ذلك، فنحن إذن بصدد عالم جديد يتسم بالقواعد الرقابية الشديدة.
حابي: هل القواعد الرقابية الشديدة أمر قابل للتطبيق في كل الدول؟
محيي الدين: بالتأكيد وجود القواعد الرقابية أمر هام، ولكن ما أخشاه أنه عندما تحدث الأزمات يكون هناك نوع من المبالغة، وبالفعل رأينا ذلك في أكثر من حالة، ويمكن الاستشهاد بحالتين، الأولى هي ما شهدته أكواد المباني في عدد من البلدان ومن بينهم مصر عقب زلزال 1992.
نحن بصدد عالم جديد سيتسم بالقواعد الرقابية والتعليمات الإدارية المشددة
فوفقًا لبعض المتخصصين من أهل القانون والهندسة فإن كود البناء الصادر في هذا التوقيت كان مبالغ فيه، ومن الواضح أنه كان يسعى الحرص على سلامة ومتانة المباني ولكن في الوقت نفسه طالب بعدد من الاشتراطات والقواعد التي قد لا يكون هناك حاجة إليها من الناحية الهندسية، ولكن رأى المشرع ذلك لمزيد من التحوط.
والمشكلة أنه عندما تحدث نوع من المبالغة في هذا الشأن، يكون هناك نزعة مقابلة للتحايل على مثل هذه القواعد وعدم دقة الالتزام بها، كما تفتح المجال للمخالفات والتجاوز والفساد.
المثال الثاني هو ما حدث مع “دود- فرانك” وهي اللوائح المالية الصادرة عقب الأزمة المالية العالمية، فهي إلى الآن تحتوي على بعض البنود المعقدة التي لا يمكن تطبيقها وتحتاج إلى لوائح تفسيرية كثيرة جدًّا، ولكن هذه هي طبيعة ردود الأفعال عند وقوع أزمات شديدة من هذا النوع.
وبالتالي أتوقع أن يكون هناك مزيد من الرقابة الورقية واللوائح في عدد من البلدان، تغطي تحركات المواطنين من بداية خروجهم من المنزل وحتى العودة إليه لأي غرض كان، سواء للدراسة أو العمل أو ركوب المواصلات أو التعامل مع المصالح الحكومية وكذلك التنزه مع الأصدقاء، ولكن مدى تطبيق هذه اللوائح هو الذي سيفرق بين دولة وأخرى.
حابي: ما هي الضوابط التي سيتم فرضها من وجهة نظرك على سفر والتنقل بين الدول؟
محيي الدين: فيما يتعلق بالسفر بين الدول، لفت نظري أيضًا في حديث رئيس الوزراء اليوناني إعلانه اعتزام إبرام بروتوكولات مع بعض الدول ذات نفس القدر من الإنجاز في التعامل مع المشكلة الوبائية، أي فتح ما يسمى بالممرات الخضراء الآمنة مع عدة دول بما يسمح بحرية السفر فيما بينها مثلما حدث بين نيوزيلاندا وأستراليا، فبعد أن حققت نيوزيلاندا إنجازًا جيدًا في السيطرة على انتشار فيروس كورونا، قررت فتح مجال السفر مع أستراليا باعتبارهم في نفس الوضع.
اليونان تعتزم فتح ممرات خضراء آمنة مع دول منعت انتشار الفيروس
وعندما سئل رئيس الوزراء اليوناني عن تعاملهم مع الزائرين من أمريكا قال إن الولايات المتحدة ما زالت متخلفة في هذا الشأن مقارنة بما حققته دولته.
وبالتالي تظهر المفارقة، فمتوسط دخل اليونان أقل بكثير من أمريكا وكذلك أضعف اقتصاديًّا، ومنذ عدة أسابيع فقط كانت تتهافت على المسافر الأمريكي، ولكنها الآن تتعزز لأنها أصبحت في موقف صحي أفضل بكثير من الموقف الأمريكي.
وفي ظل التحول إلى نمط العمل من المنزل، يمكن للشخص إنهاء عمله في أي مكان، وهذا سينطبق على أعمال كثيرة، فبخلاف الوظائف التي تسمح بالعمل عن بعد من خلال أجهزة الاتصالات، بدأت وظائف أخرى في التدرب على أنظمة عمل جديدة مثل العلاج الطبي عن بعد وكذلك نظام التعليم عن بعد.
وهذا ما دفع رئيس وزراء اليونان في كلمته للقول إنه في هذا العالم الجديد من يريد الاستمتاع بالأماكن الجميلة والتمتع أيضًا بخدمة صحية متميزة فعليه أن يأتي لدولته بعد أن أثبتت جدارتها في الشأن الصحي. وهذه هي الرسالة التي من الضروري أن تستفيد مصر منها، لأنها دولة قادرة على استيعاب ليس فقط 10 أو 13 ملايين سائح كانت تستقبلهم، بل قادرة على استيعاب ما يزيد على 20 أو 30 مليون سائح.
مصر قادرة على استيعاب أضعاف معدلات السياحة السابقة للأزمة بشرط الالتزام بالضوابط الصحية والنظافة
وقدرة مصر على أن تكون مكان آمن للسياحة مرهون بالالتزام بالضوابط الصحية وضوابط النظافة، ففيما سبق كان الحديث يقتصر على الأمن وتهيئة الأماكن وضمان نظافتها وتوفير معاملة طيبة للسائحين دون تحرش أو مضايقات وبالطبع الأمن والتفتيش على المطارات للأغراض الأمنية، ولكن حاليًا يوجد ضوابط صحية سيتم التفتيش عنها بنفس قدر الأهمية.
وهناك مثال آخر قبل الانتقال إلى الملف الاقتصادي، فبحكم طبيعة عملي كنت أسافر كثيرًا ولفترات طويلة، وفي الفترة الأخيرة تلقيت رسائل من الفنادق التي كنت أتعامل معها تفيد بأنها عندما تعود للعمل سيكون لديها كل الضوابط الصحية اللازمة، وهذا تحول جوهري في الرسالة التسويقية، حيث لم تعرض مميزاتها التقليدية مثل المطاعم أو حمامات السباحة والترفيه والخدمات الإضافية، ولكنها ركزت على الوعد بعنصري الصحة والنظافة رغم أنهما كانا من الأمور المسلم بها منذ عدة شهور.
