بقلم محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري نقلا عن الشرق الأوسط – قبل المباراة النهائية لكأس أمم أوروبا لكرة القدم، سأل مذيع قناة «بي بي سي» البريطانية أحد مشجعي الفريق الإنجليزي المتحمسين عن توقعاته لنتيجة المباراة النهائية بين فريق بلاده وإيطاليا، وقبل أن تصله الإجابة قال المذيع: «أعلم أنه لا معنى للتوقعات الآن، وأعرف مدى صعوبتها، ولكني سأسألك على أي حال».
وأجاب المشجع بحماس على السؤال عن توقعه بفوز محتوم للفريق الإنجليزي الذي يلعب على أرضه بفريق هو في رأيه الأفضل تشكيلاً وأداءً، وأنه فريق الآمال التي طال انتظارها الذي سيتوج بكأس الفوز، واسترسل المشجع عما سيقوم به مع باقي أنصار الفريق من أشكال الاحتفال حتى اليوم التالي الذي جعلته الحكومة عطلة في عموم البلاد.
ولم يتحقق كما نعلم أي من ذلك، إذ انتهت المباراة القوية الشيقة بالتعادل لهدف لكلا الفريقين، ثم فازت إيطاليا بركلات الترجيح عائدة بالجائزة الكبرى لروما محاطة بنشوة النصر، مع حسرة الإنجليز وخيبة توقعات هذا المشجع ورفاقه، وربما قضى يوم العطلة مجتراً أحزانه، محللاً أسباب ضياع البطولة، لائماً حظاً عاثراً أو فرصة ضائعة أو خطأ للاعب.
وأسوق هذا المثال لتوضيح صعوبة العمل الذهني لاتخاذ التوقعات، وقد قيل على سبيل التهكم إن التوقعات عملية شديدة الصعوبة، خاصة عندما تكون عن المستقبل! فالتوقعات أسيرة خبرة عن ماضٍ لا يتحكم بالضرورة في مصائر المستقبل.
والتوقعات، وكذلك القرارات، مقيدة بحدود المعرفة المتاحة في الحاضر، وهي تعاني بدورها من تحيز، كحالة هذا المشجع لفريقه، كما يضلل التوقعات ما يعرف بالضوضاء أو مؤثرات مشوهة لسلامة الرؤية والتقدير. فالتحيز، هو ما يصفه دانيال كانمان الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد في كتاب جديد ألفه مع أوليفر سيبوني وكاس سنستين بالانحيازات أو «الانحرافات المنهجية».
والتحيز يكون مسبق الإعداد ويؤثر سلباً في القرار أو التوقع كافتراض أحد المحققين في جريمة ما بأن شريحة معينة من المجتمع أكثر عنفاً وضلوعاً في ارتكاب الجرائم. فإذا مثل أحد المنتمين لهذه الشريحة المجتمعية أمامه في حادثة كان هذا التحيز مسيطراً على تفكيره ومن ثم قراره بغضّ النظر عن الحقيقة التي قد تضيع ومعها العدل بسبب هذا التحيز.
ويذهب كانمان وزملاؤه إلى أن هذه التحيزات معروفة ويمكن التعامل معها بأساليب مختلفة حتى يتم التوصل للحقيقة كمراجعة الأحكام والطعن في سلامة التحقيق بسبب ما عرف عن المحقق من تحيز.
لكن هناك مشكلة أخرى لا تقل خطورة عن التحيز في اتخاذ القرار وأكثر صعوبة في التعامل معها وهو ما يوصف بالضوضاء التي تجعل القرار معانياً مما يعرف «بالبعثرة العشوائية». فرجوعاً إلى مثال المحقق لا تتوقف المشكلة عند انحيازه ضد جماعة معينة أو معها، ولكن في إطار الحكم على عناصر من ذات الجماعة قد يعاني القرار من عيوب وعدم اتساق، بناء مثلاً على الحالة التي كان عليها المحقق ذهنياً أو صحياً قبل أو أثناء التحقيق.
والخلاصة هو أنه عندما يتم اتخاذ قرار أو حكم أو نصيحة طبية، على سبيل المثال، يجب العمل على تقليص التأثير السلبي لهذه التحيزات وكذلك مؤثرات الضوضاء على القرارات للاطمئنان على سلامتها من المشوهات.
