بقلم محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري نقلا عن الشرق الأوسط – هناك مقولة قديمة يتداولها المتعاملون في بورصات الأسواق المالية مفادها «اشتر عندما تصلك شائعة وبع عندما يأتيك الخبر اليقين».
وهذه مقولة تستوجب استخداماً حكيماً من محترفي التعامل في البورصات وكانت محل دراسات تطبيقية مدققة. كأن يشيع احتمال زيادة إيرادات شركة متداولة قبل أن يصدر تقرير معتمد لقوائمها المالية، فيقوم المضارب في البورصة بشراء أسهمها آملاً في تحقق هذه الشائعة محققاً مكسباً إذا صادفت الشائعة الحقيقة فيزيد إقبال المستثمرين على شراء سهم الشركة أو يمنى بخسائر فادحة إذا ما جاءت النتائج الفعلية على خلاف الشائعات.
نحن هنا لسنا بصدد استغلال معلومات داخلية وهو ما تجرمه كافة القوانين المنظمة للبورصات، فالمضارب في هذه الحالة لا علم له إلا بما هو متاح للكافة من معلومات موثقة ولكنه تجاوزها بمطاردته للشائعات، وهي معلومات أيضاً ولكنها غير موثقة، أملاً في الكسب الذي قد ينتهي إلى خسارة.
وفي واقعة رصدها الاقتصادي ماركوس برونيرمير في دراسة منشورة عام 2001 عن إحدى شركات الخدمات البترولية التي حققت خسائر في عام 1993 ولكن قبل أن تنشر هذه الخسائر رسمياً بلغ بعض المضاربين شائعة الخسائر فقاموا بالبيع المبكر محققين مكاسب بالبيع قبل انخفاض السهم ثم بعدما ازداد السعر انخفاضاً بعد تداول المعلومات الموثقة قاموا بالشراء.
أي أنهم حققوا مكاسب من ذات السهم مرتين مستفيدين من السبق في البيع ثم لمعرفتهم العامة بأن بعض حملة السهم قد يبالغون في رد الفعل بالبيع بأسعار أقل من السعر العادل للسهم. وانتهت الدراسة بتوصيات مهمة مساندة لجهات الرقابة والسلطات التشريعية لتشديد القيود الملزمة للتعامل مع المعلومات الداخلية وتغليظ العقوبات على استغلالها كجريمة ذات آثار وخيمة على الاقتصاد وحقوق المستثمرين.
وفي دراسة للبنك الفيدرالي الأمريكي عن الآثار الممتدة للشائعات والمعلومات المضللة نشرت عام 2011، وخلاصتها أنه في عام 2008 انتشر على شبكة المعلومات – الإنترنت خبر قديم يعود لست سنوات سابقة عن تقديم الشركة الأم لخطوط طيران يونايتد لطلب بإجراءات إفلاسها بما سبب انخفاض سعر سهمها بأكثر من 75 في المائة في دقائق معدودة.
وبعد إيقاف تداول السهم من قبل سلطات بورصة ناسداك وتصحيح المعلومات وتكذيب الأخبار المغلوطة عمداً تحسن سعر السهم ولكن أقفل اليوم بأقل من سعره السابق بنحو 11 في المائة وظل السهم لفترة يعاني من نقصان سعره بسبب تطاير هذه الشائعة المستندة لخبر قديم دس عمداً للتأثير على سعر السهم.
أؤكد أن ما يمكن للقانون منعه وتجريمه هو استغلال المعلومات الداخلية قبل اتخاذ إجراءات إتاحتها لعموم المستثمرين بشفافية والتزام، ولكن يعجز أي قانون عن منع الشائعات كمعلومات غير موثقة وإن كانت جهات الرقابة المالية والمسؤولون المعنيون بالشركات المتداولة مخاطبة بقوانين تحث على المواجهة المبكرة للشائعات بمعلومات وافية وفقاً لقواعد الإفصاح والشفافية المتعارف عليها وتتسلح بترسانة من العقوبات المغلظة في حالات التجاوز.
ولكن الشائعات لا مانع لها إذا ما انطلقت ومن موضوعاتها المتداولة ما لا يخضع لسلطات الشركة أو جهات الرقابة عليها كأن يشيع خبر عن تغير معدلات الضرائب أو أسعار الصرف أو رسوم الجمارك أو مستجدات سياسية تؤثر في النهاية على أسهم الشركة، وبالتالي فالمخاطب بالإفصاح والشفافية ليس الشركة المعنية فقط ومراقبيها ولكن عموم أطراف الشأن العام.
وبما أننا لن نصل لحالة مثالية من شفافية واكتمال المعلومات وإتاحتها للكافة بافتراض أنهم سيتعاملون معها بكفاءة، فستظل الشائعات محل تداول وتزداد انتشاراً محققة لمكاسب وخسائر لمستغليها وضحاياها.
ورغم التشدق بأننا نعيش في عصر المعلومات والمنصات الرقمية التي تتدفق من خلالها البيانات بسرعات وكميات غير مسبوقة، وتتباري جهات تدقيق وتحليل البيانات في النشر والإفصاح، تتكاثر الشائعات كمعلومات غير موثقة ويروّج لها باحث عن اهتمام أو صاحب مصلحة، وتتداولها جلسات الثرثرة بين الناس ويزيدها انتشاراً منصات التواصل الاجتماعي.
