بقلم محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري نقلا عن الشرق الأوسط – مع اقتراب كل عام جديد تظهر توقعات جديدة مبشرة ومنذرة عن ما قد تحمله الأيام المقبلة من تطورات مؤثرة في أحوال الناس. ومن أكثر من يقوم بهذه التوقعات بجدية المتخصصون في مجال حسابات المخاطر والتأمين عليها؛ فعملهم يرتبط بتوقع الأحداث واحتمالات تحققها وفقاً لسيناريوهات متعددة، بغرض تسعير المخاطر وطرح أدوات للتأمين ضد حدوثها.
وأصدرت مؤخراً إحدى كبرى شركات التأمين – أكسا – بالتعاون مع مجموعة يوراسيا للبحوث، التي يرأسها إيان بريمر، المحلل السياسي المعروف، توقعاتها المبنية على بحث ميداني أجرته خلال الأشهر الماضية شارك فيه 2600 خبير من 53 دولة حول العالم، فضلاً عن استطلاع رأي شارك فيه نحو 19000 شخص من 15 دولة. وجاءت التوقعات للمخاطر في عام 2021 على النحو التالي:
1 – الأوبئة والأمراض المعدية.
2 – تغيرات المناخ.
3 – أمن نظم البيانات والمعلومات.
4 – توترات إقليمية وجيوسياسية.
5 – صراعات واضطرابات محلية.
6 – تهديدات جديدة للأمن (بعضها مرتبط بمستحدثات تكنولوجية).
7 – مخاطر اقتصادية.
8 – مخاطر في الموارد الطبيعية والتنوع البيئي.
9 – مخاطر مالية.
10 – التلوث البيئي.
بمقارنة هذه النتائج عن التوقعات لعام 2021 مقارنة بعام 2020 تجد أن مخاطر الأوبئة قفزت 7 درجات لتحتل المرتبة الأولى بعدما كانت في المرتبة الثامنة في توقعات العام الماضي؛ وجدير بالذكر أن كثيراً من مراكز استطلاع الرأي لم تدرج أصلاً مخاطر التهديدات الوبائية في قائمة أولوياتها، وإن وضعها البعض في مراكز متأخرة في المخاطر المحتملة رغم تحذير الدوائر الطبية المتخصصة من تهديدات وبائية شاملة على النحو الذي ورد في تقرير «عالم في خطر» الصادر عن لجنة دولية مستقلة لتقييم الاستعداد الوبائي، التي أكدت أن العالم حيال الأوبئة يتراوح بين الإهمال والهلع من دون استيعاب دروس أوبئة سابقة أو اعتبار مما خلفته من ضحايا في الأنفس ونقص في الأموال والأرزاق.
وقد ارتفعت المخاطر الاقتصادية المتوقعة للعام المقبل مع زيادة البطالة المرتبطة بالركود الذي سببته الجائحة، وكذلك ارتفاع المخاطر المالية بسبب زيادة ارتفاع الديون، المتضخمة أصلاً قبل انتشار الوباء.
تلاحظ أيضاً استمرار ارتفاع مخاطر تغيرات المناخ رغم أنها أفسحت المرتبة الأولى التي احتلتها العام الماضي للوباء وتداعياته. ويزيد من أهميتها تكرار الإشارة لمخاطر بيئية متنوعة مرتبطة بها.
ويبدو أن موضوع المناخ سيحتل أهمية كبيرة في العام المقبل مستفيداً من قوة الدفع بعودة الولايات المتحدة لاتفاقية باريس لتغيرات المناخ واستعداد الإدارة الجديدة لإنفاق تريليوني دولار في مشروعات البنية الأساسية المتوافقة مع الاعتبارات المناخية والبيئية. كما تجد برامج الإصلاح والتعافي في أوروبا ودول آسيوية تعتمد نهج الاستدامة بإدراج النمو الأخضر في قواعد منح التمويل وتوجيه الاستثمارات بما يساند جهود السعي نحو تخفيض الانبعاثات الضارة بالمناخ والبيئة.
كما تتكرر الإشارة في التوقعات إلى تزايد المخاطر الأمنية التقليدية في صورة صراعات ونزاعات داخل حدود الدول أو عبرها بشكل مباشر أو من خلال حروب الوكالة والإرهاب. وتتزايد مخاطر الاحتقان مع تزايد تفاوت الدخول؛ ويبدو أن أكثر حروف الهجاء الإنجليزية تعبيراً عن مسار التغير الاقتصادي من الوضع المتدني الحالي في كثير من البلدان هو حرف K، الذي يعبر عن صعود فئات وانخفاض أخرى بعد نقطة الافتراق. فبعد صدمة الجائحة تجد أن هناك قطاعات وشركات ازدادت إيراداً وربحاً ومشروعات أخرى خسرت وأفلست مخلفة أعداداً هائلة من المتعطلين بلغت في القطاع الرسمي نصف مليار إنسان وفقاً لمنظمة العمل الدولية.
