بقلم د. محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري _ أيام وتبدأ في مدينة شرم الشيخ المصرية أعمال قمة المناخ وما يعقبها من اجتماعات ومشاورات، لإنقاذ العالم من أزمة تغيرات المناخ وتداعياتها التي تهدد وجود البشر والكائنات الحية، واختفاء جزر وضياع أراضٍ في بقاع الكوكب غمراً بالفيضانات والأعاصير وجدباً للمزارع وحرقاً للغابات ونحراً في الشواطئ.
وفي ظل أجواء عالمية شديدة الاضطراب مع تزايد الأزمات الجيوسياسية والحرب الدائرة في أوكرانيا وأوضاع اقتصادية متدهورة خانقة لنمو الاقتصادات ومؤججة لارتفاعات الأسعار وقاذفة بدول نامية في فخاخ الديون الخارجية، كان لزاماً على القمة القادمة أن تنتهج سبيلاً عملياً وشاملاً في التعامل مع أزمة المناخ وإنفاذ تعهدات اتفاق باريس الذي أبرمته الدول كافة في عام 2015.
ولا يُقصَد بالشمول هنا مجرد تناول محاور الاتفاق في مجالات العمل المناخي المتعلقة بتخفيف الانبعاثات الضارة، والتكيف مع آثارها، والتعامل مع الملف الحرج للخسائر والأضرار التي تتكبدها المجتمعات والأصول المادية والطبيعة وتنوعها البيولوجي، وتدبير التمويل اللازم لها.
فالشمول المقصود لن يتحقق إلا بالتمرد على الاختزال المتعمد لقضية الاستدامة بقصرها على أساليب تخفيف الانبعاثات الكربونية، فالانبعاثات الضارة تتجاوز تلك الكربونية منها رغم خطورتها.
وهذا الشمول يستدعي بالضرورة وضع العمل المناخي في إطار تحقيق أهداف التنمية المستدامة التي ينبغي إنجازها دون إبطاء قبل حلول عام 2030، وهو ما تعهد به قادة الدول في قمة خاصة للأمم المتحدة عُقدت في شهر سبتمبر (أيلول) من عام 2015.
وبعد سبع سنوات من إبرام تعهدات المناخ والتنمية، نجد أن أوضاع العالم أكثر سوءاً اليوم مما كانت عليه. فتذكِّرنا التقارير العلمية الصادرة عن اللجنة الحكومية الدولية المختصة في إطار الأمم المتحدة بأن العالم لم ينجز ما لا يدعو إلا للذعر من الانحراف المتوالي عن مسار تخفيض الانبعاثات الضارة بالمناخ، فبدلاً من تخفيضها بنحو 45 في المائة حتى عام 2030 تجدها تزيد بمقدار 14 في المائة.
وبدلاً من تخفيض أعداد من يعانون من الفقر المدقع فقد زاد عددهم ارتفاعاً ليصل إلى 719 مليون إنسان في نهاية عام 2020. وهذا الرقم لا يتضمن أثر ارتفاعات أسعار الغذاء والطاقة بعد اندلاع الحرب الأوكرانية أو باقي آثار جائحة «كورونا» وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية. هذا هو الوضع الراهن للهدف الأول لأهداف التنمية المستدامة، وهو القضاء على الفقر المدقع الذي كان يُرجى الوصول إليه مع حلول عام 2030، ومرة أخرى لن يكفي لوم مَشاجب الأزمات والصدمات الخارجية لتعلَّق عليها خيبة السياسات العامة وضعف مؤسسات العمل التنموي وإهدار الموارد مع تشتتها. فالعالم لم يكن على مسار تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وهو ما حذّر منه الأمين العام للأمم المتحدة قبيل اندلاع جائحة «كورونا» وما تلاها.
