بقلم محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري نقلا عن الشرق الأوسط _ ليست الاستعارة المقصودة في العنوان مما يُدرس في علم البيان والبلاغة من أنواع للاستعارة المعروفة، التي تُجمل بها العبارات باستعمال اللفظ في غير ما وُضع له، كالاستعارة المكنية والتصريحية. «فالاستعارة المؤذية» هي التي تعاني بسببها عملية تحليل وتصميم السياسات الاقتصادية في كثير من البلدان العربية، وتنجم عن الاكتفاء بالاعتماد الغافل على بعض مصادر مجتزأة من تقارير دولية، والنقل المسرف عن دراسات معدة في الأصل لنصح متخذ القرار في بلدان بعينها شديدة الاختلاف والتباين.
فعند الاستعانة بالتقارير الدولية، يتطلب الأمر مراجعتها بعد استبيان أولويات مصدريها وافتراضاتهم والتعرف على قدراتهم التحليلية. ويجب إدراك أن جانباً كبيراً من التفاصيل المهمة قد يختزل لأغراض عقد المقارنات أو بتجميع الدول في مجموعات وشرائح وفقاً للدخول، على سبيل المثال، لتبسيط تقديم المعلومات.
وقد يسهو الناقلون عن أنَّ كثيراً من توصيات هذه التقارير قد يأتي على غرار قوائم الطعام المطولة، بها بنود متنوعة بتكاليف مختلفة للاسترشاد بها وفقاً للأوضاع الاجتماعية المبدئية لكل دولة وآليات عمل اقتصادها السياسي، إلى غير ذلك من اعتبارات.
أما عن استسهال الناقلين لدراسات معدة لدولة معينة، وتعليب ما جاء بها جاهزة مع عدم مناسبة محتواها، فحدث ولا حرج عن حالات انتهت بالأذى وبخذلان عموم الناس. وهذا كله يرجع إلى عدم التمحيص عند النقل عن هذه الدراسات والتبشير بتوصياتها ونتائجها وكأنها الإكسير الشافي من العلل في كل زمان ومكان، وهي الموصوفة أصلاً لحالات بعينها بشروط محددة.
ومع تصميم سياسات جديدة للتعامل مع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المصاحبة لجائحة كورونا تبرز ثلاثة موضوعات ذات علاقة بمواجهة الجائحة ثم التعافي منها، وترتبط بمستقبل العولمة والتمويل والديون. فقد صدرت دراسات مهمة عن مستقبل العولمة وتأثيراتها ومنها دراسة لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي بواشنطن. وقد حدد المعهد تأثيرات العولمة فيما يأتي:
– توفير سلع أكثر بأسعار أقل من خلال المنافسة.
– توسع قطاع الأعمال خاصة لشركات التكنولوجيا والاتصالات والمعلومات.
– تحسين النوعية وزيادة التنوع للمعروض من السلع والخدمات.
– زيادة مجالات الابتكار والتطوير.
– التأثير المتباين على سوق العمل بين إتاحة فرص جديدة في المجالات ذات التنافسية والمهارات العالية في قطاع الخدمات المتقدمة، وضياع فرص عمل أخرى في قطاعات منخفضة الإنتاجية خاصة في صناعات تحويلية غير متطورة.
– تأثير سلبي محدود على عدم العدالة في توزيع الدخول بمقياس الأجور يتراوح بين 10 في المائة و20 في المائة.
الدراسة أن الجانب الأكبر من التأثير السلبي على عدالة توزيع الأجور يعزى إلى تأثير التكنولوجيا على الأنشطة ذات المهارات المحدودة باستبعادها، وعدم فاعلية السياسات المالية العامة وعدم العدالة في إتاحة الفرص من خلال الاستثمار في رأس المال البشري. كما تنتقد غياب سياسات متكاملة للتشغيل ومكافحة البطالة بما في ذلك الإجراءات المساندة للتدريب التحويلي والإنفاق على التعليم والمساعدة في البحث عن عمل، فضلاً عن قصور برامج التأمين ضد البطالة ومنح حوافز ضريبية للتشغيل والتأمين الصحي على العاملين. وتفضل الدراسة تبني هذه السياسات بدلاً من اللجوء للإجراءات الحمائية لتكلفتها التي تتجاوز منافعها المحدودة والمؤقتة.
ولمنع «الاستعارة المؤذية» فعلى قارئ مثل هذه الدراسة قبل أن ينقل عنها، خاصة إذا كان من مقدمي الاستشارات والنصائح للاقتصادات العربية، أن يدرك أن بيانات هذه الدراسة ومحل اهتمامها هو الاقتصاد الأميركي دون سواه. وربما تنتفع بها، بضوابط محددة، بعض دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، التي تضم الاقتصادات الأعلى دخلاً. أما بالنسبة للدول العربية فيجب أن يُفتح هذا الصندوق الأسود للعولمة وتأثيراتها على محاور أربعة:
– الأول، هو محور التجارة، وهو المحور الوحيد الذي تناولته دراسة معهد بيترسون المذكورة، مع أهمية تحليل هيكل الإنتاج في الاقتصادات العربية لكل دولة على حدة.
