بقلم د. محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري نقلا عن الشرق الأوسط _ في حديثه السنوي الموجه لـ«الجمعية العامة» عن أولويات العمل في العام الجديد، استند أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، إلى مؤشر طوّرته مجموعة من العلماء، من بينهم ألبرت أينشتاين، في عام 1947، لقياس مدى اقتراب العالم من نهايته بفعل البشر. ويتم تحديث هذا المؤشر دورياً من قبل مجموعة من الخبراء والعلماء، كان من بينهم على مدار السنين أربعون من الحاصلين على جائزة نوبل في فروع العلم المختلفة، ويتم إصداره في نشرة بعد تحليل العوامل المهددة لاستقرار العالم، ومنها التهديدات النووية وتغيرات المناخ وغيرها من أزمات كبرى.
ووفقاً لآخر تحديث لهذه الساعة الرمزية لنهاية العالم، فعقاربها الآن تشير إلى 90 ثانية قبل منتصف الليل، وعلى سبيل المقارنة ففي عام 1991 مع نهاية الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وتوقيع معاهدة تخفيض الأسلحة الاستراتيجية والترسانة النووية للبلدين أرجعت عقارب ساعة النهاية إلى 17 دقيقة قبل منتصف الليل، وعندما اندلعت جائحة «كورونا» توقف المؤشر في عام 2021 عند 100 ثانية قبل منتصف ليل العالم.
وفي عالم يعاني من أزمات وصفت مؤخراً بالمتعددة والمستمرة والمعقدة، تشمل قائمتها التي لخصها الأمين العام حروباً وتدهوراً في المناخ وتداعيات للجوائح والأوبئة وزيادة في انتشار الفقر المدقع وتفاوتاً حاداً في الدخول بين الدول وداخلها، فضلاً عن صراعات جيوسياسية مقوضة لجهود التعاون الدولي ومهدرة لمقومات الثقة بين الدول.
وفي حين أن لدى العالم الحلول الفنية الناجعة لهذه الأزمات المتواترة وما تتطلبه من موارد مالية وتكنولوجية وتقنية فلا توجد أي أزمة من الأزمات الراهنة من دون حلول عملية أو اقتراحات متكاملة للتعامل معها والقضاء عليها، ولكن يعوقها غياب الإرادة وانحيازات بائسة قصيرة المدى تسهم في دمار العالم وبؤس البشر. وقد حدد الأمين العام 7 أولويات كحقوق ثابتة للإنسان لإخراج العالم من ظلمات وضعه البائس، وتحول دون تحرك عقارب الساعة نحو النهاية…
1 – إرساء السلام في أوكرانيا وفلسطين وأفغانستان وميانمار وهايتي، وغيرها من بلدان تعاني من صراعات وأزمات إنسانية، يعاني منها ملياران من البشر بشكل مباشر وغير مباشر.
2 – تفعيل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والحق في التنمية. ويتطلب هذا التصدي لزيادة الفقر المدقع، في الوقت الذي تستحوذ فيه نسبة 1 في المائة من أثرياء العالم على 50 في المائة من الثروات الجديدة المتولدة في العقد الماضي، كما يستدعي التعامل الشامل مع تداعيات ارتفاع المديونية الدولية وتكاليف الاقتراض الباهظة التي تتكبدها البلدان النامية، بما يستوجبه هذا من إصلاح عاجل للنظام الاقتصادي الدولي الذي يعاني من تحيز وعوار، ومراجعة قواعد البنية المالية العالمية المتصدعة، بما في ذلك المؤسسات المالية الدولية.
ومن دون هذه الإجراءات الشاملة والعاجلة، سيستحيل تحقيق أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر التي تم تدشينها في عام 2015. فمن دون التصدي لأزمة المديونية الدولية الراهنة التي تعاني منها بدرجات متفاوتة 100 من البلدان النامية والأسواق الناشئة، فالقاعدة المنطقية تحتم أن منع مفاسد الديون يقدم على ما قد يجلبه أي تمويل جديد للتنمية من منافع، فما عساها تحقق وعود التمويل ومبادراتها وما قد يصحبها من تدفقات مالية محدودة مقارنة بهذا الهدر لإمكانات الدول التي تصارع ويلات سداد ديونها الخارجية وتكاليفها المجحفة بعد ارتفاعات متوالية لأسعار الفائدة المصاحبة بانخفاضات وانهيارات لأسعار الصرف، سواء بفعل صدمات دولية أو قلة حيلة الإدارات النقدية والاقتصادية المحلية وعدم اعتبارها لإجراءات التحوط.