تحول جوهري في الرسائل التسويقية للفنادق مدعوم باتفاقيات شراكة مع معامل ومستشفيات شهيرة
ولتأكيد الفنادق على مصداقية رسالتها الجديدة، تم ذكر اسمين أو ثلاثة من المعامل الطبية والمستشفيات الشهيرة حول العالم التي أبرم معها اتفاقات للمشاركة في المستقبل، بحيث يكون من ضمن باقة الخدمات المقدمة توفير خدمات علاجية متميزة في حال مرضت.
كما أن عدة دول بمنطقة البحر المتوسط تروج أنها ستتحمل تكلفة السياح إليها إذا مرضوا وهم هناك، فهي لن تستقبل مريضًا ولكنها ستتكفل بك إذا مرضت، وهذا بعد جديد يتعلق بالتأمين.
عدة دول بمنطقة البحر المتوسط تروج التزامها في المستقبل بتحمل تكلفة السائح إذا مرض على أراضيها
فهذا الحديث يستهدف توسيع المدارك للتعرف على التغيرات الجديدة حول العالم، فبخلاف التغيرات التي ستحدث بقطاع الفنادق ونشاط المستشفيات، سيلعب قطاع التأمين أيضًا دورًا كبيرًا في المستقبل.
حابي: هل تقصد نشاط وثائق التأمين التقليدية أم ظهور أنماط جديدة؟
محيي الدين: سيكون هناك مجال لتغطيات جديدة خاصة بالدول التي اعتادت على رفع القضايا ضد الشركات أو غيرها بغرض التعويضات، ففي أمريكا على سبيل المثال يمكن للشخص إذا تعرقل في الطريق أن يرفع قضية على البلدية التي نفذت الرصيف الذي تسبب في عرقلته، لذلك هناك اعتياد على المخاصمات القانونية والتقاضي وهناك محامون متخصصون في هذا المجال.
التحول للعمل عن بعد يفتح المجال لجذب سياحة جديدة.. وكفاءة المنظومة الصحية العنصر الأهم
لذلك يتخوف الكثير في مجالات العمل من العودة للنشاط حتى لا يتعرض لمخاطر الاتهام بالتسبب في إصابة أحد بالفيروس وتصبح مشكلتهم أكبر، وهذا ما يدفع حاليًا للتعامل مع شركات التأمين في هذا الشأن.
وبالتالي هناك قطاعات هامة أصبح مستقبلها مرتبطًا بأمرين، الأول هو البعد الصحي، والثاني يتعلق باللوائح الجديدة المرتبطة بنشاط القطاع.
حابي: بالانتقال إلى ملف التمويل والاقتصاد.. ما هي آليات التعامل مع الأزمة المالية الحالية؟
محيي الدين: كل الأزمات المالية السابقة كان التخوف من تفاقمها هو التأثير على الاقتصاد، وبالتالي التخوف من تأثير الاقتصاد على حياة الناس ومستوى معيشتهم وصحتهم وتغذيتهم، في حين أن الأزمة الراهنة بدأت من نهاية الحلقة وتسببت منذ بدايتها في التأثير على البشر وحياتهم وتعرضهم لمشاكل حياتية كبيرة، كما تأثر اقتصادهم بسبب الإغلاق وكذلك ظروف العرض والطلب، وأيضًا لهذا الأمر تداعيات مالية، وهذا هو الفارق الجوهري بين الأزمات الحالية والأزمات المالية السابقة.
في الأزمات المالية السابقة.. خشينا تأثر الاقتصاد وبالتالي حياة البشر
فسواء أزمة أمريكا اللاتينية في الثمانينيات، أو أزمة الأسواق الناشئة في التسعينيات أو أزمة العالم في العقد الأول من هذا القرن عام 2008، فعلى مدار الأربعين عامًا السابقة اختبرنا أزمات مالية وأزمات ديون كنا نخشى من تأثيرها على الاقتصاد ثم حياة البشر، بينما تمثل فيروس كورونا عاصفة كاملة أثرت على الحياة والاقتصاد والتمويل.
حابي: هل اختلاف طبيعة الأزمة المالية الراهنة تحتاج معالجات مختلفة؟ وما هي؟
محيي الدين: تحدثنا من قبل على أن توقعات عودة نشاط الاقتصاد تأتي على شكل حرف U أو V أو W، ولكن سيناريو حرف V ليس له محل الآن من الإعراب، فنحن بالفعل دخلنا في مرحلة ركود عالمي والخروج منه لن يكون سريعًا أو سهلًا.
فسيناريو حرف V يمثل شكلًا بيانيًّا يعبر عن هبوط سريع للاقتصاد يعقبه تكوين نقطة ارتكاز تمثل قاع الهبوط ثم الارتداد منها سريعًا، في حين يمثل حرف U نزولًا بطيئًا وصعودًا بطيئًا مع تكوين قاع ليس كبيرًا، لكن من الواضح أن الاقتصاد تراجع بشكل سريع ولكن مع صعود بطيء في شكل يجمع بين حرفي V وU.
في حين يكمن التخوف من السيناريو الثالث والمتمثل في حرف W، والذي يمثل هبوطًا سريعًا ثم تحسنًا نسبيًّا يعقبه ردة نحو الهبوط مرة أخرى ثم الصعود من جديد.
سيناريوهات التعافي الاقتصادي مرتبطة بمنحنى المجال الصحي.. ونحذر من الارتداد بعد التحسن
وكل هذه الأشكال مرتبطة بشكل المنحنى المقابل لها مثل المرآة في مجال الصحة، فحرفV يقابله نفس الشكل مقلوبًا وكذلك حرف U، بينما يقابل السيناريو W الشكل M، والأخير على سبيل المثال يعبر عن صعود كبير في عدد الإصابات ثم تحسن يعقبه صعود جديد في حالات الإصابة ثم تراجعها مرة أخرى.