– الثاني، هو محور تدفقات رؤوس الأموال والاستثمارات الداخلة والخارجة لكل دولة، علما بأن الخارج من رؤوس الأموال العربية أكبر.
الثالث، هو محور انتقال العمالة وما يرتبط به من تحويلات للعاملين بالخارج إلى بلدانهم.
– والمحور الرابع، الذي عادة ما يهمل ربما لصعوبة قياسه، يرتبط بـ«نقل التكنولوجيا» وفرص الابتكار والتطوير واكتساب المعارف والبحث العلمي والحصول على براءات الاختراع والملكية الفكرية وحمايتها وضمان عوائدها.
ويجدر بالمنادين بالعولمة والمتصدين لها وكذلك جبهات المصلحين لمساراتها تقديم الأدلة والبراهين على المكاسب والخسائر، قبل دخولهم في مباريات التوصية بالانفتاح والإغلاق، أو المناداة بإجراءات لتحرير أو كبح حركة التجارة والاستثمار والعمالة والمعرفة. فأذى الاستعارة هنا قد يطول مُصدراً والعاملين معه، أو يضر منتجاً بارتفاع تكلفة الخامات والآلات المستوردة، أو يعيق استثماراً يسهم في النمو، أو يمنع البحث عن عمل لاكتساب معيشة، أو يغيض أنهار المعرفة بسدود من الموانع والعراقيل.
ولا يقل خطورة عما سبق ما يُنقل عن دراسات للتوسع في التمويل بزيادة العجز في موازنات الدول وزيادة الديون. وقد يستشهد البعض بكتابات الاقتصادي بول كروجمان، الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد، عن التمويل بالعجز لمواجهة متطلبات الإنفاق العام، أو أعمال الاقتصادي أوليفييه بلانشارد، الرئيس الأسبق للبحوث بصندوق النقد الدولي، عن تحفيز الاستدانة مع انخفاض أسعار الفائدة.
فالاستعارة المؤذية لهذه التوصيات تنتزعها من سياقها وافتراضاتها المحددة انتزاعاً؛ فهي قائمة بالأساس على تحليل أوضاع الاقتصادات المتقدمة القادرة على تمويل العجز دون آثار تضخمية أو إزاحة للقطاع الإنتاجي من أسواق التمويل والائتمان. كما تتناول قدرات الدول المعنية، عالية الدخول، على الاقتراض بعملاتها الوطنية وبتكلفة اقتراض شديدة الانخفاض تيسر إحلال قروض جديدة بأسعار فائدة تقترب من الصفر محل تلك القديمة عالية التكلفة، وبدون أي مخاطر ترتبط بتغيرات سعر الصرف.
فإذا ما توافرت هذه الشروط المحددة فهنيئاً للموصين بها والمستفيدين منها، إذا ما أحسن تنفيذها، أما إذا غاب شرط واحد مما سبق فليحذر المنصوحون من اضطراب اقتصاداتهم بزيادة الديون وبتراجع النمو والتشغيل تأثراً بزيادة العجز وزيادة التضخم مع التوسع في طبع النقود وانفلات أسعار الصرف.
وحري بالناصحين، قبل مزيد من الانغماس في استعارات مؤذية، الاطلاع أولاً على أوضاع التنمية في العالم العربي، التي شرحها بتفصيل التقرير العربي عن التنمية المستدامة 2020. الصادر منذ أيام عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا). فقد أورد التقرير حقائق وتطورات مهمة لمؤشرات التنمية الأساسية بتحليل كمي ونوعي للبيانات.
وقد أشار إلى انفراد المنطقة العربية بزيادة الفقر المدقع وتربعها على قمة عدم العدالة في توزيع الدخل، والانخفاض النسبي لمؤشرات التعليم والرعاية الصحية، وتعرضها لمزيد من الفقر المائي ومؤثرات سلبية لتغيرات المناخ والتلوث البيئي، وعدم توازن النمو الاقتصادي وقصور شمول عوائده، وتراجع مؤشرات الحوكمة.
هناك حقاً استثناءات إيجابية في بلدان عربية في مجالات بعينها، ولكنها تظل استثناءات من أداء عام يهدد بعدم بلوغ أهداف التنمية المستدامة، بما يستوجب بذل جهود أكبر بتنسيق أشمل، لا فصل فيها بين سياسات التصدي لأزمة كورونا وتداعياتها والتعافي منها بسياسات للنمو الشامل للكافة، فالإمكانات العربية متوفرة لكنها تتطلب كفاءة في استغلالها بما يحقق العدالة بين عموم الناس.