د. محمود محيي الدين يكتب.. الانفراج بين أزمة جيدة وأزمة تعيسة

بقلم محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري نقلا عن الشرق الأوسط – مع توالي الأزمات السياسية والاقتصادية والمالية تتردَّد على مسامعك مقولة متكررة منسوبة لحكمة من الصين تعني في لغتها «أن الأزمة نعمة ونقمة في آن واحد»، فتتعجب، ما بال أقوام لا يصيبهم من الأزمات إلا نقماتها، وأين تذهب هذه النعم؟ وقد تتذكر أن حكم وأمثال الأزمات ليست قاصرة على أهل الشرق؛ فمن المنسوب لونستون تشرشل الزعيم البريطاني، الذي لم تخل مسيرة حياته السياسية من أزمات وكوارث، وانتصارات أيضاً، أنه قال «إياك أن تضيع أزمة جيدة».

وأصول الحكمة التشرشلية، شائعة الاستخدام في يومنا هذا، ترجع لأستاذ مدرسة انتهاز الفرص، السياسي الإيطالي الأشهر نيكولو ميكافيلي صاحب كتاب «الأمير» الصادر في عام 1532، حيث أوضح ما قد تجود به الأزمات الجيدة من فرص. وتجد عموم الناس أمام الأزمات في قلق وارتياب، وترى الساسة وصناع القرار حيال الأزمات بين منكر ومؤكد، ومستسلم ومصارع، ومدمر ومنقذ.

E-Bank

في أواخر الثمانينات من العقد الماضي تابعت حديثاً طريفاً كان طرفاه أستاذين من جيل الرواد الأكاديميين في الاقتصاد والعلوم السياسية، الأول هو أستاذ التخطيط الدكتور عبد الفتاح قنديل، والآخر هو الدكتور إبراهيم صقر، أستاذ العلاقات الدولية. وكان الاستماع إليهما، رحمهما الله، ممتعاً ومفيداً.

وكان محور حوارهما هو طبعة جديدة من كتاب شهير صدر في أواخر الأربعينات للكاتب والروائي الأميركي تشارلز هاريسون تحت عنوان «شكراً لله لإصابتي بأزمة قلبية».

وطفقا يعددان الدروس والخبرات التي جاءت في الكتاب التي كان ينشد بها الكاتب إعلام قرائه بنظام حياة أكثر انضباطاً في مراعاة الإرشادات الصحية والغذائية، وبدا لي من سياق الحديث أن أحد الأستاذين قد بدأ يشكو من علة بالقلب وأن الأزمة نذير وتوجيه لبداية طريق جديدة.

تابعنا على | Linkedin | instagram

ثم انتقل الحديث من الخاص إلى العام، بحكم تخصصهما، عن ضرورة الانتفاع المبكر من شرور الأزمات في صياغة السياسات العامة في إطار أن «رُبَّ ضارة نافعة». وتمر السنوات منذئذ بأزماتها الضارة والنافعة لا يفرق بين نتائجها إلا القدرة المبكرة على التعامل مع الأزمات بحسم وفاعلية.

ولم نعدم خلال العامين الماضيين من أزمات شتى سببتها جائحة كورونا وتوابعها الاقتصادية والاجتماعية والمالية، وقد تباين أداء الدول في التعامل معها بما يجعلنا نفرّق بجلاء بين أزمات جيدة وأخرى تعيسة.

وقد فندت من قبل في مقالات نشرتها هذه الصحيفة الغراء تهافت مقولة إننا في هذا العالم سواسية في مواجهة هذه العاصفة التامة، بيّنت فيها «خرافة السفينة الواحدة».

ولنتحقق من تفاوت حدة أزمات هذه العاصفة من حيث وقعها وآثارها، بين أزمات جيدة في بلدان تصدت لها بما يعيد بناء اقتصاداتها ويعجل بتعافيها، وبلدان أخرى تكبلها قيود الموارد المالية والبشرية. ويمكن ذكر مجالات عدة لتفاقم حدة التفاوت وعدم العدالة، ولكن أخطرها في المرحلة الراهنة تفاوتات ثلاثة على النحو التالي:

التفاوت الأول: عدم العدالة في توفير اللقاح. رغم انتشار مقولات يرددها بعض قادة الدول الأعلى دخلاً على وزن «لا أحد بمأمن من خطر الجائحة إلا إذا أصبح الجميع آمناً منها»، تجد عدداً من هذه الدول وقد سيطر على اللقاحات إنتاجاً وتوزيعاً.

وقد أشارت المديرة الجديدة لمنظمة التجارة العالمية إنجوزي أوكونجو – إيويلا إلى أن 10 دول فقط قد قامت بإعطاء 70 في المائة من التطعيمات على مستوى العالم، وأن دولاً بالكامل لم تحصل على جرعة واحدة من اللقاح.