وعلينا الأخذ في الاعتبار أن هذه الأحرف تمثل أداه للتبسيط وتعبر عن تصور للقادم، فلا أحد يملك يقين بما سيحدث.. فنحن نعيش حاليًا في حالة عدم اليقين أو كما يطلق عليه في الاقتصاد Uncertainty.
العالم يعيش حالة عدم يقين كاملة .. والشيء الوحيد الواضح هو عدم الوضوح!
وحالة عدم اليقين تختلف كثيرًا عن المخاطرة، حيث يمكن احتساب المخاطرة أو التعرف على احتمالات حدوثها، فعند اتخاذ قرار وفقًا لحسابات المخاطرة يمكن القول إن احتمالات حدوث الخطر تمثل 10٪ أو 90٪ أو غيرها من النسب، في حين أنه في حالة عدم اليقين يكون الحديث عن أمور غير واضحة، بل إن الشيء الوحيد الواضح فيها أنها غير واضحة، وكل الاحتمالات واردة.
ومثال على ذلك، هل كان يمكن لأحد منذ عدة أشهر أن يتخيل أن دولتي فيتنام وكوريا سيتفوقان بطرق مختلفة في التعامل مع الأزمة الصحية العالمية على دولة بحجم الولايات المتحدة الأمريكية واقتصادها وإمكانياتها، كما تتجسد المفارقة العجيبة أن تفقد أمريكا من الضحايا والأنفس خلال الأسابيع الماضية أعدادًا تفوق القتلى من أبنائها في الحربين الكورية والفيتنامية.
السياسة والاقتصاد لا يحملان اعتبارات الثبات.. وتفوق دول صغيرة اقتصاديا على دول كبيرة في احتواء الأزمة أبرز مثال
وهذا درس مهم جدًّا، وهو أن السياسة والاقتصاد لا يحتملوا اعتبارات الثبات بل التغير المستمر.
كما أن دولة مثل اليونان أصبحت تضع شروطًا لمن يدخلها وفقًا لقواعد، فرغم أن هذا أمر محزن بالنسبة لها فهي بالتأكيد كانت تفضل تدفق أكبر للسياحة من مختلف الدول وخاصة من الولايات المتحدة الأمريكية التي يتسم الزائرين منها بالإنفاق الشديد، ولكن هذا ما حدث.
معدل النمو العالمي مرشح للتراجع بنسب تفوق 3% .. وصندوق النقد الدولي يراجع توقعاته حاليًا
وعلى صعيد تقديرات الوضع الاقتصادي العالمي، صدر في أبريل أرقام من عدد من الجهات الدولية المختلفة، منها توقع صندوق النقد الدولي انخفاض معدل النمو العالمي بنسبة 3٪، كما رجحت منظمة العمل الدولية أن عدد من سيفقدون أعمالهم سيزيد على300 مليون مواطن، كما توقعت منظمة التجارة العالمية أن تنخفض حركة التجارة الدولية ما بين 13 إلى أكثر من 30٪ مقارنة بالعام الماضي.
كذلك توقع البنك الدولي انخفاض نسبة تحويلات العاملين في الخارج بما لا يقل عن 20٪، كما رجح أن عدد الذين يعانون من الفقر المضجع سيدور بين 49 مليون إلى60 ميلون فقير فقرًا مضجعًا، علاوة على انخفاض تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر بما لا يقل عن 35-40٪.
من الواضح أن مبادرات إدارة الديون غير كافية خاصة لدول تعاني مشاكل ولم تحظ بدعم مماثل للأقل دخلًا
ولكن كل هذه الأرقام مجرد توقعات وتقديرات، ولكن المؤكد دون الدخول في المزيد من التقديرات فإن معدل النمو العالمي سيتراجع بنسبة أكبر بكثير من 3٪ التي توقعها صندوق النقد، ونحن على علم أن صندوق النقد الدولي يراجع أرقامه حاليًا وهو أعلن بالفعل عن ذلك، وبالتالي سينخفض معدل النمو عن النسبة المرجحة، علمًا أن تقديرات النمو العالمي قبل الأزمة كانت تقترب من 3٪ وهو رقم كان محزنًا للجميع ولديهم كل الحق في ذلك فهو يمثل معدل نمو ضعيف للغاية.
وعلى ذلك فإن هذا الوضع الصحي والاقتصادي سيكون له تداعيات خطيرة جدًّا وهامة للغاية على عنصري التمويل والديون، ولهذا عقد المؤتمر رفيع المستوى يوم الخميس الماضي الذي نوهت بوابة حابي عنه.
وهذا المؤتمر هام جدًّا، حضره أكثر من 50 من رؤساء الدول والحكومات فضلًا عن عدد من رؤساء المؤسسات المالية الدولية والمنظمات الدولية بالإضافة إلى كل منظمة الأمم المتحدة المشاركة في هذا الحدث الضخم.
حابي: أعلنت خلال المؤتمر عن خطة عمل من 6 محاور لتمويل مواجهة أزمة كورونا.. هل توضح طبيعة هذه المحاور وآليات تنفيذها؟
محيي الدين: القصة هنا مرتبطة بالسعي لتنفيذ عدة أشياء يمكن تلخيصها في ثلاث كتل أو مجموعات.
الكتلة الأولى تتعلق بوجود أزمة بالمديونية الدولية في طور التكوين وبالتالي يجب العمل على احتوائها قبل أن تصبح أزمة أكثر تعقيدًا، ليس فقط على صعيد الدول الأقل دخلًا بل أيضًا هناك عدد من الدول متوسطة الدخل، والدول ذات الأسواق الناشئة التي تعاني في هياكل مديونياتها ومدى قدرتها على السداد مع تراجع إيراداتها، وكذلك هيكل الدين الذي يمثل مكونًا كبيرًا منه مجموعة من ديون تجارية قصيرة الأجل.
