بقلم محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري نقلا عن الشرق الأوسط – ستواجه الإدارات الأمريكية المتعاقبة على مدار السنوات المقبلة آثار تصاعد المنافسة الدولية البازغة بقوة من شرق العالم الآسيوي الجديد ومعالم نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب ستتضح أسسه وآليات عمله مع مرور الزمن. وإذا لم يتم التوافق على توسيع رقعة مجالات التعاون الدولي المشترك ستزداد حالات التوتر والاستقطاب. فالتاريخ، الذي يصفه السياسي الأمريكي المخضرم هنري كيسنجر بذاكرة الدول، يدلنا بشواهده المتعددة على أنه لا بديل للتعاون والمنافسة العادلة بين القوى الصاعدة وتلك القائمة إلا دخولها في صراعات، سواء في إطار حروب باردة تشكل الإجراءات الاقتصادية المناوئة أهم أدواتها، أو تقويض أسس السلم بالدخول في معارك مباشرة أو بالوكالة أو بحروب شاملة.
وفي عالم شديد التغير يشهد مربكات كبرى تبرز طريقتان للتعامل مع هذه المتغيرات؛ الأولى تنزع للاستئناس بالخبرة التاريخية وتراكمها. والطريقة الأخرى تميل للتمرد على الثوابت فتقترح أساليب جديدة قد تكون صادمة. وعلى صانع السياسة الانتفاع بما تتيحه الطريقتان من سبل للتعامل مع تحديات العصر باحتراف عملي لما يصلح منها.
وينتمي روبرت زوليك، نائب وزير الخارجية ورئيس مجموعة البنك الدولي الأسبق، إلى أنصار المنهج الأول بالاستناد إلى خمسة تقاليد للسياسة الخارجية والدبلوماسية أعانتها من قبل في تحقيق أهداف الدولة، ومن أهمها الحفاظ على التفوق العالمي. وجاء ذكر هذه التقاليد الخمسة في كتابه الصادر مؤخراً تحت عنوان «أمريكا في العالم» على النحو التالي:
أولاً: الارتكاز إلى ظهير إقليمي قوي يساند السياسة الأمريكية في توجهاتها؛ وقد بذلت الولايات المتحدة منذ نشأتها جهداً لمد حدودها الجغرافية وتحديد مساحتها وحجمها وسكانها، وطبيعة نظامها الجمهوري وأمنها واقتصادها وعلاقتها السياسية والاقتصادية بجارتيها – كندا والمكسيك – وفي إطار تصور بأن أمريكا الشمالية ككل، وليس فقط حدود الدولة الأمريكية، هي قاعدة الانتشار القوية للولايات المتحدة حول العالم، خاصة عبر المحيطين الأطلسي والهادي.
ثانياً: أن علاقات أمريكا التجارية والتكنولوجية عبر الحدود هي التي شكلت ارتباطاتها وتحالفاتها السياسية والأمنية والاقتصادية. فقد كانت الاحتجاجات الأمريكية على الانتهاكات البريطانية بالتعسف في فرض الضرائب والجمارك على التجارة من أسباب سعيها للاستقلال عن الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس.
ومنذ نشأة الولايات المتحدة ارتبطت مسألة الحريات السياسية بقضايا الحريات الاقتصادية كصنوين لا يفترقان، وعلى مدار القرن العشرين كان دفاع أمريكا عن مصالح ما سمي العالم الحر يرتكز بالأساس على الانفتاح الاقتصادي والتجاري وحرية حركة رؤوس الأموال. كما روجت وساندت نموذجاً للتقدم العلمي والتكنولوجي بتمويل فيدرالي وتحفيز للجامعات والقطاع الخاص لمساندة هذا النموذج الذي انتصرت به في الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي كما حققت به تفوقاً ومزايا ستسعى للحفاظ عليها رغم حدة التنافس؛ خاصة لأن منافسيها اليوم، على عكس الاتحاد السوفياتي السابق، يستخدمون أدوات اللعبة ذاتها بتفوق ومهارة.
ثالثا: الاعتماد على تحالفات وترتيبات دولية بين شركاء في التوجه والأولويات. فقد التزمت الولايات المتحدة لما يقترب من 150 عاماً بعد نشأتها، عدم الدخول في اتحادات أو منظمات مع القوى الأوروبية حتى آلت إليها القيادة منذ الحرب العالمية الثانية. ثم توالي إنشائها شبكات وتحالفات تدعم مصالحها المشتركة مع أعضاء هذه التحالفات، وأسهمت في تعضيد تفوقها الاقتصادي والأمني وتأثيرها السياسي. ومع التغيرات الدولية الراهنة ستزداد الحاجة إلى هذه التحالفات ليس الرسمية والحكومية والأمنية منها فحسب، ولكن بمشاركات من القطاع الخاص ومؤسسات القطاع المدني.
