هشام توفيق يكتب.. قراءة في التاريخ الاقتصادي لمصر في 200 عام… التشخيص قبل العلاج

بقلم هشام توفيق وزير قطاع الأعمال السابق _ كثيرًا ما نتحدث عن أهمية الاستثمار وضرورة جذب مستثمرين وتحفيز القطاع الخاص سواء الوطني أو الأجنبي، ومع هذا نلاحظ تراجعًا مستمرًّا في نسبة مساهمة القطاع الخاص في الناتج القومي.

نتحدث أيضًا عن تضخم القروض الحكومية وضرورة تخفيضها ومع هذا نستمر في الاقتراض، وقد وصلنا بسبب التحديات الداخلية والأوضاع العالمية غير المستقرة إلى موقف صعب للغاية نظرًا لاستمرار العجز الهيكلي في الميزان التجاري والذي يصاحبه نضوب في مصادر تمويله مما يعني تزايد مخاطر انخفاض مستويات التشغيل وكدلك مخاطر تأخر الدولة في خدمة الدين.

E-Bank

وقد قرأت مؤخرًا كتابين ألقيا الضوء على ما وضعه أجدادنا خلال قرنين من سياسات أدت في مرحلة إلى ازدهار الاقتصاد وفي مرحلة أخرى إلى مسلسل من التدهور حتى وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم. الكتاب الأول، والأهم، هو لأستاذ التنمية الاقتصادية وأستاذي في الجامعة الأمريكية د.جلال أمين.

الكتاب صدر عام 2012 ويحمل عنوان “قصة الاقتصاد المصري من عهد محمد علي إلى عهد مبارك”، ود.جلال كمتخصص ركز في تحليله على مدى اعتماد حكام مصر على القروض الخارجية في تنفيد سياستهم مقارنة بمدى نجاحهم على إحداث طفرة في التنمية الاقتصادية للبلاد.

وقد استند د.جلال على عدد من المراجع من مؤرخين عالميين .R Owen., J Marlow., B Condliffe, E.A Crouchly.

تابعنا على | Linkedin | instagram

أما الكتاب الثاني فهو للكاتب والمؤرخ مدحت عبد الرازق صدرت الطبعة الثانية منه في 2022 وهو بعنوان “ميتسراييم.. حكايات وعائلات يهود مصر الملكية”.

وقد وجدت في الكتابين معلومات ثمينة جدًّا سأحاول تلخيصها في السطور القادمة لعلها تخدم راسمي السياسة الاقتصادية في هذه المرحلة الدقيقة. فالتشخيص الدقيق للمرض يجب أن يسبق العلاج.

أولًا: مصر الملكية 1805-1952

– تولى محمد علي باشا حكم مصر عام 1805 وكان هدفه الاستراتيجي الرئيسي هو تقوية أركان الدولة فاهتم جدًّا بإنشاء جيش قوي استخدمه في فرض سيطرته داخليًّا وخارجيًّا.

وفي سبيل هذا اعتمد على خبرات فرنسية في التنظيم والإدارة بقيادة سليمان باشا الفرنساوي، ثم أنشأ العديد من المدارس العسكرية وترسانات بناء السفن ومصانع إنتاج الذخائر.

بعد ذلك التفت محمد علي باشا إلى الأمور الاقتصادية فأقام الخزانات والسدود وأدخل زراعة القطن طويل التيلة إلى مصر والذي أصبح المصدر الأساسي لدخل الحكومة، كذلك اهتم بصناعة تكرير السكر، وكان أول من أرسل البعثات للدراسة في جامعات أوروبا في مختلف التخصصات.

ولم يمِل محمد علي باشا لاستدانة لتمويل نفقاته الجارية أو مشروعاته إلا بإصدار أذون خزانة محلية وفي نطاق ضيق. وتوفي عام 1849 ومصر ليست مدينة بقرش لجهات خارجية.

تولى سعيد باشا، ابن محمد علي باشا، الحكم عام 1854 وعلى الرغم من قلة مشروعاته (باستثناء بدء حفر قناة السويس وإنشاء خط سكة حديد من الإسكندرية إلى كفر الزيات) قام سعيد باشا، بضغوط من مصارف أوروبية، بعقد عدة اتفاقيات لقروض كانت أول قروض تحصل عليها مصر وبلغت عند وفاته 18 مليون جنيه كانت تكلف الخزانة العامة 20% من إيراداتها السنوية لخدمتها.

جاء الخديوي إسماعيل للحكم عام 1863 حيث اهتم بوضع أسس مستدامة لإدارة الدولة فأنشأ مجلسًا للنظار (الوزراء) وأعاد تنظيم القانون المدني وقانون التجارة المدنية وقانون التجارة البحرية وقانون العقوبات وقانون تحقيق الجنايات.

كما قام بإنشاء المحاكم المختلطة وإخضاع الأجانب المقيمين في مصر لها أسوة بالمصريين. وأخيرًا أسس أول مجلس دولة وأول برلمان مصري.