وفي إطار الإعداد لقمة شرم الشيخ عُقدت 3 حوارات كاشفة لأولويات العمل المناخي في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي مع خبراء متميزين في التمويل والتنمية واقتصاديات المناخ أستخلص ما جاء فيها على النحو الآتي:
أولاً، أن التعارض بين التنمية والعمل المناخي محض افتراء على الدليل العلمي والممارسة العملية معاً. ففي محاضرة متميزة للاقتصادي ستيفان هاليغات المستشار الأول بالبنك الدولي، عن التضافر والمقايضات بين المناخ والتنمية، ساق فيها الأدلة على أن أساليب العمل المناخي التي لا تأخذ في الحسبان أوضاع الفقر والنمو في صياغة السياسات العامة وتنفيذها ضررها بالغ على المناخ والتنمية معاً، وأن من وقعوا في براثن الفقر في خمس دول أفريقية عانوا من ارتفاعات شديدة في أسعار الغذاء ونقصان الدخول من النشاط الزراعي والكوارث الطبيعية كالفيضانات والجفاف والأزمات الصحية.
كما أكد أن النهج الشمولي للنمو والتنمية من شأنه أن يزيد الاستثمارات في التعليم والرعاية الصحية والإنتاجية الزراعية وتطوير البنية الأساسية المساندة للإنتاج والشمول المالي ودفع الاستثمارات الخاصة وتحقيق نظام أعلى كفاءة للحماية الاجتماعية.
وذكر رقماً ذا دلالة على أن زيادة الاستثمار في بنية أساسية أكثر متانة ومقاومة للصدمات المناخية قد ترفع التكلفة بمقدار 3 في المائة في المتوسط ولكن العائد المتحقق للاقتصاد والمجتمع يعادل 4 دولارات لكل دولار يتم إنفاقه. ولكنه أكد أن الإنفاق على التكيف مع الآثار الضارة للمناخ يجب أن تتضافر معه استثمارات ضخمة في تخفيف الانبعاثات الضارة ودفع الاستثمارات في قطاعات الطاقة الجديدة والمتجددة بالاستعانة بالتكنولوجيا والابتكارات المتطورة بما يستوجب تعاوناً دولياً.
وهو ما شدد عليه هومي كاراس الاقتصادي بمعهد «بروكنغز» بأهمية تجاوز عقبات التمويل وبطء المشاركة في ثمار المستجدات التكنولوجية والعلمية.
ثانياً، أن متطلبات العمل المناخي تستلزم تكاملاً بين العلم والتمويل وتغيراً سلوكياً يحقق أولويات التنمية المستدامة وعلى رأسها القضاء على الفقر المدقع.
وقد جاءت هذه الخلاصة المستفادة من تجارب عملية في البلدان النامية ساقتها الاقتصادية الفرنسية الأمريكية إستر ديفلو الحائزة على جائزة نوبل في الاقتصاد عن أعمالها التطبيقية في اقتصاديات الفقر واستهداف مكافحته.
وأوضحت ديفلو أن عبء الأزمة المناخية يقع على العشرة في المائة الأكثر غنى في العالم فهم المسؤولون عن نصف الانبعاثات الضارة، كما أن الدول الأكثر فقراً يعيش سكانها في أكثر المناطق حرارة في العالم بما يعرِّضهم لأزمات وصدمات مستمرة تؤثر سلباً على حياتهم وصحتهم وأسباب معيشتهم.
وبالتالي فإن أي عمل يتعلق بالانتقال العادل لنسق اقتصادي أفضل للمناخ والتنمية يستوجب استثماراً واستخداماً كفؤاً للبحث والتطوير استفادةً من العلم والتكنولوجيا المتاحة في مجالات الري والزراعة والحفاظ على الغابات بأمثلة عملية من الهند وبلدان أفريقية حققت نتائج ملموسة في هذه المجالات، وشددت على أهمية إتاحة التمويل الملائم مع إحداث تغير سلوكي لجميع الأطراف الحكومية والمجتمعية وقطاع الأعمال عند التعامل مع أولويات العمل المناخي والتنمية.
ثالثاً، أن متطلبات التمويل السنوية للبلدان النامية تتجاوز عشرة أمثال المائة مليار دولار الموعودة منذ مؤتمر كوبنهاغن في 2009، فعلى النحو الذي استعرضه الاقتصادي الهندي المرموق مونتيك أهلواليا، هناك تقديرات متباينة لحجم الاحتياجات السنوية لتمويل العمل المناخي وفقاً لتقارير دولية ودراسات اقتصادية كان من أهمها ما يلي:
– تقدير اللجنة العلمية للأمم المتحدة لمتطلبات الطاقة: 2.8 تريليون دولار.