حسناً تفعل مجموعة العشرين إذا ما تبنت دعوة الأمم المتحدة بتمويل «معدل التنمية المستدامة» المقترح لمساندة بلدان الجنوب لتحقيق التنمية. لكن الأولى في تقديري أن يأتي متزامناً معه تفعيل إطار متكامل لعلاج الديون واستنقاذ البلدان النامية من التعثر في فخاخ الديون والسقوط في هواتها السحيقة.
3 – الالتزام بتحقيق أهداف اتفاق باريس لتغيرات المناخ، وما تبعه من تعهدات ومقررات في قمم المناخ المتعاقبة، ومنها ما صدر عن قمة شرم الشيخ التي نجحت في التوصل لاتفاق حول الخسائر والأضرار المترتبة على تغير المناخ، وما يتطلبه من تمويل من صندوق مخصص للتعامل معها.
كما نجحت قمة شرم الشيخ في تحديد أولويات العمل الدولي في مجالات التكيف وفقاً لأجندة شرم الشيخ ومحاورها الخمسة في هذا الصدد.
كما بلورت هذه القمة آليات التمويل المطلوب للعمل المناخي والاستثمار في مشروعاته، بتعاون غير مسبوق بين مؤسسات القطاع الخاص واللجان الإقليمية الاقتصادية للأمم المتحدة وبنوك الاستثمار، وتحديد قائمة لمشروعات ذات جدوى جديرة بالاستثمار والتمويل الميسر طويل الأجل، ولا أقول بالإقراض. فهناك إفراط في الاعتماد على الاقتراض لمشروعات الأولى بها أن تمول بالاستثمار وبما اقترحته من قبل تحت عنوان «1 في المائة من أجل 1.5 درجة مئوية»، ونشرته هذه الصحيفة الغراء في عدد سابق.
ويبقى علاج أزمة المناخ كامناً في حل ثلاثي المكونات، من التمويل والتكنولوجيا وإرادة التغيير. فإما أن تأتي معاً متكاملة أو ستستمر الأزمة الراهنة.
4 – احترام التنوع والاختلافات الثقافية بين المجتمعات المختلفة، وما وجدناه مؤخراً من إهدار بالغ في هذا الحق ولّد احتقاناً وأجّج صراعات وأشعل نيران النزاعات والإرهاب، ووقعت ضحية له أقليات شتى ومهاجرون ولاجئون، ورفع من تكاليف الأمن، وأعاق التوصل لتسوية النزاعات بين الدول، وتخفيف حدة التوترات داخلها، خصماً من فرص التقدم والتنمية.
5 – حقوق المرأة وتحقيق الهدف الخامس للمساواة والعدالة بين الجنسين من أهداف التنمية المستدامة. فقد تراجع تحقيق هذا الهدف في كثير من البلدان النامية، فكلما زادت الصدمات وارتفعت حدة التراجع الاقتصادي، تجد المرأة والفتيات في صدارة الضحايا. وما زاد مؤخراً هو حرمان المرأة من التعلم والرعاية الصحية والعمل والأجر العادل. ويشير الأمين العام لرقم مفزع، أنه وفقاً للمعدلات الحالية يحتاج العالم 286 عاماً حتى تتحصل المرأة على ذات الوضع القانوني للرجل.
6 – تراجع الحقوق السياسية والمدنية والحرية في التعبير. فقد تزايدت صور القمع، كما اتخذ الوباء ستاراً لانتهاكات الحقوق السياسية والمدنية، بما في ذلك تصاعد أعداد من تم قتلهم من الصحافيين والإعلاميين بمقدار 50 في المائة. وهناك دعوة من الأمم المتحدة للعمل من أجل إشراك المجتمع المدني وحماية الحقوق المدنية في المبادرات والأعمال الأممية، مع استعداد لتقديم العون للدول لتطوير قوانينها وممارساتها في هذا الشأن.