وإن كنت قد أشرت لأمثلة معاصرة لتأثير الشائعات على البورصات والاستثمار والاقتصاد، فجدير بالإشارة أن الشائعات منذ القدم تحمل ما يستعد المتلقي لتصديقه. وقد تحمل أملاً أو تحذر من مكروه وإن كان الإصدار المنظم لها عادة ما يقصد به التضليل والإلهاء. وفي حالات المنافسة العاتية والنزاع تستخدم الشائعات كأداة من أدوات إلحاق الضرر بالخصوم، وهي من أشد الأسلحة فتكاً في حالات الصراع والحروب لإحداث الفوضى في صفوف العدو وجبهته الداخلية.
وقد أوضحت كيلي بورن المديرة التنفيذية لمركز جامعة ستانفورد للسياسات السيبرانية ما قامت به بعض الدول من تعديلات قانونية لتغليظ العقوبات المالية على شركات ومنصات تداول المعلومات في حالة عدم إزالتها في خلال 24 ساعة أي محتوى غير قانوني أو مضلل، وبلغت العقوبة المالية 60 مليون دولار في حالات التحريض والتسبب في أذي من خلال خطابات الكراهية والعنصرية والعنف.
ولكنها توضح ست عقبات في سبيل فاعلية إجراءات الرقابة المانعة للتضليل وسوء استخدام المعلومات الضارة بالمجتمع والاقتصاد. العقبة الأولى ترتبط بانتشار وتنوع مصادر المعلومات بمختلف درجاتها من الدقة والمصداقية فأي شخص أو جهة بحساب على شبكات التواصل بقدر معقول من المتابعين يمكن أن يروج المعلومات وإن كان في هذا الأمر من منافع غير منكورة إلا أنها لا تخضع لقواعد التدقيق والمراجعة التي كانت منوطة بالصحف ووكالات المعلومات الرصينة.
العقبة الثانية: أن نشر هذه المعلومات لم يعد مكلفاً، فلا يحتاج الأمر لتكلفة تذكر لكي تصل المعلومة الصائبة أو المغلوطة لجموع القراء والمشاهدين، وقد كان قيد التكلفة في السابق يستلزم تدقيقاً في ما إذا كانت المعلومة تستحق النشر والتوزيع فيما قبل العصر الرقمي.
العقبة الثالثة: أن مصدر المعلومة بات مشتبهاً بين المصادر ذات المصداقية والاحتراف وأخرى مدعية ولا تتمتع بمهنية علاوة على من يتعمد الإيذاء والتضليل، وفي دراسة لمعهد الإعلام الأميركي اتضح أن مصدر المقال أو المعلومة أصبح أقل أهمية من المجموعة التي تقوم بتوزيع الرابط للمقال، وقد يكون مصدر المقال الأصلي أحد أنصار نظريات المؤامرة وهم كثر.
العقبة الرابعة تتمثل في مجهولية مصدر المعلومة وموزعها في أحوال كثيرة بغض النظر عن طبيعة الموضوع وحساسيته.
العقبة الخامسة هي القدرة الفائقة لوسائل توزيع المعلومات على استهداف وتصميم المعلومة وفقاً لمتلقيها من خلال التعرف على المتلقين وهواياتهم وتفضيلات حياتهم بما يسهل اختراق سلوكهم والتأثير في تصرفاتهم، بما يصعب معه حمايتهم من المعلومات المضللة.
العقبة السادسة أن وسائط تداول المعلومات في العصر الرقمي كمنصات التواصل الاجتماعي لا تخضع فعلياً إلا لنوع من أنواع الرقابة الذاتية وفقاً لميثاق للسلوك تتبناه وفقاً لما تراه مناسباً لها. وقد عانت دول مثل الولايات المتحدة لسنوات في محاولة إرساء معايير يتم التوافق لحملات الدعاية الانتخابية ومصادر تمويلها.
وكما ذكرت جيلان تيت الكاتبة في «الفاينانشيال تايمز» البريطانية إذا ما سئل قراء صحيفة رصينة كصحيفتها هل يستطيعون التفرقة بين الأخبار الصادقة والأخبار الملفقة، فسيجيبون بـ «نعم». ولكن دراسة تطبيقية لمركز أبحاث بجامعة نيويورك أفصحت أن المشاركين في الاستقصاء أثبتوا قدرة طيبة على التعرف على الأخبار الصادقة، ولكن قدرتهم على التعرف على الأخبار المزيفة أو الملفقة لم تكن جيدة على الإطلاق.
لم يختلف الأمر إذن في نتيجته سواء في عصر المعلومات، الذي نعيشه اليوم عن عصور سابقة عانت من حجب المعلومات، فالحصول على المعلومة الدقيقة ليس أمراً سهلاً. وعلى من أراد الحقيقة وتنقيتها من التضليل وشوائب الشائعات أن يبذل جهداً في الوصول إليها بالاحتكام إلى العقل واستفتاء القلب، ويعين على هذا استثمار لا ينقطع في إتاحة المعلومات المدققة من مصادرها وتبسيطها، ولا بأس أبداً بتطوير سبل عرضها وسردها لتنافس الشائعات انتشاراً، فهي لا تخلو عادة من طرافة وجاذبية حتى يتداولها الناس بشغف.
وعلى سبيل التمرين للتعرف على الحقائق من المعلومات المضللة أطرح هذه الأسئلة البسيطة:
هل هناك وباء فعلاً تعاني منه البشرية أم هذا محض ادعاء؟
هل لقاح «كورونا» أكثر ضرراً من فيروس «كورونا»؟
هل تغيرات المناخ حقيقة مهددة للبشرية ومستقبل الأرض؟