– تقدير وكالة الطاقة الدولية لاحتياجات قطاع الطاقة: 3.5 تريليون دولار.
– تقدير مؤسسة «ماكنزي» لاحتياجات الطاقة واستخدامات الأراضي: 4.5 تريليون دولار.
– تقدير صندوق النقد الدولي لاستثمارات الطاقة والقطاعات ذات العلاقة: 3.3 تريليون دولار.
– تقدير مبادرة سياسات المناخ: 3.7 تريليون دولار.
ومع اختلاف هذه التقديرات وفتراتها الزمنية، فوفقاً لدراسة لأهلواليا المشتركة مع أونكارش باتل، التي ستصدر في كتاب لمعهد «بروكنغز» قريباً، فإن فجوة التمويل عالمياً تتراوح بين 3 في المائة و4 في المائة عالمياً.
وباستبعاد الدول المتقدمة والصين لقدراتها المفترضة على تحمل أعبائها، فإن المتطلبات الإضافية للبلدان النامية في قطاع الطاقة والمجالات ذات العلاقة تقترب من 1.3 تريليون دولار، أي 13 مثلاً لتعهد كوبنهاغن ذي المائة مليار التي لم تصل بكاملها أبداً للبلدان النامية.
افترض أهلواليا وآخرون من الاقتصاديين مثل عمار باتاتشاريا أن نصفها يمكن توليده من مصادر محلية داخل كل دولة، والنصف الآخر سيكون من مصادر خارجية عامة وخاصة على أن تقوم المؤسسات الدولية بأدوار ضخمة غير مسبوقة في التمويل المباشر ومساندة الاستثمار الخاص وتخفيض مخاطره الاقتصادية والتحوط ضد التغيرات السياسية المؤثرة أيضاً من خلال تقديم ضمانات متعارف عليها ذات تكلفة.
وفي تقديري أن هناك ضرورة حيوية لتعميم قواعد مؤسسة التنمية الدولية «IDA» في التمويل الميسَّر طويل الأجل لتشمل البلدان ذات الدخل المتوسط المنخفض بالإضافة للدول الأقل دخلاً، حتى تعمّ الفائدة على البلدان الأفريقية كافة وبلدان نامية أخرى، وفي هذا شرح ستشهده قاعات الاجتماعات والنقاش في شرم الشيخ.
من المنتظر أن تتناول قمة شرم الشيخ وجدول أعمالها الضخم هذه الموضوعات، وفقاً لنهج عملي شامل، إذ آلت رئاسة القمة على نفسها أن تكون هذه القمة لإنفاذ التعهدات.
واتَّبعت أسلوباً عملياً لإعداد قوائم بمشروعات جديرة بالاستثمار والتمويل بالتعاون مع الأقاليم الاقتصادية الخمسة للأمم المتحدة ورواد المناخ والمؤسسات الاستشارية والمالية المتخصصة، وركزت في إعدادها لهذا النهج على توطين المشروعات وتوافقها مع أولويات المجتمع الذي يحتضنها، واستأنست بمقترحات لإصلاح البناء المالي العالمي الذي أفرط في الاعتماد على أدوات الاستدانة على حساب الاستثمار والتمويل طويل الأجل.
ومن هذه المقترحات ما جاء في مبادرة بريدج تاون – عاصمة بربادوس، التي تتعهدها رئيسة وزرائها ذات الهمة ميا موتلي، بالدعم وحشد المساندة الدولية.
تفصلنا أيام لما تتطلع إليه شعوب العالم عمّا ستسفر عنه قمة شرم الشيخ ومداولاتها من تحقيق وثبات في مسيرة التعاون الدولي، رغم ما يعانيه عالمنا من عجز الثقة وفائض الأزمات، فما نحن بصدده من عمل لاستنقاذ الأرض يتجاوز في خطورته وأثره نزاعات تحركها دوافع لاغتنام مكاسب وقتية استغلالاً لثغرات في نظام عالمي موروث من رحم الحرب العالمية الثانية.
فقد حان الوقت ليُفسح المجال لترتيبات أكثر عدلاً وأعلى كفاءة تمهد لنظام عالمي جديد يحفظ السلم ويحقق التقدم والنفع لعموم الناس في عالم شديد التغير.