بقلم د. محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري نقلا عن الشرق الأوسط _لبعض الألفاظ وقع جميل لارتباطها بقيمة من القيم أو بأحداث تاريخية معينة ولكن عند استخدامها كمصطلح قد تُحمّل هذه الألفاظ بأكثر مما تحتمل، وقد يترتب على استخدامها بإفراط خلط في المفاهيم وتضارب عند التطبيق. ومن هذه الألفاظ ما تجده دارجاً عن استقلال البنوك المركزية، بافتراض قد يكون فضفاضاً بأنه مفهوم شارح لنفسه، وينطوي ضمنياً على حرية البنك المركزي في تحديد أهدافه واستخدام ما يراه مناسباً من أدوات لتحقيق هذه الأهداف، بعيداً عن التدخل السياسي المباشر من قِبل الحكومة.
وتنبغي الإشارة إلى ما لموضوع الاستقلال والعلاقة بين البنوك المركزية والسلطات التنفيذية من تاريخ طويل، حيث شهدت العلاقة خلال القرنين الماضيين تراوحاً بين التدخل السافر من قِبل الحكومات في أعمال البنوك المركزية، وإطلاق الحرية لها.
ففي القرن التاسع عشر، حيث سادت أفكار الحرية الاقتصادية واستقرت الأسعار وكانت قاعدة الذهب هي القاعدة المحتكم إليها، تجلى استقلال البنوك المركزية، ولكن تلاحق الأزمات الاقتصادية بعد الحرب العالمية الأولى استدعى تدخل الحكومات في أنشطة البنوك المركزية، ثم ما لبثت أن استرجعت البنوك المركزية قدراً من استقلالها مرة أخرى بعد استقرار الأوضاع الاقتصادية.
ولكن ما أعقب الحرب العالمية الثانية من ترويج لوجهات النظر المحبذة للتوسع في تدخل الدولة نال ذلك، فيما ناله، من استقلال البنوك المركزية، ثم شهد العالم تحولاً بدأ في السبعينات تجاه قوى السوق وتقييداً لسلطة الحكومة في تمويل نفقاتها بالتوسع في عجز الموازنة العامة للدولة، وتعالت معها نداءات داعية إلى جعل البنك المركزي مستقلاً في اتخاذ قراره بعيداً عن تدخل الحكومة؛ حتى لا ينفلت العجز بتمويل تضخمي.
وتنحصر وظائف البنك المركزي التقليدية في مجموعتين: الأولى تتعلق بإدارة السياسات النقدية بهدف تحقيق الاستقرار النقدي والسيطرة على معدلات التضخم، والأخرى تتعلق بالرقابة والإشراف على البنوك بهدف تحقيق الاستقرار المصرفي.
ومن البنوك المركزية ما يُكلف أيضاً أهداف التشغيل ودفع النمو الاقتصادي. وتذهب فرضية استقلال البنوك المركزية إلى أنه يمكّنها من أداء هذه الوظائف بشكل أكثر كفاءة، فتتحسن إدارة السياسة النقدية فيما يتعلق بالسيطرة على تضخم الأسعار. كما أن من شأن استقلال البنك المركزي أن يدعم قدراته الإشرافية والرقابية على الوحدات المصرفية.
وتكاد لا تجد خلافاً يذكر حول ضرورة استقلال البنك المركزي لضمان تحقيق الرقابة المالية الحصيفة على البنوك؛ وإن توسعت الوظائف الرقابية لبنوك مركزية بعد الأزمة المالية العالمية لتمنحها مسؤولية الاستقرار المالي بشكل عام، ولكن الخلاف يتجلى في الأمور المتعلقة بالسياسات النقدية، وإذا ما كان من الواجب أن تترك إدارة السياسة النقدية للبنك المركزي وحده.
والمدافعون عن استقلال البنك المركزي يستشهدون بأوضاع الدول التي تتمتع فيها البنوك المركزية بصلاحية تمنحها الحرية في استخدام الأدوات النقدية، مثل سعر الخصم ومعدل الاحتياطي القانوني والتحكم في المعروض النقدي وغيرها، وما ارتبط بذلك من نجاح كبير في تحقيق انخفاض مستمر في معدلات التضخم على النحو الذي قام به البنك المركزي الألماني، قبل الوحدة النقدية الأوروبية، وبنك نيوزيلندا المركزي والبنك المركزي الأسترالي.