ويشهد العالم أكبر عملية سيطرة في زمن الوباء على الإنتاج والتوزيع والإتاحة للقاحات، وتعاني آليات المساندة لتوفير اللقاح في الدول الأفقر من قلة الموارد المالية، فضلاً عن حجز المنتج من اللقاحات مقدماً لمواطني الدول الأعلى دخلاً.

وليس من سبيل، فضلاً عن توفير التمويل اللازم، إلا بمراجعة عاجلة لقواعد حقوق الملكية الفكرية المتعلقة بالتجارة اللقاحات والعلاجات اللازمة للتعامل مع الوباء، قبل تحور فيروساته بما يعوق التصدي له في الدول المتقدمة والنامية على السواء. فهل ستستجيب الدول الغنية التي عطلت هذه المطالبة من قبل؟

التفاوت الثاني: تباين النمو والتعافي الاقتصادي. أصاب العالم ركود بانكماش اقتصاده بنحو 3.5 في المائة في عام 2020. وهناك توقع، متعلق بافتراضات عن مدى السيطرة على الوباء واستمرار ضخ تمويل حزم التيسير والمساندة، بأن يصل معدل النمو الاقتصادي العالمي لنحو 6 في المائة في هذا العام. أي أن ما خسره العالم في العام الماضي سيعوضه ويزيد عليه في العام الحالي. لكن هذه متوسطات تحجب أكثر مما تظهر.

ففي حين يتوقع أن يصل الاقتصاد الأميركي والاقتصاد الصيني للرقم المذكور، فدول أوروبا لن تجاري القطبين في هذا السباق، كما أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي تضم أكثر الدول العربية، تشير توقعات البنك الدولي الصادرة أخيراً إلى نموه بمقدار 2.2 في المائة وهو معدل أقل بكثير من المتوسط العالمي للنمو، كما أنه أقل من أن يعوض الانكماش الذي سببه عام الجائحة؛ إذ بلغ معدل النمو فيه سالب 3.8 في المائة. بطبيعة الحال هناك استثناءات أكثر إيجابية وسلبية أيضاً.

سيشهد العالم بذلك أداءً شديد التباين يعمق عدم العدالة في الدخول بين الدول وداخلها أيضاً، حيث لن تسترد قطاعات كثيفة العمالة كالسياحة والخدمات وبعض الصناعات معدلات إنتاجيتها السابقة على الأزمة.

في هذه الأثناء تضخ الدول، ذات القدرة على الإنفاق العام والاقتراض بتكاليف منخفضة بعملاتها الوطنية، أموالاً ضخمة كما هو الحال في الولايات المتحدة التي ضخت 1.9 تريليون دولار ستتبعها بتريليونين آخرين على الأقل في مشروعات البنية الأساسية والصحة والتعليم والخدمات العامة، وكذلك تفعل أوروبا واليابان وكوريا وغيرها من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، كلٌ وفقاً لقدرته بما يحقق الاستمرار في التعافي وزيادة التنافسية الدولية وتوفير فرص العمل. مثل هذا الإنفاق العام السخي لا يتوفر للدول العربية إلا قليلاً بما يحتم تحفيز القطاع الخاص على المشاركة مع أهمية الاستمرار في استثمارات عامة تعمل كالرافعة على أن تكون موجهة للقطاعات والمشروعات ذات الأولوية التي توفر فرص العمل وتزيد الإنتاجية.

وتظهر في هذه المرحلة أهمية الاستثمارات في التحول الرقمي وبنيته الأساسية، والمشروعات ذات التوجه التصديري، ومجالات الاستثمارات المستدامة فيما يعرف بالاقتصاد الأخضر، وكذلك في تطوير رأس المال البشري تعليماً ومهارة ورعاية صحية.

التفاوت الثالث: التمويل بتكلفة صفرية للأغنى والتمويل بصفر للأفقر. ستظل عملية تمويل التنمية وتوطينها تحدياً في ظل الجائحة والأوضاع الاقتصادية المتباينة في الدول النامية.

ففي حين تستطيع دول متقدمة الاقتراض بتكلفة تقترب من الصفر في أسواق المال، فلا سبيل للأفقر في هذه الأسواق. أما الدول الواقعة في فخ الوسط فيمكنها الاقتراض، ولكن بتكاليف باهظة تزيد من مديونياتها، التي كانت آخذة في الازدياد أصلاً قبل اندلاع أزمة الجائحة، وهي لا تستفيد من التيسيرات الأخيرة التي قدمتها مجموعة العشرين، كتأجيل أقساط الديون أو آليات لإعادة هيكلتها في ظل غياب لهيكل متكامل لبناء متكامل لإدارة الديون السيادية، هذا فضلاً عن مديونيات الشركات المتزايدة أيضاً.

ويحتاج منع تحول هذه الموجة للديون لأزمة شاملة إلى تعاون دولي يتجاوز الحلول الجزئية والمسكنات الوقتية قبل استفحالها، وعندئذ سيُذكر أن أعباء العلاج الباهظة سببها تهاون في الوقاية الواجبة، وأن بمثل هذا تأتي الأزمات.

 

الرابط المختصر