بقلم محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري نقلا عن الشرق الأوسط _ في تاريخ الأمم والشعوب وتطورات الاقتصاد وحياة عموم الناس لحظات فارقة عما كان قبلها، ويكون لها ما بعدها من شؤون وتبعات. وقد تكون اللحظة الفارقة على التنوع الذي ذكره الكاتب النمساوي ستيفان تسفايج في كتابه الصادر عام 1927 عن «اللحظات الحاسمة في التاريخ» والتي تراوحت بين لحظة هزيمة نابليون في معركة ووترلو في عام 1815، أو لحظة اكتشاف جون ستر للذهب من خلال عامله المخلص جيمس مارشال في كاليفورنيا في عام 1848، أو لحظة الفوز في السباق على استكشاف القطب الجنوبي، الذي قاده ضابط البحرية الملكية البريطاني روبرت سكوت، ليجد الفريق النرويجي بقيادة رولد اموندسن قد سبقه إليه رافعاً علم بلاده في عام 1911.
اضغط لمتابعة جريدة حابي على تطبيق نبض
وهناك لحظات حاسمة أخرى، منها تلك اللحظة التي استقل فيها فلاديمير لينين القطار إلى روسيا من منفاه في سويسرا ليشعل الثورة الروسية في عام 1917. أو تلك اللحظة التي عبرت فيها أول كلمة تلغرافيا من خلال كابل، صممه سيروس فيلد، اخترق المحيط من أوروبا لأمريكا الشمالية في عام 1858. وغير ذلك أورد تسفايج لحظات أخرى أثرت في الحياة الشخصية لمبدعين ومخترعين وقادة ومن ثم تبدلت أحوال الناس واقتصاداتهم في القرنين الماضيين.
وعلى نفس المنوال ففي العقود الخمسة الأخيرة يمكن ذكر زيارة الزعيم الصيني دنغ زياو بنغ لدول آسيوية مرتفعة النمو ومجاورة لبلاده، في عام 1978. لكي يقرر بعدها تبني إصلاحات شاملة يتحرر فيها من الجمود الآيديولوجي، فكانت لحظة تبني للبراغماتية حتى «لا تسبق بلاده بلدان أصغر حجماً». ويمكننا ذكر لحظة سقوط حائط برلين في نوفمبر 1991. وما تبعها من نهاية للمعسكر الشرقي والاتحاد السوفياتي وما أطلق عليه مسمى العالم الثاني. ونذكر لحظة سقوط برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك في عام 2011، فيما عُرف بأحداث 11 سبتمبر الإرهابية، وما نجم عنها من ردود أفعال وحروب وقواعد رقابية وأمنية بدلت نظم وإجراءات السفر والهجرة حول العالم وليس في أمريكا وحدها.
ومن اللحظات الفارقة، سقوط بنك ليمان براذرز ونشوب الأزمة المالية العالمية في عام 2008، وما ترتب عليها من إجراءات كانت بذوراً لأزمات لاحقة على النحو الذي استعرضه كاتب هذه السطور في مقال نشرته هذه الصحيفة الغراء في مارس من عام 2009 تحت عنوان «من دواء الأزمة ما هو أكثر منها شراً».
وسيحتار المؤرخون وعلماء السياسة وخبراء الاقتصاد في اختيار أي لحظة تحديداً من لحظات العاصفة الكاملة التي نشهدها اليوم، لكي يعتبروها لحظة حاسمة أو فارقة؛ فاللحظات الفارقات في هذه السنة كثر:
– أهي لحظة إعلان الجائحة من قبل منظمة الصحة العالمية في 11 مارس من هذا العام؟
– أم هي لحظة إعلان صندوق النقد الدولي في شهر أبريل الماضي أن العالم قد دخل رسمياً في مرحلة ركود غير مسبوق، منذ عهد الكساد الكبير في أواخر العشرينات من القرن الماضي؟
– أم هي لحظة إعلان منظمة العمل الدولية عن خسارة أكثر من 300 مليون عامل في القطاع الرسمي حول العالم أعمالهم ووظائفهم؟ أو تراهم سيدونون لحظات إعلان المنظمات الدولية عن مؤشرات تراجع التجارة العالمية بأكثر من 30 في المائة، وانخفاض الاستثمارات الأجنبية المباشرة بما لا يقل عن 40 في المائة، وهبوط تحويلات العاملين بالخارج بما لا يقل عن 20 في المائة عن العام السابق، كمؤشرات لاتجاه قد يستمر لانحسار العولمة الاقتصادية؟
قد يرى بعضهم جدارة هذه اللحظات بالوصف بأنها فارقة. ومنهم من سيؤرخ لمقتل الأمريكي جورج فلويد تحت أقدام شرطة ولاية مينيسوتا، في الخامس والعشرين من شهر مايو ، وما تبعها من احتجاجات ثم أحداث شغب في عدة مدن أمريكية.