جدولة الديون لها ضوابط.. ومن يمتلك القدرة على السداد عليه الالتزام حفاظا على المصداقية
وهذا الأمر تم تناوله بالمحاور الثلاثة الأولى من خطة العمل والمتمثلة فيما يرتبط بالاستقرار المالي الدولي واستقرار هيكل الديون وكذلك دور القطاع الخاص المانح للتمويل، وهذه المحاور كانت محل نقاش وتعليقات هامة خلال المؤتمر، علمًا أن هناك عدة مبادرات صدرت عن عدد من مؤسسات مالية دولية وكذلك مجموعة العشرين ومن غيرهم تتعلق بوجود فترات سماح وإيقاف تحصيل بعض الأقساط لفترة معينة حتى تستخدم عوائد هذه الأقساط في الصحة والإنفاق العاجل المطلوب.
ولكن من الواضح أن ما تم حتى الآن ما زال غير كافٍ، خاصة بالنسبة للدول التي لم تحظَ بأي ترتيبات مماثلة للدول الأقل دخلًا، رغم معاناة بعضها من مشكلات شديدة على صعيد القدرة على سداد الديون، وفي الحقيقة بعض هذه المشكلات كانت قائمة من قبل الأزمة الصحية العالمية ولكن الأخيرة تسببت في تفاقم أو زيادة حدة المشكلات.
حابي: في تقديرك ما هو الأفضل خلال هذه المرحلة.. الالتزام والتباهي بسداد الديون مثلما حدث في أزمات كبري سابقة أم السعي وراء جدولة الدين وتوفير السيولة لمواجهة تداعيات الجائحة؟
محيي الدين: توجد ضوابط لهذا الأمر، فالدول ذات القدرة على السداد من مصلحتها الالتزام بالسداد، فالأمر يشبه التعامل مع المتعثرين في البنوك التجارية، فإذا كان لدى شخص القدرة على السداد لماذا إذًا سيزاحم من لديه مشكلة بالفعل.
كما أن هناك اعتبارات خاصة للحفاظ على المصداقية، والمصداقية لها ثمن في سوق المال سواء على صعيد التصنيف الائتماني أو القدرة على جذب التمويل وهذه أمور يجب وضعها في الاعتبار.
والمسألة هنا أن بعض الدول قد ترى أن هناك إقبالًا على عمليات الجدولة ما يشجعها على الانضمام للركب، ولكن الجميع متابع ومراقب جدًّا في هذا الشأن.
وهناك شيء هام في هذا الصدد، فالدول الناصحة في عمليات التمويل تأخذ في اعتبارها أسعار الفائدة والصرف وتغيراتهم، وتقوم بإجراءات التحوط من تقلبات سعر الفائدة والصرف، ومنها من يقوم بإبرام عقود تتيح له فرصة السداد المعجل للدين، وهو أمر غير متاح في كثير من العقود التي يتم بها احتساب تكلفة التمويل خلال مدة معينة وعلى ذلك لا يقبل الدائن خصم جزء من هذه التكلفة في حالة السداد قبل انتهاء المدة المتفق عليها.
بنوك أوربية بدأت تتقاضى رسومًا على الودائع تصل إلى 2100 يورو شهريًّا حال إيداع أكثر من 4 ملايين يورو
فالفائدة حاليًا تصل إلى صفر، كما أخبرني صديق في أوربا أن البنوك هناك حاليًا تضع نظامًا لتحصيل رسوم من المودعين بدلًا من دفع فوائد، بحث يتم إعفاء من يمتلك أقل من 100 ألف يورو من سداد هذه الرسوم، في حين يتقاضى البنك شهريًّا نحو 70 يورو في حالة إيداع ما بين 100 إلى 200 ألف يورو، وترتفع قيمة الرسوم لتصل إلى 2100 يورو شهريًّا في حال إيداع أكثر من 4 ملايين يورو.
ففيما سبق كانت البنوك تتهافت على الودائع وتمنح المودعين أموالًا مقابل ذلك، في حين أن الأمر تحول إلى ما يشبه تأجير خزنة في أحد البنوك مقابل دفع رسوم لاستغلالها شهريًّا أو سنويًّا، فنحن أصبحنا على أعتاب عالم جديد.
الاستثمار في سندات إنجلترا ذات الفائدة السلبية رهان على صعود قيمة الإسترليني في ظل استبعاد الاحتفاظ بالنقد خارج البنوك
كما أصدرت إنجلترا منذ عدة أسابيع سندات ذات فائدة سلبية، وبالتالي أصبح من يقرض إنجلترا يحصل على رقم سالب، وهذا يمكن توضيحه ببساطة حيث إن متوسط سعر الفائدة يدور حول صفر حاليًا، كما أن شراء هذه السندات يمثل نوعًا من المراهنة على ارتفاع قيمة الجنيه الإسترليني في المستقبل، وبالتالي سيتم تعويض خسائر الفائدة في قيمة العملة.
وبطرح سؤال لماذا لا يتم المراهنة على العملة من خلال الاحتفاظ بها ستكون الإجابة أن البنوك أصبحت تحصل رسومًا نظير الاحتفاظ بهذه السيولة، كما أنه من المستبعد شراء خزنة والاحتفاظ بالنقدية في المنزل، فهذا السلوك غير متبع في مختلف دول العالم.
حابي: متى تكون الدول في حاجة لإعادة جدولة ديونها خاصة مع ارتفاع التكاليف التي تتحملها لإدارة الأزمة الحالية؟
محيي الدين: كل التحركات ستصاحبها تكلفة، فلا يوجد شيء مجاني، وإعادة جدولة الديون أيضًا لها تكلفة، كما سيكلفك إمكانية تمويل جديدة.
وأرى أنه لا توجد نظرية عامة لإعادة جدولة الديون، ولا يوجد ممارسة أفضل لإعادة الجدولة، ولكن هذا الموضوع يدخل في إطاره وفقًا لقواعد ومبادئ، وينظر لكل حالة على حدة وفقًا لهذه القواعد والمبادئ.
وهناك اعتبارات عديدة تدخل في قواعد إعادة هيكلة كالملاءة وسابقة وتاريخ التعامل والتوقعات المستقبلية، وهي عوامل تختلف من حالة لأخرى.
