بقلم د. محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري نقلا عن الشرق الأوسط – قلَّما تقرأ استشرافاً أو توقعاً عن تطورات الاقتصاد العالمي في بداية هذا العام من دون كلمات رقيقة تنبّه القارئ أن كاتبها قد رغب في أن يكون أكثر تفاؤلاً، ولكن مسارات الاقتصاد ما زالت عصية على سالكيها.
على أي حال لا يملك المستشرفون والمتوقعون بلورات مسحورة تطلعهم على مستقبل المتغيرات الاقتصادية أو ما يؤثر فيها ويتأثر بها من مستجدات سياسية وعوامل اجتماعية، فمنهم من يعتمد على نماذج قياسية معقدة، أو بسيطة، للتنبؤ، ومنهم من يستمزج اتجاهات الرأي العام وتقارير الخبراء المختصين ليخلص إلى توقعه.
القضية هنا، أنه إذا كان «الحكم على الأمر فرع من تصوره» كما يقال، فإن هذا التصور مقيد بحدود المعرفة والبيانات المتاحة والقدرة العلمية على تحليلها. وفي الظواهر الاجتماعية، وفي مقدمتها الاقتصادية، يصعب الفصل بين الموضوع محل التحليل من ناحية وانحيازات المحللين الفكرية وانتماءاتهم الآيديولوجية، بل وتمنياتهم الشخصية.
المشكلة تظل في حالة الاقتصاد أن التوقعات لها دور في تشكيل الظاهرة ومساراتها. وأبرز مثال على أثر التوقعات في الاقتصاد هو ما يرتبط منها بالتضخم.
ومن المدارس الاقتصادية ما يعدّ المحدد الرئيسي للتغيرات في الأسعار هو توقعات عموم الناس كمستهلكين ومستثمرين ومدخرين، بمعنى أن تقلبات الأسعار ترجع لعوامل نفسية يصعب قياسها كمياً أو التنبؤ بها. ويتفق أنصار هذه المدرسة على أن زيادة عرض النقود بكمية لا تتناسب مع العرض الحقيقي للسلع والخدمات المنتجة تؤدي حتماً إلى زيادة في المستوى العام للأسعار.
فإذا كان هناك علم لدى عموم الناس بزيادة في عرض النقود بما يتجاوز الناتج، فسوف يستخدمون هذه المعلومة لتغيير سلوكهم بما يتواءم مع التغير في مستويات الأسعار المتوقعة.
معنى هذا ببساطة أن ما يتوقعه الناس لمسار التضخم سيحدث لأنهم يسببون حدوثه وهم شركاء بتوقعاتهم هذه في صنعه.
هناك آراء ونماذج متعددة تدرس أثر التوقعات على الأداء الاقتصادي، وقد حصل الاقتصادي الأميركي روبرت لوكاس على جائزة نوبل في الاقتصاد لأعماله التي طورت نماذج اعتمدت على فروض التوقعات الرشيدة.
ويعتبر لوكاس من أكثر الاقتصاديين تأثيراً في الربع الأخير من القرن الماضي، بما قام به من دراسات غيرت من طبيعة التحليل الاقتصادي، وخاصة فيما يتعلق بالعلاقة بين التضخم والبطالة، وفقاً لما ذكرته لجنة جائزة نوبل لعام 1995 كحيثية لحصوله على هذه الجائزة المرموقة. ولعلنا نتذكر في هذا الصدد مقولة تتردد في المحافل الأكاديمية مفادها «أنه وفقاً للنظرية لا يوجد فرق بين النظرية والتطبيق، ولكن في التطبيق هناك فرق!».
ورغم الجدل حول مدى انطباق فكرة التوقعات الرشيدة في الواقع العملي، وما تحتاج إليه من بيانات ومعلومات يجب توفيرها لكي يتوصل الناس لتوقعاتهم، وإذا ما كانت في النهاية رشيدة فعلاً أم لا، فإن مسألة التوقعات حيال معدل التضخم وتأثيرها في مساراتها المستقبلية مسألة حيوية في أعمال البنوك المركزية وإدارتها للسياسة النقدية.
