بقلم د. محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري نقلا عن الشرق الأوسط .. يشغل القطاع غير الرسمي حيزاً مهماً من اهتمام صانعي القرار ومتابعي شؤون التنمية في البلدان النامية.
وتعددت الآراء في اتجاهات متضاربة بشأن دور هذا القطاع، منها المحبذ لاستمراره كصمام أمان داعم للاقتصاد ولتخفيف حدة البطالة، ومنها المنادي باحتوائه وضمه للقطاع الرسمي، لما في ذلك من إضافة لموارد الموازنة العامة الدولية وإظهار الاقتصاد والناتج المحلي الإجمالي بأرقام تعكس كل الأنشطة الجارية على أرض الدولة المعنية.
وصدر مؤخراً عن البنك الدولي دراسة عن القطاع غير الرسمي والنمو بالتركيز على دول شمال أفريقيا، وكيفية تأثير السياسات وعمل المؤسسات والقوانين المتبعة لبدء المشروعات، والقيام بالإنتاج واتخاذ قرارات الاستثمار والتمويل والعمل.
وكان من نتائجها التي اعتمدت على مسوح إحصائية لأسواق العمل في تونس ومصر والمغرب ارتفاع نسب العاملين في هذه البلدان، لتصل إلى 44 في المائة و63 في المائة و77 في المائة على الترتيب. وحددت الدراسة ثلاثة مجالات لإجراءات الإصلاح وتنسيق السياسات العامة؛ وهي:
1- العلاقة بين أصحاب الأعمال والعاملين وما يحكمها من نظم التأمين والضمان الاجتماعي، وقواعد سوق العمل، والحد الأدنى للأجور، وفاعلية نظم التنظيم والرقابة.
2- نظم الضرائب والتحويلات بما تشمله من قوانين للضرائب على الدخل والأرباح والاستهلاك والمبيعات، والمؤسسات القائمة على التحصيل وفاعليتها.
3- ظروف السوق بما تتضمنه من حماية العقود وفاعلية مؤسسات الائتمان والتمويل، ومدى تيسير إجراءات تسجيل المنشآت وتكلفتها وقوانين المنافسة ومنع الاحتكار.
ورصدت الدراسة اقتراحات للتنسيق الشامل للسياسات العامة وتوفير تأمين مناسب ضد المخاطر، على أن يمول هذا التأمين عند تغطيته لكل السكان من مصادر ضريبية، ويمول التأمين ضد مخاطر العمل من اشتراكات العاملين، كما يمول تأمين إضافي للعاملين في الشركات من جهات عملهم وفقاً لمستويات أجورهم.
كما أشارت إلى أهمية تقديم ضمان اجتماعي للفقراء وفقاً لمعايير المساندة الاجتماعية للتعامل مع التقلبات والصدمات. يتطلب هذا إعادة تنظيم السياسات الضريبية ومؤسساتها لتحفيز التشغيل في القطاع الرسمي مع إجراء تعديلات مساندة في نظم الضمان الاجتماعي.
وجنباً إلى جنب مع هذه السياسات، دعت إلى تطوير قواعد العمل في السوق وتيسير إجراءاته؛ بما في ذلك استخدام الرقمنة مع الارتقاء بنظم الحوكمة والمنافسة العادلة.
وأثناء مشاركتي لمناقشة هذه الدراسة مع اثنين من مؤلفيها؛ هما جلاديس لوبيز أكيفيدو ونيشتا سينها، ومشاركة نادر محمد المدير الإقليمي بالبنك الدولي، وكريم العيناوي رئيس مركز السياسات من أجل الجنوب الجديد؛ تناولت عدة نقاط ألخص بعضها فيما يأتي:
إنه لا يمكن النظر لتطورات الاقتصاد غير الرسمي في البلدان النامية بمعزل عن أداء اقتصاداتها عموماً، بعد تعرضها لصدمات ومربكات وسوء إدارة بعضها للأزمات سببت تراجعاً في مدى تحقيقها لأهداف التنمية المستدامة، خصوصاً فيما يتعلق بمكافحة الفقر المدقع والبطالة والعدالة في توزيع الدخل والثروة؛ مع تدنٍ لمؤشرات التنمية البشرية وانخفاض معدل النمو الحقيقي في متوسطات الدخول خصوصاً مع ارتفاع معدلات التضخم وانخفاض الإنتاجية.
