بقلم محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري نقلا عن الشرق الأوسط – في وقت ينشغل فيه عموم الناس بتداعيات جائحة كورونا وتأثيراتها على حياتهم وصحتهم وأسباب معيشتهم، تشهد البورصات المالية أحداثاً لا تؤكد تباعدها عن الاقتصاد الحقيقي فقط، بل انفصالها عن الواقع برمته.
فهناك مزيج يتفاعل بقوة مشكلاً لظواهر جديدة في أعمال البورصات العالمية تتألف عناصره من منصات رقمية للتداول في الأسهم والأوراق بلا تكلفة يتحملها المستخدم مثل منصة «روبن هود»، ومنتديات لتبادل المعلومات والاتفاق المسبق على الصفقات واستهداف عمليات مالية بعينها، مثل موقع «ريديت» واسع الاستخدام للتواصل بين مجموعات حول موضوعات مختارة، وأموال سهلة حصل عليها جموع من الأفراد من حكوماتهم في شكل إعانات نقدية لمواجهة كورونا.
وبهذا التحالف الثلاثي بين المنصات الرقمية ومنتديات التواصل الاجتماعي والأموال السائلة وجدت أعداد غفيرة من المستثمرين الهواة الصغار ضالتهم في أسهم البورصة. وتقدر أعداد متابعي مجموعة المضاربات على أسهم بورصة وول ستريت بنحو 8 ملايين متابع على موقع «ريديت».
ويبدو أن هؤلاء المستثمرين الصغار من مستثمري التجزئة لم يكتفوا بالعوائد العالية التي حققتها الأسهم القائدة في البورصة مؤدية لارتفاع مؤشراتها في الشهور الماضية غير مبالية بانكماش اقتصادي أو بطالة أو انتشار للإصابات بكورونا.
فقادهم التفكير إلى تحدي الكيان المؤسسي للبورصة على غرار الاتجاهات الشعبوية التي شهدناها مؤخراً في المضمار السياسي التي عبرت في تصويتها باختيارات خارج البدائل التقليدية بعدما ضاقت بها ذرعاً، وإن عانت هذه الاختيارات من شطط بالغ.
وما حدث ببساطة هو أن هذه الجموع الغفيرة من المستثمرين الصغار الهواة قد اتفقوا في العلن على استهداف عدة أسهم كانت قد انهارت أسعارها لخسائرها الجسيمة ولفقدان أي فرصة في صلاح أحوالها. فضخوا أموالهم مجتمعين في أسهم لشركات تعيسة الأداء مثل «جيم ستوب» وهي سلسلة محال لبيع اللعب الإلكترونية فقدت عملاءها بسبب منافسة الشراء عبر الإنترنت ثم أجهزت عليها جائحة كورونا التي منعت مَن تبقى من عملاء التسوق المباشر من محالها المتناثرة.
كما ضارب هؤلاء المستثمرون على أسهم شركة تصنيع الهواتف «بلاك بري» التي كانت ذات صيت ثم تهاوت لفشلها في الابتكار في سوق شديدة المنافسة، وكذلك فعلوا مع أسهم شركات أخرى مثيلة في سوء الأداء وانخفاض الأسعار.
وبهذا الطلب المتزايد ارتفعت أسعار أسهم «جيم ستوب» في خلال أسابيع بمقدار 8750 في المائة، حيث ارتفعت قيمة السهم إلى 350 دولاراً، علماً بأن سعره كان قد انخفض من 57 دولاراً في عام 2013 حتى وصل إلى 4 دولارات قبل أن يرتفع السهم بهذه الارتفاعات الجنونية بفعل مضاربة رعناء لا تستند إلى أي أسس منطقية للاستثمار في شركة لا مستقبل لها حتى بعد تعافي العالم من وباء كورونا، لأن خسائرها سابقة على الجائحة بسنوات وبضاعتها التي تبيعها من ألعاب تتم تجارتها إلكترونياً.
عند كتابة هذا المقال انخفض سعر «جيم ستوب» بنحو 80 في المائة في خلال أيام معدودة ليصل إلى 64 دولاراً في مسيرة متواصلة للانخفاض بما يعكس في النهاية القيمة العادلة لشركة بلا أرباح اليوم وبلا مستقبل غداً.
لكن الأمر يتجاوز في أهميته أحداث ارتفاع سهم ثم انخفاضه أو حتى خطورة التقلبات الشديدة في السعر بإحداث فقاعات مالية لبعض الأسهم تنفجر أو تتبدد.