وفي شأن المشروعات قام الخديوي إسماعيل بالانتهاء من مشروع حفر قناة السويس بعد أن هدده الفشل في آخر عهد سعيد باشا ومنع السخرة والعبودية، وأعاد الأراضي التي تم تخصيصها في عهد سعيد لشركة قناة السويس على طول القناة.

وقام إسماعيل كذلك بإنشاء القاهرة الخديوية (وسط البلد) بمرافقها من مياه وغاز، وحديقة الحيوان وطريق الهرم ودار الأوبرا. في مجال الزراعة والري تم شق 112 ترعة أهمها ترعة الإسماعيلية بطول 98 كم والإبراهيمية بطول 150 كم والبحيرة بطول 42 كم ونتيجة لذلك تم زيادة الرقعة الزراعية في عهده بواقع 750 ألف فدان وازدهرت زراعة القطن والسكر وتم إنشاء عشرات المحالج والمصانع المرتبطة بهما.

وفي مجال المواصلات تم إنشاء 276 كوبري وإضافة 1500 كيلومتر من السكك الحديد لـ 250 كيلومتر ورثها من سلفه. في مجال التعليم أنشأ إسماعيل نحو 4600 مدرسة مقارنة بـ 185 مدرسة ورثها عن سلفه فتضاعف عدد التلاميذ في المدارس الابتدائية في عهده من 3000 إلى160000 (عدد سكان مصر كان نحو 7 ملايين).

وفي سبيل تنفيد هذا الحجم الهائل من المشروعات التنموية زادت القروض الخارجية في عهد الخديوي إسماعيل من 18مليون جم إلى 91 مليون جم أي بـ 73 مليون جم كانت تكلف الخزانة العامة 80% من إيراداتها السنوية.

ويقدر Croushley حجم الإنفاق الفعلي على جميع مشروعات الخديوي إسماعيل بـ 51 مليون جم والباقي 22 مليون جم ذهب في عمولات ومصاريف لم تستفد منها الدولة.

ونتيجة لسوء تقدير الخديوي إسماعيل ووزير ماليته إسماعيل المفتش تعثرت مصر عام 1876 في سداد 4 ملايين جنيه مستحقة واضطر لقبول تسوية فرضتها عليه الحكومتان البريطانية والفرنسية عام 1878 ثم تم عزله بضغوط من الحكومتين من السلطان العثماني عام 1879 وذلك بعد قيام إسماعيل بعزل الوزارة “الأوروبية” التي فرضتها شروط التسوية.

في الفترة المتبقية من الحقبة الملكية لم يكن لحاكم مصر السيادة في وضع او تنفيذ سياسات اقتصادية والتي كانت توضع في لندن بعد الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882.

وكان جل اهتمام الدائنين هو استرداد ديونهم بفوائدها وهو ما تم خلال العقود الستة التالية على الرغم من التحديات الكبيرة التي مر بها العالم من حربين عالميتين وبينهما الكساد العظيم في الثلاثينيات في الولايات المتحدة.

فتحول رصيد القرض السالب بـ 91 مليون جم في 1879 إلى فائض إيجابي على بريطانيا بـ 340 مليون جم بعد الحرب العالمية الثانية. والحقيقة هي أن ذلك ما كان ليتحقق لولا حرص محمد علي ومن بعده حفيده إسماعيل على خلق مصر أخرى بأدوات الدولة الحديثة من إصلاحات إدارية وتشريعية جذبت المستثمرين الوطنيين والأجانب لتحقيق أحلامهم. ونستعرض فيما يلي قائمة بأهم المشروعات الهامة نتجت عن تلك الحقبة.

ثانيًا: مصر الجمهورية (1952 -2022)

– لم يتأخر مجلس قيادة الثورة كثيرًا في إعلانه إطار التوجه الاقتصادي الجديد للدولة وقد جاء متأثرًا بالمد الثوري في دول وسط أوروبا وروسيا منذ بدايات القرن العشرين والتي استهدفت بصفة أساسية إعادة توزيع الثروات وتحجيم القطاع الخاص.

وتولى الرئيس جمال عبد الناصر الحكم في 1954 وقد تم تنفيذ بعض القرارات مثل تحديد ملكية الأراضي الزراعية وتوجست حكومات الغرب من مد تأثير مصر على الدول الأخرى المستعمرة والمستغلة مواردها منها.

وواجه عبد الناصر رفضًا لطلب مصر تمويل مشروعاتها القومية وأهمها إنشاء السد العالي فجاء قرار تأميم الشركة العالمية لقناة السويس والذي اتبعه حرب 1956.

ثم توالت سلسلة من التأميمات عام 1960 لما يربو على 200 شركة سواء كانت مملوكة للأجانب أو المصريين ثم دخلت مصر حربين: اليمن والنكسة في سنوات قليلة وهو ما أنهك الدولة.