إن الانتقال السريع من الريف، والمناطق البدوية أيضاً، إلى الحضر من شأنه أن يبرز تحدياً في افتراضات تقليدية حول دور الأسرة الممتدة في مساندة أعضائها، خصوصاً في أوقات العسر والحاجة، كما يغير من شكل وطبيعة السوق غير الرسمية للعمل بما في ذلك بالنسبة لمشاركة المرأة.
إن الآثار المبدئية للتحول الرقمي والذكاء الاصطناعي لم يتم استيعابها بعد على سوق العمل الرسمية، وكذلك على الأسواق الموازية وغير الرسمية، بما في ذلك العمل غير المنظم والمتقطع مع تطور ظاهرة العاملين الرحل في العصر الرقمي.
إن القطاع غير الرسمي، أثناء تقلب الدورات الاقتصادية أظهر سلوكاً غير معتاد في أزمات سابقة، حيث لم يظهر القطاع غير الرسمي إمكانية لاستيعاب الآثار السلبية للجائحة؛ فقد أكدت دراسة لأوليفييه بيزمانا وشانت أرزومانيان الخبيرين في صندوق النقد الدولي عن القطاع غير الرسمي والدورات الاقتصادية، أن العمالة غير الرسمية تراجعت بشدة إبان الجائحة في عام 2020. بما يعني أن سوق العمل لم تلعب دور صمام الأمان في استيعاب العمالة المستغنى عنها من القطاع الرسمي.
إن المشروع الضخم للأمم المتحدة لمراجعة الناتج المحلي الإجمالي كمؤشر للأداء الاقتصادي والتنموي، ستكون له انعكاسات على كيفية إدراج بعض أنشطة القطاع غير الرسمي ومساهمة المرأة في الاقتصاد، بالإضافة إلى اعتبارات مهمة أخرى لقياس أداء اقتصاد الدولة المعنية.
فالناتج المحلي كمؤشر من حيث التصميم والهدف منه له مزايا نسبية محددة وقصور في أوجه أخرى لم يصمم لها، ولاستيعاب مدى التطور أو الإخفاق في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، بما في ذلك رأس المال الاجتماعي والتغيرات البيئية ورأس المال الطبيعي، ومحددات النمو الشامل للكافة.
وهناك حاجة لمراجعة المنهجية المتبعة في هذا المؤشر تحديداً، فضلاً عن ضم مؤشرات حيوية كأنها لوحة مفاتيح لسيارة يستعين بها قائدها، وهو ما ينبغي أن يكون متاحاً لصناع السياسات العامة ويستأنس بها عموم الناس في تفقد أحوال الاقتصاد والتنمية.
ولعل تجربة الدول الأسبق في التقدم الاقتصادي تمنح درساً مفيداً لمعضلة التعامل مع القطاع غير الرسمي؛ هل يُترك لتصاريف تطورات الاقتصاد والمجتمع بمرور الزمن؟ أم تكون الحكومات له بالمرصاد تضييقاً عليه أو ضمه عنوة للقطاع الرسمي؟ فمن أكثر الدول المتقدمة احتفاءً في الحضر برسمية ونظامية نشاطها الاقتصادي، كانت مرتعاً في الماضي لأنشطة اقتصادية غير رسمية بأنواعها المختلفة ولم يتبدل الحال إلى واقعها اليوم إلا بعدما أصبح قطاعها الرسمي رسمياً حقاً من حيث الكفاءة وانخفاض تكلفة الإجراءات وارتفاع مزايا الاندراج فيه. فما ألجأ الناس إلى البديل غير الرسمي في أسواق العمل والتجارة والائتمان إلا سوء ما يطلق عليه تجاوزاً اسم القطاع الرسمي في كثير من البلدان النامية.