حابي: ما هي المجموعة الثانية لأهداف خطة العمل التي أعلن عنها في المؤتمر رفيع المستوى؟
محيي الدين: المجموعة الثانية تتعلق بتدفقات الأموال غير المشروعة، وعمليات التهرب الضريبي، وعمليات استخدام الحيل المحاسبية للتهرب الضريبي.
ومن المعروف أن عددًا من الدول وفي إفريقيا على وجه التحديد ما يخرج منها من مال أكثر بكثير مما يتدفق إليها من أموال المعونات والاستثمارات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة.
وبالتالي نحن نريد إغلاق هذا المجال من مجالات التسرب، لأنه لا يصح أن دولًا تعاني من مشكلات على مستوى الفقر والبطالة والنمو والتمويل، ثم يذهب جزء مما تعبئه من الموارد المحلية أو مما يأتي من تدفقات مالية من الخارج ليتحول بطرق غير مشروعة عبر القنوات غير المشروعة ليحرم البلاد من مصادر التمويل المطلوبة.
حابي: ماذا تقصد هنا بالتدفقات النقدية غير المشروعة، هل تقصد أموال الإرهاب والمخدرات وعمليات غسل الأموال؟
محيي الدين: اقصد كل أنواع التدفقات المالية غير المشروعة، وجميعها لها تعريفات في سجلات المؤسسات الدولية والمنظمات الدولية، سواء أتت من مصدر غير مشروع أو تم نقلها للخارج عبر وسيلة غير مشروعة، أو الاثنين معًا.
فقد يكون مصدر الأموال مشروعًا مثل التصرف في أحد الأصول ولكن تحويلها لخارج البلاد بآلية غير مشروعة، وهنا تكون هذه الأموال ضمن التدفقات غير المشروعة، والتهرب الضريبي من أهمها، وهذه الأمور يجب التعامل معها بشدة.
كما أن هناك عدة قرارات صادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ومجموعة العشرين والعديد من المنظمات الأخرى، وهي تحتاج للتطبيق.
حابي: ماذا عن المجموعة الثالثة من الأهداف؟
محيي الدين: المجموعة الثالثة والأخيرة تختص بكيفية تمويل النمو والتنمية المستدامة حتى يكون هناك نوع من أنواع السرعة في التعافي، وأن يكون هناك التزام جيد بقواعد التعافي، وذلك يتحقق بوجود التمويل والاستثمارات ونمو اقتصادي يشتمل الكافة، بالإضافة إلى التنمية المستدامة.
من يظن أن النمو المستدام والأبعاد البيئية وتغيرات المناخ أمور تأتي في مرتبة لاحقة مخطئ
وفيما يتعلق بموضوع التنمية المستدامة، أرى أن الجوائح الطبية ستؤثر على الأوضاع، وأنها أيضًا سترتبط بتغييرات المناخ والاستثمار المؤثر، وكل ما يرتبط باحتواء مشكلات تغيير المناخ وتأثيراتها.
الأبعاد البيئية في مقدمة توجيه الاستثمار في المستقبل، وليست هذه الأمور مثل الأمور التي تترك على أنها في المقام الثاني أو الثالث أو الرابع على مستوى الأهمية، ومن يظن ذلك مخطئ وغير فاهم وغير متابع.
وهذا هو النمو الشامل والمستمر الذي يؤمن الناس ويحافظ على البيئة، هناك مجموعة من القواعد الملزمة بالإفصاح عن تغييرات المناخ وتأثيرها، وهناك عدة دول وضعت لوائح تنظم ذلك من خلال البنوك المركزية.
هذه اللوائح والقواعد ستخلق مجالًا لمنع أحد البنوك منح تمويلات لمشروعات من شأنها إفساد البيئة كتصنيع الأكياس البلاستيك التي تستخدم لمرة واحدة على سبيل المثال، فمثل هذه المشروعات الضارة بالبيئة أصبحت بالفعل ممنوعة في دول كثيرة، وهنا سأستشهد بالهند وكينيا وليست اليابان، فصعوبة تحلل هذه المواد وضررها بالبيئة دفع تلك الدول لتمويل المشروعات التي يمكنها إخراج منتج صالح للإستخدام أكثر من مرة.
حابي: هل مواجهة المشروعات الضارة بالبيئة وتطبيق الأبعاد البيئية على الاستثمار تتطلب من الدول وضع قواعد أو مواصفات محددة للمشروعات المسموح بالترخيص لها، أم أن الأمر يقتصر على تقييد فرص تمويل مثل هذه المشروعات عن طريق لوائح البنوك المركزية كما ذكرت في المثال السابق؟
محيي الدين: هناك صور متعددة لتقييد التوسع في المشروعات الضارة بالبيئة وتغييرات المناخ، وإتاحة فرصة أكبر للمشروعات الأكثر نفعًا، ومنها قواعد الحصول على التمويل أو سن تشريعات واضحة لتجريم تداول سلعة أو منتج ما.
فمثلما توجد دول تسمح بتداول المخدرات الطبية هناك دول أخرى لديها قوانين تجرم ذلك، كما توجد دول تجرم تداول الخمور في حين تسمح أخرى بتداولها، وهناك عدة دول إفريقية أصبحت تجرم تداول البلاستيك مثل كينيا.
فعلى سبيل المثال أصبح إنشاء مصنع أسمنت جديد يعتمد على استخدام الفحم ممنوعًا في عدد كبير جدًّا من الدول على مستوى العالم خلال الوقت الحالي نظرًا لما يسببه من تلوث بالبيئة، وذلك لأن الفحم أكثر انبعاثًا للغازات الضارة بالبيئة.
حابي: هل مؤسسات التمويل الدولية بدأت بالفعل الالتزام بمعايير الإفصاح عن الأضرار البيئية وانعكاساتها على تغيير المناخ؟
محيي الدين: مؤسسات التمويل الدولية خلال القوت الحالي لا تمول مشروعات طاقة تقليدية بالكربون أو للتنقيب عن النفط أو ما شابه، ولكنها تعمل في مجالات الطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية أو طاقة الرياح، وهذه المؤسسات تركز على مشروعات تمويلها مليارات الدولارات وبدون تأثير ضار على البيئة وتغييرات المناخ مثل محطة بنبان للطاقة الشمسية في مصر والتي تعد واحدة من أكبر محطات الطاقة الشمسية في العالم حاليًا.