ويمكن تقدير عدد المهاجرين من الأجانب والمصريين خلال 1956 إلى عام 1965 بـ100 ألف من رواد العمال والمهنيين. عمومًا، توفي عبد الناصر عام 1970 ومصر مدينة للعالم بنحو 1300 مليون دولار تمثل ربع الناتج القومي في هذا العام، وهو رقم معقول جدًّا في ظل كل التحديات والحروب ولكن تبقى المشكلة الحقيقية في تلك الفترة هي قضاء الدولة على القطاع الخاص وتحكم الدولة في كل النشاط الاقتصادي من مصانع وبنوك (تم تأميم البنك الأهلي وبنك مصر والأخير كان مملوكًا بالكامل لمصريين) وشركات تأمين بل والمتاجر وشركات الإنتاج والعرض السينمائي…. إلخ.

يرى د. جلال أمين، وأتفق معه، أن فترة الرئيس محمد أنور السادات وإن شهدت تحولًا في دفة الإدارة الاقتصادية (دون متابعة الخطط التفصيلية اللازمة لتحقيق فعالية التحول) فإنها لم تشهد سوى عدد محدود من المشروعات على أرض الواقع لا تبرر أبدًا القفزة الكبيرة في مديونية مصر الخارجية التي تعدت عند وفاة السادات عام 1981 الـ 3.14 مليارات دولار أو ما يمثل 141% من الناتج القومي.

في الثلاثين عامًا التالية جاءت فترة حكم الرئيس محمد حسني مبارك لتشهد مرة أخرى قفزة في الدين الخارجي إلى 49 مليار دولار انخفضت إلى 35 مليار دولار عند وفاته، وذلك بعد تنازل عدد من الدول الغربية عن بعض مستحقاتها بقيمة 17 مليار دولار عام 1994 مكافأة لمصر عن دورها في حرب الخليج . ويمكننا القول بأن التنمية الاقتصادية في عهد مبارك كانت محدودة مقارنة بالمديونية المتحققة في عهده.

استمرت المديونية الخارجية لمصر في التزايد خلال السنوات الثلاثة 2012 -2014 ليتسلم الرئيس عبد الفتاح السيسي الحكم والمديونية قد وصلت 46 مليار دولار تضاعفت 3 مرات تقريبًا في ثماني سنوات لتصل إلى 156 مليار دولار تمثل 43% من الناتج القومي عام 2022 وتبلغ تكلفة خدمتها 27 مليار دولار تمثل 39% من إيراداتها في هذا العام. كما بلغ عجز الميزان التجاري في نفس العام نحو 30 مليار دولار.

وقد أعطت السياسات الاشتراكية المتأصلة في المجتمع المصري منذ ما يزيد على 55 عامًا جموع الشعب شعورًا زائفًا بالثراء ما جرؤ أحد من حكام مصر الجمهوريين على نفيها ومواجهة شعبه بها إلا الرئيس السيسي.

والآن ماذا نحن فاعلون؟

عندما أراد الخديوي إسماعيل أن يقفز باقتصاد بلاده تأسيسًا على ما بناه جده محمد علي باشا، ركز على تقديم كل الحوافز المطلوبة لاجتذاب القطاع الخاص الوطني قبل الأجنبي، وابتعد عن توريط الدولة بالمساهمة في مشروعات.

وقد جنت مصر ثمار هذه السياسة حتى عام 1960 حين توالت التأميمات. وأعتقد أن تخفيض مستوى الدين الخارجي بالنصف إلى مستوى 80 مليار دولار هو ضرورة حتمية لضمان عدم تعثر الدولة ولا مناص من بيع الكثير من الشركات الأصول المملوكة لكل جهاتها لتحقيق هذا الهدف التكتيكي لكنه إجراء يظل محدودًا ولا يغني عن إجراءات استراتيجية أهم، هذا إذا أردنا استثمارًا فعليًّا يعيدنا إلى إنجازات القرن التاسع عشر.

الإصلاح الأهم من وجهة نظري هو تقليص المركزية المخيفة في اتخاذ القرارات ذات الصلة بقطاع الأعمال وذلك بنزع بعض سلطات الوزارات والهيئات التابعة لها وتفويض القطاع الأهلي (الغرف والاتحادات) بها على أن تستمر الدولة في رقابتها على الاتحادات.

ولاختصار الوقت يمكن الاستعانة بدول سبقتنا وأهمها وأنجحها ألمانيا لتنفيذ هدا النموذج. أخيرًا فإنه قد يرى لبيع شركات بهذا الحجم (75 مليار دولار) النظر في تخفيض الضرائب بكل أنواعها بنسبة 15- 20%.

كذلك من المهم جدًّا أيضًا تقديم ضمانات كافية للمستثمرين بعدم دخول الدولة مجددًا كمؤسس إلى شركة تجارية عدا القليل جدًّا من الأنشطة الاستراتيجية المعلنة مسبقًا.

الرابط المختصر