فلا يمكن تجاهل اعتبارات الاقتصاد السياسي لأسواق المال في العصر الرقمي. ويحلو للبعض تصوير الأمر على أنه منافسة بين المستثمرين الصغار المستضعفين مقابل عتاة السوق من صناديق الاستثمار والتحوط والمستثمرين الكبار في عقود المشتقات المالية والخيارات، والمقصود في هذه الحالة تحديداً مستثمرو عمليات البيع المكشوف التي تستخدم في حالة توقع هبوط في سعر السهم فيقترض المستثمر السهم من صاحبه، ثم يبيعه بسعر معين ثم يعيد شراءه بسعر أقل، ثم يرد الورقة المالية المقترضة لصاحبها ويستفيد المستثمر من الفرق بين السعرين، شريطة أن ينخفض السعر وإلا خسر.
وحاول مستثمرو «روبن هود» من رواد موقع «ريديت» القيام بعمل مناوئ لصناديق الاستثمار والتحوط برفع أسعار الأسهم. ثم قامت منصة «روبن هود» بوضع ضوابط وقيود على تعامل الأسهم المستهدفة مثل «جيم ستوب» تسببت في التعجيل بانخفاض الأسعار مرة أخرى على غير رغبة المستثمرين الصغار، وبما ألحق بهم خسائر عالية ومتوالية. جعل هذا أعضاء في الكونجرس الأميركي، من ضمنهم الغريمان السياسيان الديمقراطية ألكساندريا أوكازيو – كورتيز والجمهوري تيد كروز، يطالبون بلجان استماع عاجلة للتعرف على حقيقة ما جرى.
يبدو أن توجه جهات الرقابة المالية هو وضع منصة التبادل «روبن هود» تحت المجهر بالتحقيق فيما تم من ممارسات بين سماح بالتداول والارتفاع المفرط في الأسعار ثم التقييد المفاجئ في المعاملات، ولكن هذا لن يعوض المستثمرين الصغار عن خسائرهم.
وفي حين يؤكد الاقتصادي محمد العريان تعاطفه معهم، لكنه يذكرنا بدرس تعلمه مبكراً بأنه «لا صديق لك في بورصة وول ستريت»، فقد ظن صغار المستثمرين أن موقع «روبن هود» صديق لهم ثم تبينت لهم الحقيقة بخسائر فادحة.
وأشارك جيفري فرانكل، الأستاذ بجامعة هارفارد، ملاحظته عن اتجاهات صغار المستثمرين والمضاربين المعتادة في حالة الخسارة في لوم الجهة التي تحذرهم من خسائرهم، بدلاً من توجيه لومهم لمن ضللهم كقطيع سار وراء وهم أرباح لا تتحقق في أي نشاط اقتصادي متعارف عليه.
تماماً كما حدث من قبل مع حالات النصب المالي فيما عرف بـ«خديعة بونزي» ومثل ما نراه في بلادنا من خداع البسطاء والنصب على واهمين باسم توظيف الأموال، وإن كان يجري خارج البورصات المنظمة.
إن الأمر برمته لا يتجاوز أعمال المقامرة وإن اتخذ مظهراً يشبه الاستثمار. فلا يوجد في حقيقة الأمر في شركات مثل «جيم ستوب»، التي أصبحت كالمسخ، ما يستدعي الاستثمار فيها، ولكنها مقامرة محسوبة من قبل من ساق القطيع وغير محسوبة من المسوقين فيه.
ومهدت لأعمال المقامرة هذه منصات تداول رقمية عديمة التكلفة لمستخدميها فيقبلون عليها مندفعين، ومنتديات تواصل، تروج لاستهداف أسهم بمعلومات متباينة الدقة، وأموال منح التيسير المالي التي ضلت طريقها لأيد تبغي مكاسب سريعة، وفي غفلة من رقيب لم يطور أدوات إشرافه على السوق ومستجداتها، فنجم عن ذلك كله فقاعة بتداعيات طالت البريء قبل المذنب.
وقد تنشغل جلسات الاستماع وجهات الرقابة في محاولة التعرف على أوجه التجاوز وتحديد المتجاوزين المتسببين في الفقاعة الأخيرة، وقد تصدر تشريعات ولوائح جديدة بشأن تنظيم عمليات التداول والتزامات أطرافها في العصر الرقمي.
ولكن الأهم متابعة مسار الانفصال المتزايد بين أداء الشركات وأسعار أسهمها، وتحجيم مدى اعتماد الاقتصاد على مصادر مالية قوامها أصول مالية متضخمة بفعل تدنٍّ لن يدوم في أسعار الفائدة وحزم دعم نقدية سينقضي أجلها تاركة الأسواق المالية لاختبارات أسس التسعير التي ستكشف، برفق أو عنف، عن ضرورة التصحيح ومداه.
وعندئذ ستكون الذكرى بأن «روبن هود» كان فارساً من نسج الخيال لا يناسب اليقظة الواجبة في عالم الأسواق.