وقد ارتفعت معدلات التضخم في الولايات المتحدة وأوروبا عن المستهدف، الذي كان لا يتجاوز فيهما 2 في المائة سنوياً، لتقترب من 7 في المائة في أمريكا وتتجاوز 5 في المائة في الاتحاد الأوروبي، وهي أرقام مرتفعة لم تشهدها الولايات المتحدة منذ 40 عاماً كما لم يشهدها الاتحاد الأوروبي منذ خروج عملته – اليورو – منذ عقدين.
وتعول البنوك المركزية الرئيسية على التأثير في التوقعات عن زيادة الأسعار وجعلها تميل إلى معدلات أقل من خلال التأكيد على أنها «ستقوم بكل ما يمكنها لمنع زيادة معدلات التضخم»، وأنها تملك أدوات السياسة النقدية المباشرة، كسعر الفائدة، وغير المباشرة، من خلال تدخلها مشترية أو بائعة للأصول المالية، بما يحقق هذه الأهداف كما فعلت من قبل.
أفرد هذا الجانب الأكبر لمناقشة وضع التضخم في الاقتصاد الأمريكي، ليس فقط لأنه الاقتصاد الأكبر عالمياً، حتى الآن، ولكن لتأثير الدولار كعملة احتياطي وعملة دولية للتجارة والاستثمار.
فعملة الدولار ما زالت تحتل 60 في المائة من الاحتياطي الدولي في عام 2021، نزولاً من 71 في المائة في عام 2000 ويليها اليورو بنسبة 21 في المائة والين بمقدار 6 في المائة والإسترليني 5 في المائة والرينمينبي الصيني 2 في المائة، وأغلبية الاحتياطي الدولاري للدول المحتفظة به مشكل من سندات على الخزانة الأمريكية.
ويحتفظ المستثمرون والأفراد حول العالم بنحو 950 مليار دولار أو 50 في المائة من إجمالي البنكنوت المصدر. كما أن الدولار ما زال يشكل 95 في المائة من تسوية معاملات التجارة في الأمريكتين، و74 في المائة في المعاملات التجارية الآسيوية و79 في المائة في باقي العالم، والاستثناء الوحيد هو أوروبا، حيث يسيطر فيها اليورو. كما يشكل الدولار 60 في المائة من سوق الديون الدولية ويأتي بعده اليورو بفارق كبير بنصيب 23 في المائة.
وهناك رأي بأن الفيدرالي الأمريكي قد بالغ في اعتبار أن التضخم الذي شهده الاقتصاد مؤقتاً عابراً، رغم دلائل بأنه مستمر لاعتبارات تتعلق بجموح الطلب على السلع والخدمات مع عجز خطوط الإنتاج قنوات التجارة وعرض العمل عن ملاحقته، لأسباب أوضحتها في مقالات سابقة عدة في هذه الصحيفة الغراء.
وكان من مبررات هذه المبالغة التي ساقها بعض الاقتصاديين هي محاولة التأثير على التوقعات حتى لا تأخذ بالتضخم لمسار أعلى مما يفسره الوضع الاقتصادي.
وعند سؤال الكاتب الاقتصادي المخضرم بصحيفة «الفاينانشيال تايمز» مارتين وولف، عما إذا كان معدل التضخم الأمريكي سيعود لهدفه القديم مع نهاية عام 2022، والذي كان يحدده البنك الفيدرالي بمقدار 2 في المائة سنوياً؟ كانت إجابته بلا! معللاً ذلك بأن وصف التضخم المرتفع الذي شهدته الولايات المتحدة بأنه مؤقت كان خطأً.
ورغم احتمال انخفاض حدة نقصان السلع والخامات والخدمات التي شهدها الاقتصاد في هذا العام، فهناك ضغوط على سوق العمل ستزيد تكلفة الأجور، كما أن سعر الفائدة الحقيقي أصبح سلبياً بما يجعل احتمال زيادة مؤشر التضخم الرئيسي أكبر من انخفاضه.