ولكن كيف نستطيع المنع بكفاءة؟ أرى أن قطاع البنوك كافٍ وقادر على تنظيم وتقييد هذه المشروعات، فالتمويل هو الباب الرئيسي لمكافحة المشروعات التي من شأنها الأضرار بالبيئة وتغييرات المناخ.
المؤسسات الدولية أصبحت تركز على الأبعاد البيئية للاستثمارات ولديها “عصا مانعة وجزرة محمسة” لتطبيق ذلك، فهي توفر تمويلات سخية للمشروعات غير الضارة بالبيئة كمشروعات الطاقة المتجددة، أو المشروعات الخاصة بتشغيل الإناث أو مشروعات للاقتصاد الأخضر، أو مشروعات الاقتصاد الرقمي المتوافق مع البيئة مثل الشبكات التكنولوجية أو قواعد البيانات ونظم المعلومات الحديثة.
حابي: ما هي رؤيتك لانعكاسات تفشي كورونا على الاقتصاد المصري، وما تم اتخاذه من إجراءات حتى الآن؟
محيي الدين: وفيما يتعلق بالحالة المصرية.. فقد شملها ما شمل العالم من تأثيرات سلبية جدًّا لهذه الجائحة مثل تراجع النمو الاقتصادي، وتراجع في التشغيل وحجم التجارة، وتراجع التحويلات الواردة من الخارج خلال الفترة الماضية وما زال مستمرًّا، بالإضافة إلى تراجع الإيرادات السياحية المتوقعة، وتراجع في الاستثمارات بأنواعها.
وجميع هذه المؤشرات معلومة، ولكن العبرة في هذا الموضوع بإمكانية التعامل مع هذه الأزمات بإداراتها، وبأن تكون أسرع الصاعدين وأقواهم، وأن تكون من المستفيدين من هذه التغييرات التكنولوجية الجديدة.
فمصر من الدول التي لم تستثمر في التكنولوجيات القديمة والسابقة، وهو ما يؤهلها لاستثمار في التكنولوجيا الحديثة بصورة أسهل من الدول التي استثمرت في التكنولوجيا القديمة، خاصة فيما يتعلق بعمليات إعادة هيكلة الأنظمة وإحلالها بجديدة، لذلك علينا الاستفادة من دروس الماضي والاستثمار بقوة في تكنولوجيا المعلومات.
مصر لديها أيضًا مجال بشري متميز، فشبابية السكان في مصر، وحقيقة أن الأغلبية العظمى من السكان تحت سن الثلاثين، يمنحهم فرصًا كبيرة جدًّا على التكيف مع نظم وقواعد وتكنولوجيات جديدة وفرص جديدة أيضًا.
ولا أقصد بذلك أن كبار السن لا يستطيعون التعامل مع الجديد أو لا يمكنهم تعلم لغة جديدة أو تكنولوجيات متطورة، وبالفعل أعرف أشخاصًا تجاوز عمرهم السبعين ويدرسون “تكويد” أو لغات وعلومًا جديدة، ولكن بطبيعة الحال التعلم في سن مبكر أيسر وأسرع “فالتعليم في الصغر كالنقش على الحجر” وبالتالي تكون الإجادة أسرع والابتكار أكبر.
وبالتالي أرى أن مع هذه الأزمة علينا أن نستفيد ونستخدم ممكنات القوة الاقتصادية لدينا في مصر، وما الذي يستطيع أن يسرع خطواتنا، ولذلك أرى أيضًا أن مصر تستطيع النهوض في تكنولوجيا المعلومات، فمصر تتميز بسوق استهلاكية ضخمة تضم أكثر من 100 مليون فرد.
ومصر مؤهلة للنمو في المجالات التي تحتاج لسوق كبيرة مثل التعليم والرعاية الصحية، علاوة على السلع الغذائية الرئيسية، فهذا المجال يستطيع جذب استثمارات جديدة وخاصة أنه حاليًا يوجد ما يعرف بـ” Rewiring Global Value Chain” أي إعادة تشكيل سلسلة القيمة العالمية، فهناك إعادة هيكلة للنظام التجاري الدولي والنظام المالي الدولي، وهو ما يتطلب التوافق معه والاستفادة من تطوراته، مصر لديها ميزة ممتازة تتمثل في امتلاك سوق كبيرة في هذا الشأن.
حابي: معظم الدول خلال الوقت الحالي تتحدث عن فتح للنشاط الاقتصادي، بعد أن شهد بعضها إغلاقًا شبه كامل والبعض الآخر اتجه لإغلاق جزئي أو تقييد لبعض الأنشطة كما كان الحال في التجربة المصرية.. هل هناك نموذج قابل للتطبيق فيما يتعلق بإجراءات استئناف النشاط الاقتصادي في كل الدول، أم أن الأمر يقاس وفقًا لكل دولة على حدة، خاصة في ظل وجود دول ما زالت تشهد ارتفاعًا في أعداد الإصابات الجديدة والوفيات بفيروس كورونا؟ وهل فتح الاقتصاد اتجاه عالمي يجب مواكبته؟
محيي الدين: المسألة بسيطة، هناك لوائج طبية عالمية، ومنظمة صحة عالمية، وهناك مسؤول طبي في كل دولة، وهم من يقرر إذا كان الأمر يستوعب فتحًا كليًّا أم جزئيًّا أم إغلاقًا كليًّا، والمسألة هنا حالة بحالة وفقًا للدولة وما تراه.
فتح أو غلق الاقتصاد مرهون بوضع كل دولة.. ولا نريد صداما بين حياة الناس ومعيشتهم
وحتى وإن كانت الدولة نفسها مركزية مثل مصر، وإنما من الممكن أن تكون بعض الأماكن بها مفتوحة وكثافتها السكانية ليست كبيرة، وإمكانية تطبيق قواعد التباعد الاجتماعي بها أسهل، وبالتالي من الممكن أن تكون قواعد الفتح بها سهلة.