بل وذهب بعض المتحمسين لاستقلال البنك المركزي إلى تركيب رقم قياسي يعتمد على مجموعة من الشواهد والأدلة على الاستقلال، مثل الصلاحيات القانونية الممنوحة للبنك المركزي في تحديد أهدافه واستخدام أدواته، وطبيعة ملكية البنك المركزي وحوكمته وسلطة تعيين محافظه وأعضاء مجلس إدارته والشروط الواجب توافرها فيهم وفترات المجلس، والجهة التي يُسأل أمامها البنك المركزي ويقدم لها تقاريره.
ولكن هل يؤدي استقلال البنوك المركزية، خاصة في البلدان النامية، إلى تحسن في أداء السياسة النقدية؟ ويستلزم الرد على هذا التساؤل تناول الإجابة عن ثلاثة محاور:
المحور الأول يرتبط بهدف الاستقلال، فإذا كان هدف الاستقلال هو تخفيض معدلات التضخم، وأن مجرد الاستقلال القانوني للبنك المركزي سوف يؤدي تلقائياً إلى تحقيق هذا الهدف؛ فإن هذا يعدّ اختزالاً للحقائق وقفزاً لنتائج غير مساندة ببراهين ثابتة، فللتضخم في الدولة نامية أسباب تتعدى كونه ظاهرة نقدية يمكن القضاء عليها بالتحكم في عرض النقود والطلب عليها.
وبإطلاق الحرية للبنك المركزي في تحقيق التحكم المنشود، فهناك عوامل هيكلية تدفع بمعدلات التضخم إلى الارتفاع بشكل لن يجدي مجرد التحكم في عرض النقود معها نفعاً، بما يحتم ضرورة التنسيق والتعاون بين الحكومة والبنك المركزي في تحديد أهداف السياسة النقدية والتنسيق بينها وبين السياسة المالية العامة مع ترك الحرية كاملة للبنك المركزي في تحديد الأدوات المناسبة لتحقيق أهداف السياسة النقدية.
أما المحور الثاني فيتعلق باعتبار الاستقلال هدفاً أم وسيلة، فالمتابع لبعض الكتابات في هذا الموضوع يرى آراء تكاد تصل إلى أن الاستقلال هدف في حد ذاته، وكأن البنك المركزي يرزح تحت نير استعمار حكومي غاشم ينبغي القضاء عليه وعلى أعوانه دون تبيان للأسباب.
فالاستقلال في المقام الأول ما هو إلا حماية للبنك المركزي من التدخل السياسي في قرارات فنية بطبيعتها، وعدم تغليب الأهداف السياسية قصيرة الأجل على السعي إلى تحقيق الاستقرار النقدي والاستقرار المالي كهدفين رئيسيين له؛ فضلاً عن عدم منح الحكومة رخصة للاقتراض التلقائي منه دون ضوابط بما يضع قيداً على التوسع التضخمي في عجز الموازنة العامة للدولة. فاستقلال البنك المركزي ما هو إلا وسيلة من الوسائل المطلوبة لتدعيم مصداقيته التي من شأنها أن تعينه في تحقيق أهدافه.
أما المحور الثالث فمعني بالإجابة على سؤال يتعلق بحيثيات استقلال البنك المركزي ومدى مصداقيته في تحقيق هدف استقرار الأسعار؟ وهو سؤال تُحدد الإجابة عنه الممارسة والتطبيق الفعلي للصلاحيات الواسعة التي يتمتع بها البنك المركزي. وإن كانت من البديهيات أن نؤكد أن من أهمها توفر الكوادر المؤهلة بما يتناسب وطبيعة العمل الحيوي والدقيق الذي تقوم به. علماً بأن هذه الكوادر يتطلب تكوينها زمناً طويلاً ومجهوداً فائقاً وتكلفة باهظة، وإن فُقدت يصعب تعويضها.
ومن الناحية العملية، اعتادت البنوك المركزية على استخدام نماذج للتقدير والتنبؤ أفرط في الاعتماد عليها دون تطوير. كما تعرضت السلطات النقدية في بلدان متقدمة لمشكلات حادة في قدرتها على توجيه سياساتها بين البدائل المتاحة بما عرّض مصداقيتها مؤخراً لحرج بالغ فيما يتعلق بكون التضخم ظاهرة مؤقتة عارضة أم أنها مستمرة لفترة تستدعي تدخلاً حاسماً ومبكراً لاحتوائه.
وهو ما لم يتم في حينه، خاصة بعد ضح تمويل ضخم ورخيص للتعامل مع الأزمة الاقتصادية التي صاحبت جائحة كورونا. وقد ذكر في مبررات منح الاستقلال للبنوك المركزية بأن يكون بديلاً عما تتعرض له الحكومات من ضغوط قد تستجيب لها فتتوسع في الإصدار النقدي بزيادة العجز. ولكن ما تعرضت له الاقتصادات من أزمات جعل البنوك المركزية تخوض في أدوار مباشرة بدعوى مكافحة الأزمات بما يتجاوز دورها «كملجأ أخير»، فصارت «مانحاً أول» لائتمان مباشر ميسَّر وغير ميسَّر، وتنخرط في استجلاب السيولة من النقد الأجنبي بأدوات قصيرة الأجل، وأوعية اقتراض ممتدة الآجال.