وفي تقديري أن مكافحة التضخم المستمر والمتزايد ستعود لتحل محل البطالة كأولوية أولى للسياسة الاقتصادية العامة في الدول المتقدمة في هذا العام.
وفي حالة الولايات المتحدة تظهر المؤشرات أنه بالإضافة إلى سحب إجراءات التيسير النقدي سيتبع ذلك زيادات متتابعة عدة لأسعار الفائدة، في حدود ربع نقطة مئوية في المرة، ووفقاً لتقديري الشخصي سيصل بذلك سعر الفائدة على الدولار الأمريكي في خلال عامين من الآن إلى مدى يتراوح بين 1.75 في المائة و2 في المائة، ارتفاعاً من مستواه الحالي الذي يقع في مدى صفر إلى 0.25 في المائة منذ مارس 2020.
وقد تتغير هذه النسب بهامش محدود وفقاً لمستجدات التضخم وأداء سوق العمل والأجور. ورغم هذه الزيادات التي تبدو محدودة، فإن أثرها على تخفيض التضخم سيكون كبيراً إذا ما صاحبها تواصل يعزز الثقة في توجهات البنك المركزي.
ولكن آثارها على الفقاعات التي تعاني منها أسواق المال وأسعار الأصول العقارية والذهب وكذلك ما يسمى بالأصول المالية المشفرة ستكون أكبر.
بما سيعدّه البعض تصحيحاً وقد يعدّه البعض الآخر بداية لموسم فقء الفقاعات لأصول حلقت أسعارها بما يتجاوز قيمها وعوائدها الاقتصادية الحقيقية. وسيصاحب ذلك تقلبات في أسواق المال والتدفقات الرأسمالية الموجهة للأسواق الناشئة والدول النامية بما في ذلك من تبعات.
وفي هذه الأثناء، فعلى الدول النامية الاستمرار في مكافحة التضخم من خلال استكمال بناء وتطوير إطار استهداف التضخم وقد أوضحت هذا الإطار في ستة عناصر، كإسهام تحت عنوان التضخم في الموسوعة العربية للمعرفة التي أعدتها الأكاديمية العربية للعلوم بالتعاون مع اليونيسكو في عام 2006، ألخصها فيما يأتي:
1. الإعلان العام عن أرقام معدل التضخم المستهدف الوصول إليها في الأجلين القصير والمتوسط.
2. الالتزام المؤسسي الصارم باستقرار الأسعار كهدف للسياسة الاقتصادية عامة وليس النقدية فقط.
3. وضع سياسة شاملة للمعلومات وضوابط الإفصاح عنها وتداولها وحمايتها.
4. تطبيق أسس الشفافية والإفصاح في تنفيذ السياسة النقدية وتفعيل الاتصال مع الجماهير والأوساط المعنية بهذه السياسات.
5. تمكين البنوك المركزية قانونياً وعملياً من الصلاحيات والأدوات الكافية لتحقيق أهداف الاستقرار النقدي والمالي، وضمان استقلالها في تفعيل هذه الأدوات.
6. استخدام إطار استهداف التضخم المعلن في تقييم أداء السياسات العامة وجودة التنسيق بين السياسات المالية العامة والسياسة النقدية.
بالإضافة إلى استهداف تخفيض التضخم، فالدول النامية مطالبة بالحفاظ على معدلات عالية للنمو والتشغيل تواجه بها تحديات الفقر وتفاوت توزيع الدخل، وهي في توجهها هذا عليها تجنب الوقوع في فخاخ المديونية.
وبداية العلاج التنموي لهذه المعضلات هو الاستثمار في البشر والبنية الأساسية والتكنولوجية وفي قدرات المجتمعات على التصدي لتغيرات المناخ وإدارة التحول المطلوب وفقاً لنهج التنمية المستدامة.