فعلى سبيل المثال في المكان الذي أتواجد فيه تحدثوا عن الفتح عندما يكون عدد الإصابات أقل من 50 حالة لكل 100 ألف مواطن، فيما تحدث مسؤولو مناطق أخرى عن معدل 30 حالة وأخرى عن 20 حالة لكل 100 ألف مواطن.
الأمر له علاقة بالتحوط، ولكن العبرة في هذه المسألة أنني لا أريد أن تكون حياة الناس في صدام مع معيشتهم، والحياة هنا تعني الصحة والحفاظ عليها، أما المعيشة فهي القدرة على الانتظام في العمل، وإجراءات التباعد الاجتماعي معروفة والقواعد الطبية معلومة أيضًا، ومن يستطيع تطبيقها يطبقها بالفعل.
فليس من الضروري أن أتبع سلوك شخص آخر لمجرد أنه جار لي، فقد تكون صحته بحالة أفضل من صحتي أو لا يعاني من أمراض فيمكنه التحمل بصورة أكبر، وهنا أقصد الدول، فلا بد أن تقرر كل دولة وفقًا لحالتها.
فعلى سبيل المثال نيوزيلندا فتحت منذ عدة أيام وعادت الناس للحركة بعد السيطرة على الفيروس، ولكن السويد اتخذت منهجًا مختلفًا تمامًا، فالمسألة ليست موضة يجب مواكبتها.
والقصة هنا هل هناك قواعد علمية أم لا توجد؟ نعم توجد قواعد علمية.. وبالنسبة لتطبيقها .. هل يتم بصرامة أم لا نستطيع؟ يجب تطبيقها بصرامة.. هل توجد ضوابط صحية لإجراءات الفتح.. فالفتح لا يعني الفوضى والإغلاق لا يعني السيطرة والتحكم دون داعٍ.
فالتجربة اليونانية على سبيل المثال لفتت نظري، لأنها تخضع الوافدين من الخارج لفحص في المطار، ثم يتم عزلهم في أحد الفنادق لمدة يوم واحد فقط وليس أسبوعًا أو أسبوعين، وإذا كان شخصًا سليمًا يمكنه التحرك إلى منزله من اليوم التالي، أما في حالة ثبوت الإصابة يذهب للعزل الطبي لحين شفائه.
فهذه القصة ليست ممارسة شكلية، كما يفعل البعض مع الكمامات، فبدلًا الالتزام بها بهدف الوقاية نرى البعض يضعها عند رقبته وكأنها عقد!!.
وأرى أن المسألة تتلخص في، هل هناك التزام بالإجراءات المعلنة أم لا؟
حابي: إلى أين ستتأثر المكانة الاقتصادية للدول خلال الفترة المقبلة والمزايا التي قد تستفيد منها في الوضع الحالي بنتائج مواجهتها للجائحة على المستوى الصحي؟
محيي الدين: مثلما كان يوجد قواعد ومحاذير في الاعتبارات الصحية العامة واعتبارات الأمن إلى غير ذلك في الظروف ما قبل فيروس كورونا، فلا بد أن نضيف اعتبارات لها علاقة بطريقة حركة البشر وسياحتهم وسفرهم وقيامهم بأعمالهم ضمن كل إجراءات الصحة والسلامة العامة السابقة للجائحة عند الإقدام على الفتح.
ولا أتحدث فقط عن السياحة، ولكن من الممكن أن يكون السفر بغرض العمل ويتعلق بالاستثمار، فقد يكون هناك مدير تنفيذي لشركة كبيرة يحتاج لمعاينة أو فحص قطعة أرض لأحد مشروعاته على سبيل المثال، وفي هذه الحالة لن يأتي هذا المدير إلا إذا طمأنته الدولة التي يستهدف السفر إليها، على وجود نظام صحي ممتاز.
حابي: هل ترى أن هناك حالة من عدم اليقيين والترقب تسيطر على المناخ الاستثماري نتيجة لاضطرابات الاقتصاد العالمي؟ وهل تجميد الاستثمارات اتجاه سائد خلال الفترة الحالية كما يحدث دائمًا أوقات الأزمات الاقتصادية؟
محيي الدين: في بعض المجالات تكون ظروف عدم اليقين بها أقل من غيرها، بمعنى أن وجود بشر يعني الحاجة للأكل والشرب والرعاية الصحية والعلاج، كما سيحتاجون طرقًا للتواصل فيما بينهم.
بعض المجالات تتسم بظروف عدم يقين أقل من غيرها وتضعها في قائمة المستفيدين من الأزمة
الشركة المالكة لتطبيق “زووم” أصبحت قيمتها السوقية حاليًا تعادل قيم أكبر 7 شركات طيران في العالم مسجلة في البورصة خلال آخر 10 أسابيع ماضية، وقد يستمر ذلك وقد لا يستمر ويتراجع، ولكن هناك مجالات ثبت أن لها أهمية كبرى كالصحة والغذاء والأمور المرتبطة بالتكنولوجيا، والتأمين قطاع مهم جدًّا ولكنه قد يواجه مخاطر شديدة في المستقبل.
أرى أن القصة المهمة هنا، وهذه نصيحة للمستثمرين الجدد والمغامرين، أنه إذا لم يكن لديكم دراية سابقة بالاستثمار في البورصة والشركات، فلا داعي للمخاطرة والمغامرة بمدخراتكم المحدودة، وذلك في ظل وجود معدل عائد سالب على الودائع في البنوك.
من لا يمتلك خبرة الاستثمار بالبورصة والشركات عليه اللجوء لمتخصصين ولا يظن أنه «وارن بافيت»
وفي هذه الحالة يكون على المستثمر الجديد بدء رحلة المعرفة دون مغامرة، على أن يتم العمل من خلال شركات وجهات تستطيع قراءة مستقبل الشركة المستهدف الاستثمار بها وبالتالي ومنح توصيات ونصائح مجدية.