اضغط لتحميل العدد السابع والستون من نشرة حابي
رابعا: السعي لتعزيز تعاون القواعد والمؤسسات السياسية المحلية في الولايات المتحدة وذوي التأثير في اتخاذ القرار من مراكز بحثية وتجمعات اقتصادية وغيرها لتفهم أولويات السياسة العامة وأبعادها الخارجية. وقد ضرب روبرت زوليك مثلاً بخطة الجنرال مارشال الشهيرة لإعادة بناء أوروبا، وأنها لم تكن لتتحقق لولا جهود مضنية بذلها دبلوماسيون من صناع السياسة الخارجية مع الكونغرس في مثال لتكامل أدوار المؤسسات والقائمين عليها.
خامسا: مدى إدراك أن التفوق الذي حققته أمريكا قد ارتبط منذ نشأتها بتصور لدى آبائها المؤسسين باستثنائية التجربة وضرورة العمل على استمرارها من خلال إعادة بناء نظام عالمي تتوحد فيه أهدافها القومية والمحلية مع أولوياتها الدولية فتصك كوجهين لعملة واحدة.
وما زال ولع صناع السياسة الأمريكية قائماً لتحقيق هذا التوافق بين ما هو محلي وما هو عالمي، مستندين إلى قوة الاقتصاد وحجمه والتأثير السياسي وانتشاره، وما زالوا يراهنون على إمكانية تحقيقه إذا ما توافرت القيادة والظروف المواتية؛ فنشدان التقدم واحتلال موقع الصدارة واستمرار التفوق ليست محل خلاف كأهداف بين الإدارات المختلفة التي قد تختلف في الأدوات والوسائل وأساليب التعبير عنها.
ويبدو أن بعض المحللين يرون صعوبة أكبر في تحقيق هدف استمرار التفوق في ظل المنافسة الدولية الراهنة فلجأوا إلى أفكار غير تقليدية تنتمي إلى الطريقة الثانية المتمردة على الطريقة الأولى المحافظة وقواعدها الخمس السابقة. فقد اقترح، على سبيل المثال، المحلل السياسي الأمريكي ماثيو إيغليسياس في كتاب جديد عنوانه «مليار أمريكي» بضرورة العمل على زيادة السكان في أمريكا التي تعاني في تقديره من خفة في عدد السكان اللازمين لتحقيق أهدافها في استمرار التفوق.
فذكر أن انتصار أمريكا في الحرب العالمية مع حلفائها كان يستند إلى أن اقتصادها كان أكبر من اقتصادات دول المحور الثلاث ألمانيا وإيطاليا واليابان مجتمعة، كما تحقق لها التفوق الاقتصادي الذي مكّنها من الانتصار في الحرب الباردة أيضاً. ولكن يصعب الفوز في سباق الأمم إذا كانت الاقتصادات الآسيوية المنافسة، وتحديداً الهند والصين، يتجاوز عدد سكانها مليار نسمة. فما الحل في رأيه؟ أن يصل عدد الأمريكيين بالولايات المتحدة الذين يعتنقون أفكارها وقيمها ويتعلمون في مدارسها ومعاهدها فيدعمون اقتصادها ونمو مدنها في الداخل ويساندون قوة الدولة الشاملة في الخارج، إلى مليار نسمة مع نهاية هذا القرن من رقمهم الحالي الذي يقدر بنحو 330 مليون نسمة، وأن يجعل متوسط الكثافة السكانية معادلاً لدول أوروبية مثل فرنسا التي يبلغ متوسط الكثافة السكانية بالكيلومتر المربع ثلاثة أمثال الوضع في الولايات المتحدة، وذلك من خلال تشجيع زيادة النسل وتحفيزه بالسياسات السكانية والتعليمية والإسكانية المساندة، فضلاً عن تشجيع الهجرة الشرعية المنظمة إلى بلاده.
وهو يدعو إلى توجيه المهاجرين الجدد إلى أقاليم بعينها داخل بلاده بفيزا مشروطة تحدد مؤهلات المهاجرين واستعداداتهم للتعلم وإتقان تكنولوجيا العصر، وإلزامهم بالبقاء في أماكن خفيفة السكان. بطبيعة الحال، أحدثت هذه المقترحات جدلاً تزامن مع موسم انتخابي لا تنقصه حدة تباين الآراء وانحيازاتها الظاهرة والخفية. ولكن فيما يُطرح ما يدعونا للتأمل في احتمالات المستقبل وإعادة النظر في أمور كثيرة كتقاليد السياسات العامة وتوجهاتها ومدى تحليها بالمرونة والتجديد لاستيعاب مستجدات عالم شديد التغير.
خصم خاص بنسبة 50% على خدمات بوابة حابي