بقلم د. محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري نقلا عن الشرق الأوسط.. تَصادف أن تكررت نسبة 3 في المائة كإحصاء ذي دلالة في أكثر من تقرير لمتابعة العمل المناخي. فنصيب القارة الأفريقية من إجمالي الانبعاثات الضارة بالمناخ يدور حول 3 في المائة، ورقم المائة دولار الموعودة للتصدي لأزمة المناخ منذ عام 2009 لا تتجاوز 3 في المائة من إجمالي احتياجات الإضافية المطلوبة سنوياً للبلدان النامية لتمويل استثمارات التخفيف من الانبعاثات الضارة والتحول نحو مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة وتكاليف التكيف مع آثار تدهور المناخ خاصة في قطاعات الزراعة وإنتاج الغذاء وحماية مياه الأنهار وحماية المحيطات من التلوث وصيانة وتمتين وتطوير البنى الأساسية في المدن والريف والمناطق الساحلية. وظهرت نسبة 3 في المائة أيضاً في تقرير حديث صادر عن المركز العالمي للتكيف بروتردام عن تمويل التكيف في أفريقيا، فكان ذلك نصيب القطاع الخاص من إجمالي تمويل جهود التكيف مع المناخ في القارة السمراء والبالغ 11.4 مليار دولار؛ علماً بأن التقديرات تشير إلى أن الاحتياجات الفعلية تتجاوز 7 أمثال هذا الرقم سنوياً حتى عام 2030.
دلالة نصيب أفريقيا المحدود من الانبعاثات الضارة بالمناخ
يشكل الأفارقة 17 في المائة من سكان العالم، إذ يبلغ عددهم 1.4 مليار نسمة، أكثر من 40 في المائة منهم يقعون تحت عمر 15 سنة، وبتوقع حياة عند الولادة هو الأدنى في العالم إذ لا يتجاوز 52 عاماً. وأن تشكل نسبة أفريقيا في إجمالي الانبعاثات الضارة 3 في المائة ليس مدعاة للارتياح والحبور بـأنها متوافقة مع معايير العمل المناخي بقدر أنه إشارة إلى تدني الإنتاج والنشاط الاقتصادي والاستهلاكي وفقاً للتكنولوجيا السائدة.
فالقارة تعاني من الخدمات الأساسية، إذ يُحرم 600 مليون من سكانها من خدمات الكهرباء، أي إن 3 من كل 4 أشخاص من المحرومين من الكهرباء أفارقة. وتتركز في القارة النسب الأعلى ممن يعانون من الفقر المدقع الذين زاد عددهم عالمياً إلى ما يتجاوز 865 مليون إنسان. ورغم أن أفريقيا هي الأقل إسهاماً في التأثيرات الضارة بالمناخ هي حتماً الأكثر تضرراً منه والأشد عُرضة لمضارّ ارتفاعات حرارة الأرض بما هو مشاهَد ومسجَّل من زيادة التصحر والأعاصير والفيضانات وحالات الجفاف في ربوع القارة، وتتزايد فيها الهجرة الإجبارية ونزوح السكان هرباً من آثار تدهور المناخ على حياة الناس وأسباب معيشتهم.
ويعاني تمويل استثمارات مشاريع المناخ وتكاليف التصدي لها من علّات كثيرة يمكن تلخيصها بأنه قاصر وقليل الكفاءة وغير عادل. أما قصوره فيرجع لأن ما هو متاح من تمويل بلغ نحو 385 مليار دولار لا يكفي بالكاد سُدس ما هو مطلوب لتحقيق أهداف العمل المناخي حتى عام 2030 والحفاظ على عدم تجاوز درجة حرارة الأرض 1.5 درجة مئوية فوق متوسطاتها إبان الثورة الصناعية كنقطة حرجة لا يمكن تجاوزها. أما سبب وصف تمويل المناخ بقلة الكفاءة فهو لما تستغرقه عملية التمويل من زمن قد يتجاوز 3 سنوات منذ البدء في تقييم الاحتياجات في الدولة المعنية حتى يتم توفير التمويل اللازم بما يعنيه ذلك من استمرار الحرمان من خدمات ومنافع أساسية كمصادر الطاقة أو زيادة فترات التعرض لأزمات من جراء تداعيات التدهور البيئي والمناخي.
