بقلم محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري نقلا عن الشرق الأوسط _ انتصر العلم الحديث فسبق أكثر التوقعات تفاؤلاً، وطور لقاحات عدة لمواجهة وباء كورونا في زمن وجيز. فما كان مقدراً له أن يستغرق ما لا يقل عن ثمانية عشر شهراً، تم إنجازه قبل أن تنتهي سنة الجائحة المشهودة بأسابيع.
ولم يكن غريباً أن تخرج هذه اللقاحات من معامل وأوساط علمية شهدت استثمارات ضخمة في عمليات البحث والتطوير المنظمة والموجهة لمهام محددة في الولايات المتحدة وأوروبا والصين وروسيا. ومما يميز هذه الاستثمارات سياسات المساندة لها، وعمل مؤسسي داعم للعلماء والباحثين، ومشاركات بين مراكز البحث العلمي والحكومات والشركات، وتعاون دولي فعال بين هذه الأطراف بما يشجع على استمرار هذه الجهود عالية الإثمار.
فتهديد الوباء ما زال مستمراً مع تزايد أعداد المصابين والضحايا، كما يشكل تحوره تهديداً جديداً لزيادة احتمال التعرض لمخاطره يستوجب إسهاماً مطرداً للعلم في مطاردته. وليحقق العلم وثماره نفعاً لعموم الناس يحتاج الأمر إلى نظم فاعلة وموارد كافية على النحو الذي أكد عليه تقرير مجلس متابعة الاستعدادات العالمية لمكافحة الأوبئة؛ وهو المجلس نفسه الذي حذَّر من الوباء قبل اندلاعه بشهور؛ انتفاعاً بخبرة التعامل مع أوبئة سابقة.
ولم تؤخذ التحذيرات بجدية فصدق توقع التقرير بأن العالم حيال الأوبئة بين إهمال في الاستعدادات الواجبة قبلها، وهلع وارتباك بعد حدوثها. ونفهم من تقرير المجلس الأخير تحت عنوان «عالم مضطرب» خمسة دروس جاءت متناغمة مع توصيات تقريره السابق: أن على القيادة مسؤولية كبرى في ألا تجعل حماية حياة الناس في تعارض مع أسباب معيشتهم؛ وأن الاستعدادات الفاعلة ضد الأوبئة لا تقتصر على ما تقوم به الحكومات لحماية الناس، بل تعتمد على ما يقوم الناس لحماية بعضهم بعضاً؛ وأن أثر الأوبئة يتجاوز الأضرار الصحية إلى أبعاد اجتماعية واقتصادية تنوء بأثقالها الفئات الأشد فقراً وعرضة للمخاطر؛ وأن ما بُذل من جهد في التوقي من الجائحة لم يكن كافياً بالاعتبارات الصحية والاجتماعية أو بما يكفي الاستجابة الملائمة؛ وأن العائد على الاستثمار في تأمين النظام الصحي عالمياً شديد الارتفاع.
وتأتي تقديرات العائد على الاستثمار في نظم الوقاية على ما يجري به المثل العربي الشائع بأن «درهم وقاية خير من قنطار علاج»، فما خسره العالم بسبب الجائحة كان كافياً للإنفاق على التوقي منها لفترة لا تقل عن 500 سنة، هكذا باعتبار أن تكلفة التصدي للجائحة تجاوزت 11 تريليون دولار حتى إعداد التقرير المذكور، يضاف إليها 10 تريليونات أخرى من الإيرادات المفقودة بسبب الوباء.
في حين أن تكلفة الاستعدادات الوقائية لم تكن لتتجاوز 5 دولارات للشخص الواحد سنوياً وبإجمالي 39 مليار دولار سنوياً لسكان العالم. ويبدو أن دروس الجائحة لم تترسخ بعد؛ إذ تواجه آلية «كوفاكس» التابعة لمنظمة الصحة العالمية، والتي تستهدف إتاحة اللقاحات في الدول النامية، عجزاً بلغ 85 في المائة من إجمالي تمويلها البالغ 38 مليار دولار منذ تأسيسها العام الماضي.
بجانب علاج معضلة التمويل من المهم التأكيد أيضاً على أن الاستعدادات العالمية المطلوبة للتوقي من الوباء والتعامل معه ليست مجرد حاصل جمع لمبادرات فردية هنا وصفقات هناك؛ فالتعامل مع الوباء كصدمة عالمية ينبغي التعامل معه بمنظومة واحدة متكاملة.