وقد أتت هذه التغيرات السلبية بعد عقد من زيادة تفاوت الدخول وتركزها، تأثراً بتداعيات الأزمة المالية العالمية بما أجج من صعود التيارات الشعبوية والحركات المنتسبة لليمين السياسي المتطرف.
ولا ينبغي النظر إلى هذه التوقعات على أنها حتميات واقعة، فهي تخضع لافتراضات تصيب وتخطئ، وانطباعات أسيرة ما ترى، واحتمالات متسعة المدى. ولكن أهميتها تعكس ما يفكر فيه خبراء ونفر من عموم الناس، تعين في تحديد الأولويات وتوجيه الموارد.
وحري بنا ونحن نعيش في ظروف سياسية يغلب عليها حالة من اللانظام عالمياً واتساع فجوة الثقة بين الدول إقليمياً، فضلاً عن تزايد حالة اللايقين اقتصادياً، أن نستمسك بقواعد مبدئية للتعاون في التعامل مع تبعات جائحة كورونا. فليس من الصالح مثلاً أن يتم تسييس اللقاح إنتاجاً أو توزيعاً – فهذا يستحسن اللقاح الشرقي ويروّج له، وذاك يزكي اللقاح الغربي ويسوّق له، مع افتقار لتمويل لا يتجاوز 30 مليار دولار مطلوبة لتوفير اللقاح للدول الأفقر في عام 2021، وهو مبلغ زهيد مقابل ما يخسره العالم يومياً من جراء الجائحة تُستنقذ به أنفس زكية.
ولشدة ارتباط هذه المخاطر المتوقعة بما أطلقت عليه من قبل مسمى «المربكات الكبرى»، وشرحت أمثلها لها في مقالات سابقة في هذه الصحيفة الغراء، عن صدمات مباغتة وتغيرات متسارعة في سبيل مسارات التنمية، يلزم أن نستدعي لها ما يواجهها بالاستثمار في رأس المال البشري تعليماً وتثقيفاً ورعاية صحية، وبالاستثمار في رأس المال المادي تدعيماً للبنية الأساسية والرقمية، وبالاستثمار في رأس المال الاجتماعي مساندة لتماسك المجتمع بنظم للضمان الاجتماعي.
ولعلي أؤكد ونحن في استقبال عالم جديد على ثلاثة أمور في شأن إدارة السياسات العامة: أولاً، الاعتماد على الأدلة والبيانات المحدثة في تحديد أولويات الاستثمار وتوجيه التمويل له، خاصة في ظل مخاطر زيادة الديون العالمية التي تستدعي حصافة في إدارة ملفاتها.
والأمر الثاني، هو أهمية الدفع بتنافسية الاقتصاد في عالم شديد التغير ينتقل مركز جاذبيته الاقتصادية شرقاً باطراد، بما يستدعيه ذلك من اتباع منهج يتسم بالبراغماتية المبدئية، أي بسياسات وإجراءات مرنة مستندة إلى دعائم دولة قوية محددة الأهداف.
والأمر الثالث، أنه في سبيل تحقيق التقدم والاستمرار في مضماره يلزم العمل وفقاً لقواعد ممكنة للكافة من الترقي والحراك اجتماعياً إلى أعلى مع مساندة الفئات التي استضعفت على مر أجيال بحرمانها من فرص التعليم الراقي والتدريب الملائم والعمل اللائق.
فمجرد التعلق بشعارات الجدارة والأهلية في اختيار من يفوز بالفرص الأفضل في مجتمع يفتقد فرص المنافسة العادلة قد يتضمن بين طياته تجاهلاً للحيثيات الحقيقية لحاملي صفات الجدارة على النحو الذي حذر منه الفيلسوف السياسي مايكل ساندل، الأستاذ بجامعة هارفارد في كتابه الجديد؛ فإذا ما تركز المؤهلون المتميزون الجديرون هؤلاء في فئات متميزة أصلاً وورثت ومنحت فرص التميز لذويها فالتحقوا بأفضل المدارس والجامعات والوظائف بدعوى الجدارة، والآخرون من حولهم لا يعينهم جهد يبذلونه ولا يساندهم اجتهاد على تخطي عقبات اجتماعية واقتصادية حائلة دون الاستفادة من الفرص المتاحة فسنكون بصدد حالة بائسة من «طغيان الجدارة» لا ينبغي أن نستقبل بها العام الجديد من العقد الثالث لهذا القرن.