أما عن عدم العدالة فحدِّث ولا حرج. فالدول الأقل تأثيراً في تدهور المناخ مطالَبة بالاقتراض باهظ التكلفة للتعامل مع آثاره. فأكثر من 60 في المائة من التمويل يعتمد على القروض التي لا تتجاوز نسبة منخفضة التكلفة منها 12 في المائة ولا يشكل التمويل من خلال المنح أكثر من 6 في المائة وباقي التمويل يأتي في شكل استثمارات. هذا فضلاً عمّا يعانيه تمويل العمل المناخي من انحياز ضد التكيف الذي لا يشكل أكثر من 15 في المائة إلى 25 في المائة من إجمالي التمويل الممنوح من مؤسسات التمويل مفضلةً تمويل تخفيف الانبعاثات وتوليد الطاقة المتجددة. ويشكل هذا تزاحماً وتهديداً لاستثمارات القطاع الخاص ذات القدرة الكبرى على القيام بالاستثمارات في مجالات التخفيف.
ويشير تقرير تمويل التكيف في أفريقيا إلى أن من إجمالي تمويل التكيف في مجالاته المختلفة في أفريقيا شكل التمويل العام 97 في المائة كان منها 30 في المائة قروضاً ميسّرة و23 في المائة قروضاً تجارية و45 في المائة منحاً، وكان نصيب القطاع الخاص 3 في المائة فقط. ويبدو أن جدوى الاستثمار في مشروعات التكيف لا يتبناها بعد القطاع الخاص لأن العائد العام منها يتجاوز العائد التجاري. وهناك جهود للمشاركة بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص في بعض البلدان ومجالات للتحفيز متنوعة، ولكن القطاع الخاص ما زال عازفاً عن الخوض في مشروعات التكيف. قد تغير تصميمات المشروعات المطروحة من حالة العزوف خصوصاً في إطار تفعيل المزج بين مشروعات الطاقة الجديدة والمتجددة التي يتحمس لها القطاع الخاص مع مشروعات المياه والإنتاج الزراعي والغذائي. وفي إطار المبادرة التي تبنتها الرئاسة المصرية لقمة المناخ السابعة والعشرين بالتعاون مع اللجان الإقليمية الاقتصادية للأمم المتحدة ورواد المناخ، ظهرت فرص لمشروعات قابلة للتمويل وذات جدوى لاستثمار القطاع الخاص في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية سيتم تطوير قواعد بياناتها واستكمال معلوماتها لعرضها في قمة شرم الشيخ في شهر نوفمبر.
تُظهر مؤشرات العمل المناخي والأمثلة المسوقة لتمويله الحاجة العاجلة لإصلاح البناء المالي العالمي لتمويل التنمية والمناخ معاً. فالعزلة المفتعلة بين معسكرين أحدهما للمناخ والآخر للتنمية أضرت بهما معاً وشتت التمويل، وأضرّت بالسياسات المالية والاستثمارية خصوصاً في البلدان النامية. ويُنتظر من قمة شرم الشيخ أن تحدِّث تقارير متابعة التمويل الدولي للعمل المناخي بما في ذلك وعد المائة مليار لقمّة كوبنهاغن، وتوضح ملامح مستقبل تمويل العمل المناخي والتنمية لما بعد عام 2025، وتقترح أساليب وآليات عملية لتخفيف الاعتماد على الاقتراض الدولي، وزيادة دور الاستثمارات الخاصة ومراجعة آليات تخفيض الديون باستثمار عائدها في مجالات العمل المناخي والطبيعة والتنوع البيئي. ومن المنتظر أيضاً من هذه القمة أن تشارك تجارب الابتكار المالي وتطوير أسواق الكربون بما يتوافق مع احتياجات البلدان النامية. ومن المتوقع أيضاً أن تعلن مخرجات تقارير جارٍ الانتهاء منها عن الاستثمار في مجالات البيئة والأبعاد الاجتماعية والحوكمة والقواعد الملزمة لمنع ما يُعرف بالغسل الأخضر والتدليس في توظيف الاستثمارات وتضليل المستثمرين بإحكام قواعد الرقابة والإفصاح. ومن الضروري في هذا الصدد التأكيد أن تتوافق موازنات الدول وإنفاقها العام مع أولويات التنمية ورؤى 2030 وأهداف العمل المناخي. فموازنة الدولة ليست مجرد إحصاءات محاسبية لموارد الدولة ونفقاتها ولكنها تمثل التعبير العملي عن نهج التنمية الذي تتبعه وأولوياتها ومنها يتعرف المجتمع على أوجه إنفاق الضرائب المفروضة، وموارد الدولة الأخرى، ومنها يستشفّ القطاع الخاص وشركاء التنمية مجالات الاستثمار والمشاركة.