وفي عالم الاقتصاد، إذا ما زادت ظروف المخاطرة يصعب اتخاذ القرار حتى إذا اتخذت التدابير للتخلص من التحيز في الأحكام أو تقليل أثر الضوضاء. ولهذا يتم اتخاذ القرار في حالة المخاطرة وفقاً لبدائل تتعلق باحتمالات المستقبل. أما في ظروف اللايقين فهي تتجاوز المخاطرة لأن احتمالات حدوث الواقعة وبدائلها لا تكون معروفة أصلاً. فهي كمحاولة إصابة هدف في ظلمة حالكة. وفي هذه الحالة ترتفع تكاليف اتخاذ القرار والتوقي من آثاره.
وإذا ما تابعنا نتائج وقرارات اجتماعات مجموعة العشرين التي انتهت منذ أيام تجدها حتماً تعاني من مشكلة التوقعات. فقراراتها تعتمد على شكل التعافي في النمو الاقتصادي في هذا العام والعام المقبل، وإذا ما كان معدل النمو سيتبع المسار المتوقع، في حدود 5.5 في المائة إلى 6.5 في المائة. لكن هذا التوقع يرتبط بدوره بتوقعات التعافي الصحي والسيطرة على الجائحة التي ما زالت تعصف بحياة الناس وأسباب معيشتهم. وهذا التوقع يرتبط بمدى فاعلية اللقاحات في التعامل مع فيروس كورونا وتحوراته المستجدة من ناحية وكذلك مدى فاعلية إجراءات التحفيز الاقتصادي في دفع قطاعات الإنتاج والتشغيل لتحقيق المستهدف منها.
وفي هذه الأثناء يهدد هذه التوقعات الاقتصادية، شديدة الارتباط بافتراضات متشابكة، 4 معوقات كبرى…
– عدم كفاية اللقاحات وعدم إتاحتها للبلدان النامية بما يهدد زيادة الإصابات والوفيات وارتباك القطاعات الصحية مع تحور الفيروس، وانتقال عدواه عبر الحدود بما في ذلك الدول المتقدمة التي نجحت في تطعيم نسب كبيرة من مواطنيها. علماً بأن وعد مجموعة السبع بتوفير لقاحات لا يفي إلا بأقل من 10 في المائة من عجز اللقاحات. وما زال هناك تعنت في السماح بإنتاج اللقاحات في الدول النامية، وذلك بتمسك دول متقدمة بقيود حقوق الملكية الفكرية رغم المطالبة في منظمة التجارة العالمية بالإعفاء المؤقت منها.
– تباين قدرات الإنفاق المالي للتصدي للجائحة والتعافي منها، ففي حين أنفقت البلدان المتقدمة ما يزيد على 25 في المائة من نواتجها المحلية الإجمالية، تقل هذه النسبة عن 7 في المائة في البلدان متوسطة الدخل، كما لا تتجاوز 2 في المائة في البلدان الأقل دخلاً.
– تداعيات ارتفاع التضخم، خاصة في الولايات المتحدة الذي وصل فيها معدل الارتفاع السنوي للرقم القياسي لأسعار المستهلكين، إلى 5 في المائة في شهر مايو الماضي، وهو رقم مرتفع بمعايير الدول المتقدمة. ويؤثر ذلك على توجهات أسعار الفائدة وتكلفة الاقتراض وأوضاع الدين الخارجي ومدى استقراره، فضلاً عن ارتفاع تكلفة سلع أساسية مستوردة على ميزانيات الدول.
– جانب من النمو المتوقع لا يرتبط بخلق فرص عمل، ما يزيد من حدة التباين في توزيع الدخول والثروات.
هذه التفاصيل مهمة عند تحليل توقعات النمو، وبها تكمن شياطين، تُعيق التوصل للتعافي المأمول لصحة عموم الناس واقتصادهم. فقد اختزلت إجراءات التعافي في مجالات لا تجعل هذا التعافي شاملاً أو مستقراً أو مستداماً. فقد أصبح النمو بلا عمل والكسب بلا جهد.
فأرقام النمو المذكورة غير مقترنة بالتشغيل للمتعطلين الذين تجاوز عددهم 250 مليوناً، وتتزايد أعداد أصحاب المليارات وتتفاقم ثرواتهم في حين يُدفع بأكثر من 120 مليون إنسان لهوة الفقر المدقع.
هذا التباين في سرعات التعافي بين الدول لا يحمل معه سوى التوتر والنزاعات والاضطرابات الاجتماعيات التي طالما أعقبت الأزمات. والأزمة الراهنة من أشد أزمات العصر الحديث وطأة، بما يستلزم إجراءات أكثر حسماً وسرعة لإنقاذ حياة الناس وأسباب معيشتهم وأمن مجتمعاتهم.