فالمنظومة الصحية تقاس قوتها بمدى صلابة أضعف حلقاتها، ومن الأخطاء الفادحة مجرد الظن بأن مشكلة العالم مع الوباء ستنتهي إذا ما تحصن القادرون فيه بلقاحات وتدابير مانعة من الاختلاط بغيرهم. فالدافع لتوفير اللقاح للكافة، بما في ذلك الفقراء في الدول الأقل دخلاً، يحتمه مفهوم الحفاظ على المصلحة الشخصية، هذا إذا لم يكن كافياً دوافع وقيم أولى بالاتباع بالتراحم والتضامن في مواجهة أعتى أزمة إنسانية واجتماعية واقتصادية تواجه البشرية في العصر الحديث. وهذا النهج البسيط للتضامن الدولي، والذي لا يغيب عن المفهوم العام بالضرورة، تعوق تطبيقه ممارسات، كتسييس اللقاحات وفقاً لبلد المنشأ أو البلد المستفيد، أو المبالغة في حجز لقاحات بما يتجاوز الاحتياجات الفعلية في الدول القادرة على تدبير التمويل اللازم، أو التراخي في مساندة الدول الأكثر فقراً.
لتيسير مواجهة الجائحة في الدول النامية، بما في ذلك الدول العربية والأفريقية، ينبغي منع تقويض جهود التصدي والاستجابة لتداعياتها الصحية والاجتماعية والتعافي من آثارها الاقتصادية. ومن سبل المنع أن يُحال بين هذه الدول والوقوع في أزمات في السيولة بسبب تراجع النمو، وما تعرضت له الاقتصادات من انكماش، أو الدخول في أزمة مديونية، خاصة في ظل تصاعد بوادر لما يعرف بالموجة الرابعة لتراكم الديون التي تأتي في أعقاب موجات ثلاث على مدار العقود الخمسة الماضية، انتهت بأزمتين في دول نامية، ثم الأزمة المالية العالمية في عام 2008 التي جاءت في أعقاب الموجة الثالثة.
وقد تزايدت المخاوف من الموجة الرابعة للديون بعدما ارتفعت القروض بمقدار 7 في المائة سنوياً قبل الوباء، وتزايدت بعدها إلى نحو 9 في المائة، وفقاً لتقرير أخير للبنك الدولي.
لقد أتت الجائحة والعالم العربي، باستثناءات محدودة، يعاني من عقد مفقود للتنمية بسبب تدني معدلات النمو وتراجع الاستثمارات العامة والخاصة والتصدير، فضلاً عن معاناة عدد من الدول العربية من صراعات واضطرابات داخلية، بما جعل هذا الإقليم الوحيد بين الأقاليم كافة في العالم التي تتزايد فيها نسبة الفقر المدقع.
تعرضت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تضم أغلب البلدان العربية لانكماش اقتصادي بحدود 5 في المائة في العام الماضي لن يعوضه نمو محدود يقدر بنحو 2 في المائة في العام الحالي بما يستوجب ضبط أولويات الإنفاق العام لمساندة التصدي للجائحة وتدعيم نظم الضمان الاجتماعي، والدفع باستثمارات عامة حيوية تجذب وتمهد الطريق لاستثمارات خاصة محلية وأجنبية تفتح مجالات للتشغيل.
إذا كان من شأن استثمارات عامة في دول متقدمة وأسواق ناشئة بمقدار 1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي أن تزيد الاستثمارات الخاصة بنحو 10 في المائة بما يزيد من النمو وفرص العمل، فإن تقديرات مماثلة للعلاقة الإيجابية ينبغي إجراؤها لتوجيه الاستثمارات العامة بما يحفز النشاط الاقتصادي في فترة ما زال الاقتصاد العالمي يعاني فيها من ركود يُخشى تحوله إلى كساد مع استمرار انحسار الطلب في ظل تبعات الجائحة.
ومن المجالات ذات الأثر الإيجابي على عموم الناس والاقتصاد الاستثمارات المستدامة المتوافقة مع البيئة وتغيرات المناخ والاستثمارات الذكية التي تدفع بالتنافسية في العصر الرقمي. مثل هذه الاستثمارات الحيوية هي للاقتصاد ومستقبله كما الدراهم المذكورة في شأن الوقاية التي تغني عن قناطير العلاج.