فليس منطقيًّا أن يظن من يضع أموال في السوق وقت هبوطه أنه “وارن بافيت”، فالعملية تحتاج دراية وخبرة ودراسة للشركة والقطاع وحجم السيولة المتوفرة داخلها.
وفي الوقت الحالي على سبيل المثال من سيقول سأستثمر بالقطاع الرقمي لتمتعه بفرص نمو جيدة، دون أن يحدد طبيعة النشاط أو المجال سيواجه أزمة كبيرة، وذلك لوجود بعض الشركات المنتمية للقطاع الرقمي وتأثرت خلال الفترة الحالية بصورة عنيفة مثل شركة “أوبر” أو شركة “إير بي إن بي” الذي سرحت موظفيها مؤخرًا، لذلك لا بد أن يسبق قرار الاستثمار دراية وخبرة ودراسات متخصصة وتفصيلية.
وحتى أستطيع التقريب للفكرة هنا، أود الانتقال للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، التي نرى الجميع دائمًا يتحدث عن مساندته لها، ولكن في الحقيقة هناك مشروعات صغيرة ومتوسطة منطلقة بصورة كبيرة خلال الأزمة الحالية مثل المشروعات المرتبطة بتكنولوجيا المعلومات أو القطاع الصحي أو المرتبطة بتقديم بعض الخدمات الضرورية، وهذه المشروعات لا تحتاج مساعدة خلال الفترة الحالية، قد تكون بحاجة لتوسع ولكنها ليست بحاجة لإعانة مثل غيرها من المشروعات الصغيرة أو المتوسطة المرتبطة بمجالات تأثرت بالأزمة كتوريدات المنشآت السياحية وبعض الخدمات غير الاساسية.
والرسالة هي.. “يجب ألا نكتفي باللافتات الكبيرة، هذا هو وقت التركيز على مستوى كل قطاع، ومكونات كل قطاع، وعلى مستوى كل مشروع داخل القطاع الواحد، وتكنولوجيا المعلومات أصبحت توفر هذا الأمر، سواء إن كان هذا بغرض الاستثمار الخاص أو الشراء أو بهدف المساندات الحكومية لهذه الشريحة من المشروعات”.
دائمًا ما تعلن حكومات الدول عن مساندتها للمشروعات الصغيرة والمتوسطة دون تحديد مواصفات محددة من شأنها زيادة العائد من هذا الدعم، مثل طبيعة النشاط أو المجال الذي تعمل به، فهناك مشروعات صغيرة في مجالات متعددة ومختلفة مثل التجزئة والاتصالات والسياحة والنقل والزراعة.
حابي: هل ترى أن في هذه الحالات يجب أن تكون المساندة الحكومية للمشروعات الصغيرة والمتوسطة على أساس فرص النمو المتوقعة، أم لكل المشروعات المتضررة وتحتاج لمساعدة بصورة عامة؟
محيي الدين: في هذه الحالة تكون المساندة لمن له أمل في الحركة، فالمساندة دائمًا ما تقدم لمتعثر حاليًا ولكن يجب أن يكون هناك أمل للتعافي فيما بعد المساندة.
أما إذا كان مهددًا بالتصفية الكاملة، ففي هذه الحالة توجد مساندات وإعانات أيضًا ولكن كأفراد وعاملين وليس كمشروع، خاصة على مستوى الأنشطة التي ثبت أنها لم يعد لها مستقبل، فمثل هذه الأزمات الكبرى تحدث تغييرات كبيرة في احتياجات وأولويات المجتمعات والأسواق.
حابي: ما هي القطاعات والأنشطة الاقتصادية التي تراها مهددة بالاندثار على خلفية جائحة كورونا؟
محيي الدين: بالطبع هناك قطاعات عديدة ستندثر، وهناك ثلاثة مفاتيح لتحديدها، هي، بماذا عجلت هذه الأزمة، وماذا كشفت، وماهية الأشكال الجديدة التي أوجدتها؟
والمقصود هنا بما عجلت به هو المجالات والأنشطة التي عجلت بنموها وانتشارها على الرغم من العلم المسبق بأنها قادرة على النمو، مثل الخدمات المرتبطة بالتكنولوجيا والتعليم عن بعد، فأكبر جامعة على مستوى العالم أعلنت مؤخرًا أنها ستستأنف الدراسة عبر التعلم عن بعد لحين انتهاء 2021، وكل هذه الأمور كنا نعلم أنها قادمة ولكن الأزمة عجلت بها أو بالتوسع فيها خلال عام 2020 بدلًا من عام 2030 أو 2040.
بينما توجد أنشطة ومجالات كانت تعاني بالفعل قبل الأزمة لأسباب مختلفة وآيلة للسقوط، ولكن كورونا عجلت بسقوطها، ومنها كثير من المصانع المتعثرة التي فقدت سوقها وغير ذات إدارة جيدة، وهي تحتاج لإدارة جديدة بنشاط جديد، وكل ذلك يندرج تحت “الأثر المعجل”.
أما “الأثر الكاشف”، وهي الأمور التي تم اكتشافها حديثًا بعد الأزمة، كاكتشافنا حاليًا لقدرة الدولة، فدول مثل فيتنام وكوريا أفضل من دول أوربية، أو دولة مثل اليونان بعد أن كانت محل سخرية وشفقة لكونها مهددة بالإفلاس والخروج من الاتحاد الأوربي أصبحت حاليًا دولة يضرب بها المثل في الالتزام، فهذه الأزمة كاشفة جدًّا.
وأخيرًا، أود الإشارة إلى أنه دائمًا ما تتولد بعد الأزمات والحروب احتياجات جديدة واكتشافات جديدة وطرق تواصل جديدة، وهي أمور تستدعي التأمل والتوقع، خاصة أن الأزمة الحالية أكبر من الحروب، فهي عاصفة كاملة على جبهات الصحة والتموين والديون والاقتصاد، وهذا غير مسبوق، فوجود عاصفة على جبهة واحدة من تلك الجبهات كفيلة بإرباك دولة، وفي هذه الأزمة اجتمعت كل المربكات الكبرى.