وفي كتاب مهم صدر منذ أسابيع للاقتصادي ستيفن كينغ بعنوان «نريد التحدث عن التضخم!» يستعرض مخاوف توسع نطاق عمل البنوك المركزية التي تجاوزت الدورين التقليديين للاستقرار النقدي وسلامة الجهاز المصرفي إلى الاستقرار المالي بشكل عام والتشغيل الكامل لقوة العمل والتمويل الأخضر، فضلاً عن، في حالة البنك المركزي الأوروبي حماية اليورو كمشروع سياسي وليس اقتصادياً فقط. وهي كما يذكر الكاتب أهداف مهمة، ولكن لا توجد ضمانة لتحقيق هذه الأهداف جميعاً في وقت واحد من جهة واحدة.
وباعتبار ما جرى عملياً من توسع في نطاق نشاط البنوك المركزية ليتداخل مع أعمال الحكومات المركزية، أيضاً، أليس في هذا ما يدعو إلى مراجعة قواعد حوكمة البنوك المركزية فهي لم تعد مستقلة بحسبان ما تقوم به من مكافحة للتضخم وهو أمر كان في حد ذاته محلاً لتساؤل في سفر ضخم لنائب محافظ بنك إنجلترا الأسبق، بول تكر، عن حدود وممارسات سلطة غير منتخبة بصلاحيات ممتدة.
ونتساءل مثلاً هل كان تدخل البنوك المركزية الرئيسية في الأزمة المالية العالمية للصالح العام وعموم الناس أم أنها انحازت، وفقاً لأحكام قيمية ارتأتها، لاستنقاذ البنوك من عثراتها وفقاً لمقولة ماريو دراجي الشهيرة أثناء توليه مهام البنك المركزي الأوروبي للتصدي للأزمة المالية «مهما أخذت أو كلفت»، ومن الثابت أنها أخذت فعلاً ما تجاوز ما كان مقدراً.
ويثير الاقتصادي راجو راجان، محافظ البنك المركزي الهندي، مسألة أخرى حول السياسة النقدية الأمريكية التي حبذت انخفاض أسعار الفائدة لفترة طويلة، ثم تخلت عنها فجأة بعد فترة من سخاء التيسير النقدي، بما أدى إلى فشل أربعة بنوك مؤخراً في وقت متزامن بسبب استثماراتها طويلة الأجل في أوعية منخفضة العائد بتمويل من ودائع قصيرة الأجل أغلبها غير مؤمّن عليها.
وفي هذا يلوم راجان ما أطلق عليهم «الانفصاليون» في البنوك المركزية بمعنى هؤلاء الذين يفصلون بين توجه وآثار السياسات النقدية، سواء في مرحلة التيسير النقدي لدفع النمو، أو تقييد عرض النقود والائتمان في حالة مكافحة التضخم عن تداعياتها على وظيفة الرقابة المالية وتقلب الحال بين بسط للبنوك المركزية أيديها ثم «إغلال» مقيد لها، بما سببه ذلك من اضطرابات واسعة تجاوز أسواق النقد والمال إلى أوضاع الاقتصاد وأحوال عموم الناس.
يجدد هذا كله الدعوة إلى مراجعة قواعد الحوكمة والصلاحيات الممنوحة للبنوك المركزية – كسلطات مستقلة غير منتخبة – وحاجتها إلى ضوابط، منها ما جاء في اقتراح بول تكر لتفعيل حصيف لمبادئ التفويض. ومن هذه المبادئ التوافق على مجال التفويض المحدد، والالتزام بتحقيق الأهداف من التفويض ومصداقيته.
ووضع فريق من المفوضين الخبراء الأكْفاء لمتابعة قيام البنوك المركزية بواجباتها وفقاً للسلطات الممنوحة لها، والاستقلال العملي والمؤسسي اللذين تتمتع بهما. على ألا تقوم البنوك المركزية بإجراءات من شأنها تجاوز مهامها المحددة، خاصة فيما يتعلق بمجالات يجب أن تكون محل اختيارات عامة، كتلك التي يترتب عليها التزامات تخل عمداً بتوزيع الدخول والثروات والحقوق، أو تؤثر في موازين القوى السياسية في المجتمع.