ولكن اعتبار اللحظة فارقة بميزان الاقتصاد السياسي لا يتوقف فقط على مدى جسامة الحدث إنسانياً كان أو سياسياً أو اقتصادياً ولكن بما يترتب عليها من تحولات كبرى في مسار الأمم، وهذا يرتبط بالظروف المحيطة بالحدث وتلك الممهدة له. ويتعجل البعض في اتباع نظرية الفوضى، وهي إحدى نظريات الرياضيات والفيزياء، وتطبيقها للتنبؤ بالأحداث في عالم الاقتصاد السياسي، وخاصة فيما يتعلق بما يعرف بتأثير الفراشة. ويقصد به أن رفرفة جناح فراشة في مكان من العالم قد يسبب أحداثاً كبرى في أماكن أخرى من العالم.
ولكن الأمر لا يتبع هذه الكيفية الفيزيائية عند التعامل مع أمور يسيطر عليها السلوك البشري باختلاف ردود أفعاله وتباينها، ومخالفتها في أحوال كثيرة للتوقعات. وتظهر دراسات تنتمي لمدرسة ما يعرف بالتاريخ البديل بأن وقوع ذات الحدث رغم جسامته في زمن آخر وظروف مختلفة لا يؤدى لذات النتيجة التوقع. فعلى سبيل المثال فاغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند، وريث عرش الإمبراطورية النمساوية المجرية في يونيو 1914. ما كان ليشعل الحرب العالمية الأولى، ولا حتى معركة صغيرة لولاً أن الظروف السابقة على الاغتيال والمصاحبة له كانت متأججة بين القوى المتصارعة بما أشعل حرباً كبرى.
ولمتابعة ما يسفر عن العاصفة الكاملة التي سببها فيروس كورونا وتداعياته يمكن النظر بعين الاعتبار لما يلي من «لحظات فارقة» على خمسة مستويات:
– على المستوى العالمي: فإلى أي مدى نعيش اليوم ما يعرف «بلحظة كيندلبرجر»، نسبة إلى الاقتصادي الأميركي تشارلز كيندلبرجر المتخصص في اقتصاديات الكساد والأزمات، والذي أرجع حدوث الأزمة في الثلاثينيات من القرن الماضي، إلى فقدان إدارة فاعلة وغياب التنسيق بين القوى الصاعدة والقوى التقليدية؟
– على المستوى الإقليمي: هل نعيش «لحظة إقليمية أفريقية» بما نراه من همة لقادة أفارقة وللاتحاد الأفريقي في وضع تحديات القارة في مكافحة الفقر ومجابهة تحديات الديون على أولويات الاجتماعات الدولية؟ وهل نرى كذلك «لحظة إقليمية أوروبية» جديدة نحو الفيدرالية المالية بعد إعلان رئيسة المفوضية عن قرض يتم باسم الاتحاد الأوروبي، كسابقة أولى، كمواجهة جماعية لنفقات التصدي للوباء تسدد بعد ذلك من خلال الضرائب وانتفاعاً بانخفاض أسعار الفائدة.
– وعلى مستوى كل دولة نجد «لحظات إيجابية» سجلتها دول مثل اليونان وفيتنام وكوريا في السيطرة بنجاح على الوباء، رغم تباين مواردها في حين تجد «لحظات إخفاق» في دول كبرى لم يكن ارتباكها في الحسبان.
– أما على مستوى الأسواق فهناك تخوف من تكرار «لحظة مينسكي» مع تزايد حمى المضاربة في البورصات مدفوعة بضخ سيولة منخفضة التكلفة ومسترشدة بتوقعات مبالغ فيها عن الأداء المتوقع وزيادة فجوة التباين بين مؤشرات الاقتصاد الحقيقي وأرقام البورصات.
– أما عن عموم الناس، وقد واجهوا مفارقات مؤلمة وغير مسبوقة من حظر الحركة وفرض إجراءات التباعد الاجتماعي، بما يمكن أن نطلق عليه «لحظة مان»، نسبة إلى رواية الجبل السحري للكاتب الألماني توماس مان، إذ تعرض فيها لمعضلة عدم الإحساس بالزمن بفعل الملل مع البقاء في عزلة في مكان واحد دون تغيير. وعندما يتبدل الوضع مع السيطرة على الجائحة لن ترجع الأمور لما كانت عليه لتغير سلوك بعض الناس، ولما ستفرضه قواعد رقابية جديدة على أوجه مختلفة للحياة.