7 – حماية حقوق الأجيال القادمة. ما نراه اليوم من تدهور في الأمور الستة المذكورة، وما يرتبط بها من حقوق تنتقص عملياً من فرص الأجيال القادمة في حياة أفضل، وما نراه من حالة احتقان في كثير من المجتمعات، هو ما يدركه الشباب من تراجع لاحتمالات تمتعهم بمستوى معيشة وحياة تعادل في مقوماتها ما حظي به آباؤهم، وهو ما يحبط جيل الآباء أيضاً بعجزهم عن توفير الحد المطلوب لحياة كريمة لأبنائهم.
وهذا يشكل محاور العمل لقمة المستقبل التي ستعقد العام المقبل، والتي ستحدد أولويات العمل مع الطبيعة ومتطلبات العصر الرقمي ومنع أسلحة الدمار الشامل وإصلاح نظم الحوكمة. وتأتي هذه القمة لتبني على نتائج أعمال القمم الثلاث التي ستعقد في شهر سبتمبر هذا العام، وتتناول التنمية المستدامة، وتغيرات المناخ، والتمويل.
هذه الجهود لكي تثمر بما ينفع الناس ينبغي أن يتوفر لها إطار من التعاون الدولي، لا يتوافق مع أجواء الحروب والصراعات القائمة. وقد لفت نظري عند الحوار مع طرفي الحرب المشتعلة في أوكرانيا انطلاق كل طرف بإعفاء نفسه من التكاليف الباهظة والآثار السلبية للحرب على أوضاع الفقر والديون والغلاء في البلدان النامية، ومسارعته بالقول إن أسعار الحبوب والأسمدة المستوردة من طرفي الحرب قد تراجعت، وإن كمياتها تستعيد مستوياتها السابقة على الحرب. وكأن لسان حالهم يقول لا تشغلونا بمشكلات البلدان وتحملونا أعباءها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية واتركونا وشأننا و«دعونا نحارب في سلام».
وتذكرنا المؤرخة باربارا توكمان، في كتاب بعنوان «بنادق أغسطس» عن الحرب العالمية الأولى بتلك الحرب التي لم يردها أحد، ولم يتوقع حدوثها أحد، لكنها رغم ذلك اندلعت واقتتل فيها 70 مليون جندي، مات منهم 9 ملايين، فضلاً عن 7 ملايين من المدنيين، وأصيب عشرات الملايين بعاهات لازمتهم حتى موتهم.
كما أسفرت هذه الحرب الكبرى عن مذابح تلتها، كما تفشت الأوبئة، فقتل بسببها أضعاف هذه الأرقام من الأبرياء. وكان من الممكن إنهاء هذه الحرب العالمية الأولي، التي لولاها ما كانت الثانية، إذا ما توافق قادة القوى الكبرى على حسم نزاعاتهم سلماً. ولكن الحروب من هذا النوع تحدث لأن من يدخلها يظن ببساطة أنه سينتصر، ثم تنتهي بخسائر لكافة أطرافها، وبخسائر كبرى أيضاً لمن لا ناقة له فيها ولا جمل.
إذا كانت هناك رغبة في الحرب حقاً فلتكن حرباً ضد الفقر المدقع الذي استشرى بعد عهد من تراجعه، فلتكن هذه الحرب ضد تغيرات المناخ المهددة لحياة الناس ومعيشتهم، فلتكن هذه الحرب ضد تفشي الأمراض المعدية وتهافت الاستعدادات لوباء قادم، فلتكن هذه الحرب ضد مديونية مستعرة التكاليف وغلاء ينهش في قوت المعدومين وأرزاق أبناء الطبقة الوسطى المهددين بالانحدار إلى ما لا يطيقونه، فلتكن حرباً ضد الحرمان من فرص التعلم والعمل اللائق والعيش الكريم باسترجاع الحقوق المهدرة. مثل هذه الحروب المشروعة هي التي تستنجد حقاً بالنداء «دعونا نحارب في سلام».